رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: عيسى القدومي 21 أكتوبر، 2025 0 تعليق

تطوّر الأرشيف في الحياة الإسلاميّة: أهمّيّة الأرشيف في الدّولة العثمانيّة وتركيا الحديثة

  • التطور الذي شهدته الأوقاف في الدولة العثمانية انعكس إيجابًا على تفعيل دورها وتنويع مصادرها وعلى التنوع في مجالاتها والخدمات التي تقدمها
  • تحديث مؤسّسة الأرشيف وجعلِهَا مستقلّةً كان من جملةِ الإجراءاتِ التي تمليها نزعةُ التّحديث العامّة التي لقيت ما لقيت من الانتقادات في وقتها
 

ما زال حديثنا مستمرا عن الأرشيف العثماني وأهميته؛ حيث ذكرنا أنه من أهم مصادر التاريخ في العصر الحديث؛ لما فيه من وثائق ثمينة تتعلق بشتى جوانب الحياة المختلفة؛ ولأن فيه بناءنا الذاتي والفكري، وحتى نتناوله بالبحث والدرس، ونستفيد منه، وننقله إلى الأجيال القادمة، وكنا ذكرنا في الحلقة الماضية محتويات السجلات والوثائق العثمانية، وأهمية الأوقاف في الدولة العثمانية، واليوم نستكمل الحديث عن أثر تطور هذه الأوقاف.

الحقيقة أن التطور الذي شهدته الأوقاف في الدولة العثمانية، انعكس إيجابًا على تفعيل دورها وتنويع مصادرها وعلى التنوع في مجالاتها والخدمات التي تقدمها، ومن ذلك ما يلي: (1) أوقاف خاصة بأداء بعض الخدمات الدينية مثل المساجد والجوامع والمصليات والتكايا. (2) أوقاف خاصة بالتربية والتعليم مثل المكتبات والمدارس ودور العلم المتخصصة، مثل دور الحديث، ودور القرآن... إلخ (3) أوقاف خاصة بالمجالات المدنية والعسكرية مثل بناء المنازل الوقفية، والثكنات العسكرية والحدائق والمزارع والبساتين. (4) أوقاف خاصة بالأمور الاقتصادية مثل الأسواق الوقفية والمجمعات التجارية وأوقاف النقود. (5) أوقاف تؤدي وظائف اجتماعية معينة مثل المستشفيات ودور الشفاء ودور العجزة، ومساكن خاصة بإرضاع الأطفال. (6) أوقاف خاصة بخدمات المياه مثل الأسبلة، وبناء القنوات المائية. (7) أوقاف خاصة بالمجالات الرياضية. مثل أندية المصارعين، تكايا للرمي (أي تعليم رمي السهام، ومختلف أنواع الرياضات التي كانت متوافرة.

الإنفاق على الأوقاف

        وإذا ما أمعن الإنسان النظر في المبالغ المالية الكبيرة التي أنفقت على تلك الأوقاف، نعرف مدى التزام المجتمع بمبادئ الدين الإسلامي في التكافل الاجتماعي والالتزام الأخلاقي إزاء المجتمع، ابتغاء مرضاة الله -تعالى-، ويمكن التمثيل لذلك بمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة، فإضافة إلى القيمة النادرة للمخطوطات التي اشتراها في وقته بالذهب الأصفر، فإنه قد خصص لأمناء المكتبة والعاملين فيها رواتبهم بأن تدفع من ذلك الذهب الأصفر، وذلك تقديرًا منه على عدم تعرضهم للغين إذا ما نزلت قيمة النقود في وقت من الأوقات؛ حيث تبقى رواتبهم ثابتة، لأن الذهب يحافظ على قيمته في العادة، أما المجالات الوقفية التي اعتاد المسلمون لوقف أموالهم فيها أو عليها فهي معروفة.

قلم الديوان الهمايوني

        وقد جاء في الأمر الصّادر من السلطان عبدالحميد الأوّل (1774-1789) سنةَ (1785م) إلى رئيس كُتّاب الدّيوان الهمايوني ما يلي: «لمّا كانت الحاجة ماسّةً لأجزاء الرسائل الهمايونيّة العتيقة الموجودة في قلم الدّيوان الهمايوني ودفاتر المهمّة العتيقة ودفاتر أرباب المصالح، وكان إحضارها والرجوع إليها أمرًا ضروريًّا، وجبَ أن تُحفظ جميع الدفاتر القديمة من هذا القبيل في صناديقها دائمًا في المخزن المذكور، وبواسطة موظّفكم المعروف بـ (المهترباشي)، أمّا الرسائل الهمايونية والمكاتبات والمعاهدات وسائر دفاتر المهمّة الموجودة في الحال الحاضر، ودفاتر أصحاب المصالح والمعاملات الأخرى، فإنّها توضع أيضاً من طرف (المهترباشي) وتحت رقابته كلّ مساء في المخزن المذكور، وتُؤخذ كلّ صباح بواسطته ويتمّ تسليمها إلى الموظّفين الموجودين في القلم مع صناديقها، ويجب مراعاة هذا النّهج بصورة مستمرّة... ولا يُسمح لأحد من غير العاملين المكلّفين بهذا الأمر بالدخول إلى المخزن الذي تُحفظ فيه». يتضمّن هذا الأمر السلطاني عدّة نقاط، مثل: الإقرار بأهمّيّة هذا الأرشيف من جهةِ مرجعيّتِه للسّياسةِ السّلطانيّة الرّاهنةِ لحظةَ إصدار الأمر، كما تضمّن تحديدًا أكثر لمسؤوليّة الموظّفين عن الأرشفة، وأحاطَ أماكن حفظ الوثائق بدرجةٍ من السّرّيّة أو التحفّظ، يبدو أنّه أعلى ممّا كان يُراعَى سابقًا.

