تطوّر الأرشيف في الحياة الإسلاميّة: الأرشيف العثماني ودوره في استرداد الأوقاف
- البُعد الإيمانيّ هو الذي ينوّه به الواقفون عندما يختمون نصوص الحِجج الوقفيّة بالتذكير بالوعيد الإلهيّ الذي يمكن أن يلحق بمن اعتدى على الوقف أو غيّره أو بدّله أو فرّط فيه
- الدفاع عن الأوقاف وحمايتها واجبٌ شرعيّ والاعتداء عليها إثمٌ ونقيصةٌ ومخالفةٌ للشريعة واستجلابٌ لسخط الله
تُعدّ سِجلات الأرشيف العثماني المتعلقة بالوقف المصدر الأقدم والمرجع الأساس لكافة المعلومات المتعلقة بهذه الأوقاف، ليس منذ بداية تسجيلها في الوثائق العثمانية فحسب؛ بل وأحيانا كثيرة حتى قبل ذلك بعقود وربما لقرون؛ إذ إن الكثير منها تذكر المعلومات المتعلقة بالوقف قبل قدوم العثمانيين أيضاً، أي إن تاريخ الوقف بكامله تقريبا مسجل في هذه السجلات، مما يمكن للحقوقيين الاستفادة منها في سبيل استرداد الأوقاف المغتصبة، وكلها معلومات تساعد في دعم ملف الدعوى بأكبر قدرٍ من الأدلة الواضحة.
ومن المعلومات المتعلقة بالوقف ما يلي:- تاريخ الوقف ومتى كانت بداية الوقف من الناحية الزمنية وتاريخ تأسيسه وحتى ما كان يطرأ عليها فيما بعد.
- حدود الوقف وأين تبدأ وأين تنتهي من الناحية المكانية بدقة كبيرة، ومن ناحية المساحة والموقع ونوع العقار حينذاك، وحتى ما كان يطرأ عليها فيما بعد من تعديلات.
- ملكية الوقف وعائديته بدءًا من مؤسس الوقف وواهبه وأحياناً تؤرّخ لما قبل تأسيس الوقف، إذ تبين بعض الوثائق واقعةَ شراء الوقف أو هبته من صاحبه الأقدم قبل وقفه.
- أهداف الوقف وشروطه وجِهته، فتبيّن الوثائق الوقفيّة مقاصد الواقف وعلى من وَقَف وَقْفَه؟ سواءً أكان على الأفراد، أم الهيئات الاعتبارية من المستفيدين منها.
الأسس النّظريّة الدّافعة لاسترداد الأوقاف
هناك العديد من الأسس النّظريّة الدّافعة لاسترداد الأوقاف في الشّرع والقانون منها ما يلي:الأساس الأوّل:
الأساس الإيماني (الشرعي)
ما من شكّ في أنّ الدفاع عن الأوقاف وحمايتها واجبٌ شرعيّ، وأنّ الاعتداء عليها إثمٌ ونقيصةٌ ومخالفةٌ للشريعة واستجلابٌ لسخط الله، وفي الدّفاع عن الوقف والمحافظةِ عليه خاصّة، يقول الونشريسي: «وسُئل عن ناظر الأحباس هل يجب عليه تفقدها أم لا؟ فأجاب: تَطَوُّفُ ناظرِ الحبس وشهودُه وكتابةُ قباضه على ريع الأحباس أكيدٌ ضروريّ لا بدّ منه، وهو واجبٌ على النّاظر فيها، ولا يحلّ له تركه، إذ لا يتبيّن مقدار غلّاتها ولا عامرها ولا غامرها إلا بذلك، وما ضاع كثيرٌ من الأحباس إلا بإهمال ذلك، فيأخذ الناظر -وفقكم الله- بالكدّ والجدّ والاجتهاد». وقال علاء الدّين الطّرابلسي الحنفي: «لا يُولَّى إلا أمينٌ قادرٌ بنفسِه أو بنائبِه؛ لأنّ الولاية مقيَّدَةٌ بشرطِ النّظر، وليس من النّظر تولية الخائن، لأنّه يخلّ بالمقصود، وكذا تولية العاجز؛ لأنّ المقصود لا يحصل به».ضمان الأوقاف
وكذلك سُئل الحافظ أبو عمرو ابن الصّلاح الشّهرزوري -رحمه الله-: «فيمن كان سلطانَ بلدةٍ، وكان من أمرِه تخريبُ مساجدَ ورباطاتٍ وغيرِها من الأماكن الموقوفةِ والمملوكة بغير إذن مالكها، فهل يكون موجبًا لضَمَانِ ذلك لكونِه أمراً صادرًا من سلطانٍ لمأمورٍ من شأنِه الاسترسالُ فيما يأمره به السّلطان، والجري على الموافقة والامتثال من غير تمييز، ومثل ذلك أيضًا إكراهٌ، وهل إذا أمر بذلك شخصٌ ممّن يُنسب إلى السّلطان من أميرٍ أو شبهِ أميرٍ، يجب على هذا الآمر الضّمان لكونِ المأمور من طِباعه أيضًا الاسترسالُ إلى الموافقةِ والامتثال من غير تمييز، ويخشى منه أيضًا السّطوةَ عند المخالفة؟ فأجاب: نعم، يجب عليه ضمانُ ذلك أجمع، ويجب الضّمان أيضًا على من أمرَ بذلك ممّن انتسب إلى ذلك السّلطان من أميرٍ أو شبه أميرٍ، ووليُّ الأمرِ وفّقه الله -تعالى- مُؤاخَذٌ أشدّ مُؤاخذةٍ، ومُطالَبٌ أوجب مُطالَبةٍ برفع هذا الضَّرر، وبِجَبْرِ هذا الكسر، وهذه حقوقٌ مُحَقِّقُهَا الإيمانُ، وحارسُها السّلطانُ، فكيف يسمَح بأنْ تضيعَ ويَدَعَ الضّعيفَ والذي لا جهة له غيرها أنْ يَعْرَى، وإنْ ضُيّعت الآنَ -والعياذ بالله تعالى-، فسوف يؤدّيها الجاني عليها يوم فَقْرِهِ أفلسَ ما يكون وأَيْأَسَ ما يكون؛ حيث الأهوالُ تَحْتَوِشُه، وأنيابُ البَلايَا تنهَشُه، نسأل الله العافيةَ والعفو، وهو أعلم».إثباتُ الأرضِ للوَقْف
وممّا ورد في ذلك أيضاً: سُئل العلّامة خير الدّين الرملي الحنفي -رحمه الله-: «في أرضِ وقفٍ بقريةٍ، تغلّب عليها متغلِّبٌ وغرس فيها شجراً، وأثمرَ الشّجر، ومات المتغلِّبُ، فوضعَ أهلُ القريةِ يَدَهُم على الأشجارِ، هل للمتكلِّم على الوقفِ الدَّعوى عليهِم وإثباتُ الأرضِ للوَقْف ونزعُها من يدهم، ويلزمهم أجرةُ مثلها مدَّةَ التغلُّب، في تركته فتؤخذ منها ومدّة الفلّاحين فتؤخذ منهم؟ وهل تبقى الأشجار أم تُقلع؟ فأجاب: نعم، للمتكلّم على الوقف الدّعوى على المتعدّي بوضع يده على أرضِ الوقف، وإقامةُ البرهان عليه ورفعُ يده عن الأرض، ومطالبتُه بأجرةِ المثل مدّةَ وضع يده عليها بالغةً ما بلغت، وقلعُ الأشجار الموضوعةِ بغير حقّ ما لم يضرّ ذلك بالأرض، فإنْ ضرّ فهو المضيّع لماله، وأفتى بعضُ علماؤنا بتملُّكِها للوقفِ بأقلِّ القيمتَيْنِ؛ منزوعاً وغيرَ منزوعٍ، وهذا الذي ينبغي التعويل عليهِ، وفي «جامع الفصولين»: «ولو اصطلحوا على أن يُجعل للوقف بثمنٍ هو أقلُّ القيمتَيْن منزوعاً أو مبنيًّا فيه، صحّ»، والله أعلم.البُعد الإيمانيّ العميق
وفي الواقع فإنّ هذا البُعد الإيمانيّ العميق، هو الذي ينوّه به الواقفون من طبقات المجتمع كافّة، عندما يختمون نصوص الحجج الوقفيّة بالتذكير بالوعيد الإلهيّ الذي يمكن أن يلحق بمن اعتدى على الوقف أو غيّره أو بدّله أو فرّط فيه وساعد على ضياعه من النّاس، وهو الذي يؤسّس لمُطالَبَةِ السّلطة الحاكمةِ ممثّلةً بالقَضاء وأجهزةِ التّنفيذ، وكلّ ذي قُدرةٍ من المسلمين، بأنْ يدافعوا عن الوقف ويستنقذوا كلَّ وقفٍ تعرّض لاعتداءٍ أو انتهاك.قيام ناظر الوقف ببيعه
ويمكن أنْ نقرأَ هذا واضحًا في خاتمةِ هذا المطلب في فتوى العلّامة أبي السّعود العمادي الحنفي عندما سُئل: «في ناظرِ وقفٍ باعَ حمّامًا وقفًا لاحتياجِه إلى التّرميم مع مساعدة الوقف، من رجلٍ ذي قدرة وشوكةٍ، فاشتراه منه وقلع الحمام وبنى مكانه داراً، هل يصحّ البيع المزبور على الوجه المذكور أو لا؟ وبعد ذلك فما يلزم عليهما؟ فأجاب: أمّا النّاظرُ فلَزِمَه العزل، وأمّا ذو القُدْرَةِ فيلزَمُه قلعُ ما بناه وضمانُ قيمة ما قَلَعَه ودفعُه إلى متولّي مع ساحة الحمام، فإنّه لا قُدْرَةَ في مقابلةِ قدرة اللهِ -تعالى- لأحدٍ من خلقِه، (فتاوى أبي السعود) من الوقف.الأساس الثاني: الأساس القانوني
لا شكّ في اختلاف النُّظُم القانونيّة حول العالم وتغايُرها فيما بينها، وتنوّعها فيما يُعتمد لدى كلّ منها من طرائق الإثبات وأشكال البيّنات، غير أنَّ الوثائق المكتوبة، لا سيما تلك المدوّنة تحت إشراف رسميّ، هي من نوع البيّنات المقبولة من حيث المبدأ في كلّ النُّظُم القانونيّة في العالم، ومن هنا يمكن أنْ تتلخّص أهمّيّة الأرشيف الوقفي العثماني من وجهة النّظر القانونيّة في نقطتين أساسيّتين:- الأولى: أنَّ دوائر الأرشيف وأقلامه دقيقةُ التوثيق ومفصلة فيما يتعلّق بالأراضي والعقارات، دُوّنت فيها حركات البيع والشراء والإيجارات وعقود المُزارعة والمُساقاة والأوقاف الخيريّة والذّرّيّة والمختلطة، فتكون بذلك كاشفةً عن حالات انتقال الملكيّة والاستغلال المشروعةِ وغير المشروعة.
- الثانية: أنّ سجلّات الأوقاف خاصّة، المحفوظة في الأرشيف العثماني وفي سجلّات المحاكم الشرعيّة، حتى تلك المحفوظة في الأقطار المختلفة دون أن تُنقل إلى مقرّ الأرشيف في الجمهوريّة التركيّة، تحتوي على الحجج الوقفيّة الكاملة والمفصّلة لما لا يُحصى من الأوقاف، وهذا يفيدُ البيّنة الخطّيّة المكتوبة على وقفيّةِ عينٍ ما، ثمّ على مصارف ذلك الوقف وشروطِ واقِفِه والموقوف عليهم وغير ذلك مما يُحتاج إلى الكشف عنه.
لاتوجد تعليقات