جدواها الحضاريّة وقيمتها

        ثمّ انتقل التوثيق إلى خطوةٍ يمكن أنْ تعدُّ أقرب إلى المعايير الحديثة في النّاحية الإجرائيّة، وشكّلت نقلةً جيّدةً في حفظ الوثائق العثمانيّة، حيث بدأ الالتفات الجادّ أكثر فأكثر إلى جدواها الحضاريّة وقيمتها، بعد الأمر الذي صدر إلى الصّدر الأعظم من ناظر الماليّة صفوتي باشا عام 1845م، على الرغم من أنَّ هذا الأمر قد تضمّن إجراءً مؤسفاً بإتلافِ جزءٍ من هذا الأرشيف؛ إذ جاء فيه: «من المعلوم أنَّ الأوراقَ الموجودة في الخزينةِ البهيّة التي يُحفظ بها الوثائق والدّفاتر المعتبَرة من (الأندرون الهمايوني) قد وصلت إلى درجةٍ من التّلف التامّ؛ لذا فقد تمّ لأجل الحفاظ عليها القيام بفرزها وفحصها واحدة واحدة بواسطة الموظّفين الذين عُينوا بطريقة خاصّة من خزينة الماليّة بغرض حفظها حفظا جيّد، وفصل ما يخصّ كلّ قلم على حِدَة، ووُضعت داخل الأكياس في العنابر التي أُقيمت حديثاً، وعدا هذه الأوراق والدّفاتر فقد ظهر قسمٌ آخر مهلهل تمّ وضعه في محلّ آخر، تحسّباً لأنها قد تكون لازمةً في المستقبل، ومن ناحية أخرى فإنّ قسمًا آخر من الأوراق الخاصّة بالأوجاقات المـُلغاة والدّفاتر القديمة وأوراق الجزيةِ التي نظنّ أنّه لا جدوى منها فيما بعد، نرجو أن تأذنوا إذا وجدتم ذلك مناسباً بإعدامها وحرقها في أفران السّراي».

إشارات مهمّة

         وفي هذا النّصّ أيضًا بعض الإشارات المهمّة مثل: خطورة ما كان اعترى الوثائق من التّلف الوشيك، الذي اعترى تغيير مكانها ونقلها إلى مكان أُعِدّ لها خصيصاً، ثمّ أخذ قرار بفحصها وإعادة فرزها، كما يتضمّن إشارةً إلى فكرةِ الأرشَفَة الموضوعيّة للوثائق وفرزها على أساس مضمونها وإلحاق كلّ وثيقةٍ بالقلم الذي يختصّ بها. كما يتضمّن هذا النّصّ قراراً مؤسفاً بشأن إتلاف وثائق لم يَرَهَا القائمون على الأرشيف في تلك اللّحظة بالأهمّيّة الكافية؛ لكي يُحافَظَ عليها، فقرّروا إتلافها، وقد لقي قرار الإتلاف الذي اقترحه ناظر الماليّة قبول الصّدر الأعظم على الأرجح، فقد أشارَ مُعِدُّو التقرير الشامل عن الأرشيف أنّ هذا الطّلب أُرفِقَت به إرادةٌ سنِيَّةٌ تتضمّن الموافقة على الإتلاف، على الرّغم من أنّ تلك المعلومات عن العسكريّة العثمانيّة والفِرَق المـُلغاة من الجيش، أو كُشُوفات الجزية، كانت ذات أهمّيّة كبيرة للباحثين الاجتماعيّين والسّياسيّين والعسكريّين اليوم، وأوضاع الطّوائف، ومقادير الجزية وحساباتها، وما يتعلّق بما يمكن أنْ يسمّى (الديموغرافيا العثمانيّة) في فتراتٍ مختلفة.

البداية الحقيقيّة للأرشفةِ

         على أنَّه وبكلّ الأحوال، يرى بعض الباحثين أنَّ هذه الخطوة ربما تُعَدّ البداية الحقيقيّة لأعمال الأرشفةِ والفرزِ والتبويبِ والترتيب التي تسارعت بعد ذلك، وما زالت مستمرَّةً إلى هذا اليوم، فبعد تلك الخطوة في فترة صدارة محمد أمين باشا، جاءت صدارة مصطفى رشيد باشا (1800 - 1858) الذي تولّى الصدارة مرّات متعدّدة في عهد السلطان عبدالمجيد خان الأوّل الذي تولّى السلطنة عام (1839م)، وشهدَ عصرُه حقبةَ التجديد والتنظيمات العثمانيّة المعروفة، والظّاهر أنَّ تحديث مؤسّسة الأرشيف وجعلِهَا مستقلّةً كان من جملةِ الإجراءاتِ التي تمليها نزعةُ التّحديث العامّة التي لقيت ما لقيت من الانتقادات في وقتها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك