
تحليل ودراسة – تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان
ذكرنا في المقال السابق أن الفتوى عظيم خطرها، بالغ أثرها على الأفراد والمجتمعات، وقد حذرنا ربنا -سبحانه- من التقوُّل في دينه بغير علم؛ فقال -تعالى-: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (النحل: 116)، وتحدثنا عن تعريف الفتوى والمفتي، وذكرنا الفرق بين الفرق بين المفتي والقاضي والشاهد، كما ذكرنا أيضًا واقعنا المعاصر وحال السلف مع الإفتاء، وكذلك حكم من تصدَّى للإفتاء، واليوم نفصل الكلام عن هذه القاعدة وهي تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان بين الإثبات والنفي.
ظاهر هذه المقولة مزلَّة للأقدام، ومضلة للأفهام، ومضيعة للعقول، وقد كثرت حولها الأقوال، وتضاربت الآراء ما بين مُفرِط متوسّع في إعمالها، ومُفَرِّط منكر لاستعمالها، ولعل تحرير محل النزاع وتفكيك العبارة وتدقيق النظر فيها مما يفيد في مثل هذا.
تحرير محلِّ النزاع
يمكن استخلاص محلِّ النزاع وتحريره في قبول مقولة: (تغيّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان) من خلال النقاط التالية:
(1) معنى (تغير الفتوى): هو إبدال الحكم الشرعي في المسألة المستفتَى فيها من المشروعية إلى عدمها، أو بالعكس، وهذا التغيير قد يكون غير جائز شرعًا، ومثاله: أن النصوص القاطعة من الكتاب والسنة قد جاءت بتحريم الخمر والربا؛ فهذا الحكم مما لا يجوز تغييره بحال، ولا يقبل من أحد إباحة ما حرم الله -تعالى- بدعوى تغير الزمان أو المكان.
وقد يقع من المفتي تغيير لفتواه لسبب من الأسباب، ومثاله: الخمر حرام بالنص، فإذا اختلف اجتهاد المفتي في كون هذا المسؤول عنه هل هو خمر أم لا، فاجتهد وغلب على ظنه أنه خمر قال بحرمته، ثم إذا تغير اجتهاده وتبين له أنه ليس بخمر فإنه يقول بإباحته، وهذا المثال ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) بقوله: «كما حرم الله الخمر والربا عمومًا، يبقى الكلام في الشراب المعين، هل هو خمر أم لا؟».
(2) تنقسم الأحكام من حيث قابليتها للتغير بعد انقطاع الوحي إلى قسمين:
أ- أحكام ثابتة غير قابلة للتغيير ولا للتبديل مهما اختلف الزمان والمكان، وذلك مثل الإيمان بالله -تعالى- وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وإثبات عموم رسالة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، ووجوب الواجبات الشرعية بالنص كالطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج، وتقدير الأنصبة والمقادير في الزكاة والمواريث، وتحريم المحرمات بالنص كالكذب والسرقة والربا والزنا واللواط والخمر والخنزير والميتة والسحر ونكاح المحارم، والعقوبات المقدَّرة على الجرائم كالجلد للزاني غير المحصن، والرجم للزاني المحصن، وقطع يد السارق، ومكارم الأخلاق كالصدق والوفاء والصبر ونحو ذلك.
ب- أحكام قابلة للتغيير والتبديل، كالأحكام المعلقة على علل وأوصاف؛ فإنها تتغير بتغيرها؛ إذ الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وكالتغير الحاصل بسبب تحقيق المناط أو عدمه، أو التغير الحاصل بتعليق الحكم في المسألة على مراعاة المصلحة أو العرف، فتتغير الفتوى تبعًا لتغير المصلحة أو العرف، أو التغير الحاصل بتغير حال المفتي أو المستفتي، ونحو ذلك.
الأحكام الشرعية
وفي بيان هذا التقسيم يقول الزركشي (ت 794هـ): الأحكام الشرعية نوعان:
نوع ثابت بالخطاب لا يتغير كالوجوب والحرمة، فالتغير في هذا النوع من الأحكام لا يكون إلا بالنسخ، ونسخ الأحكام لا يكون إلا من الله -تعالى.
نوع معلق على الأسباب، وهي الأحكام التي ثبتت شرعًا معلقة على أسبابها، فهذا النوع من الأحكام يتغير بتغير الأسباب، فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فيتغير بتغير العلة.
(3) إذا كان المراد بأن الفتوى الشرعية تتغير بسبب تغير الزمان والمكان بغض النظر عن تغير مناط الحكم -أعني: العلة التي بني عليها الحكم الشرعي- أو غير ذلك من الأسباب المفضية إلى تغيير الفتوى، فهذا لا يكون شرعًا، ويعدّ طعنًا في صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، كما أنه يفتح بابًا للتلاعب والإفساد في الدين ونشر البدع.
(4) إذا كان المراد بأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان التابعين لتغير مناط الحكم، أو تحقيقه، أو تغير العوائد المعلق عليها الحكم، أو غير ذلك مما علق عليه الحكم، فإن هذا الكلام صحيح، وهو المعنى الذي اتفق عليه جمهور الفقهاء، وحكى بعضهم الإجماع عليه كما سيأتي، وعليه فالمعنى المراد حينئذٍ: أن تغير الفتوى راجع إلى تغير السبب الذي علق عليه الحكم، بمعنى: أن السبب المؤثر في تغيير الفتوى في هذه الحالة إنما هو تغير مناط الحكم أو تحقيقه أو غير ذلك من الأسباب المؤثرة في تغير اجتهاد المفتي، وليس السبب في تغير الفتوى هو الزمان أو المكان؛ إذ الزمان أو المكان في تلك الحالة ظرف للحكم، وليس منشئًا له.
وفي هذا المعنى يقول الإمام السبكي (ت 756هـ): قد يحصل بمجموع أمور حكمٌ لا يحصل لكل واحد منها، وهذا معنى قول مالك: «يحدث للناس أحكام بقدر ما يحدث لهم من الفجور»، فلا نقول: «إن الأحكام تتغير بتغير الزمان، بل باختلاف الصورة الحادثة، فإذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا أن ننظر فيها، فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكما».
ويزيد الزركشي هذا المعنى وضوحًا بقوله: “نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال: يحدث للناس في كل زمان من الأحكام ما يناسبهم، وقد يتأيد هذا بما في البخاري عن عائشة أنها قالت: «لو علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أحدثته النساء بعده لمنعهن من المساجد»، وقول عمر بن عبد العزيز: «يحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور» أي: يجددون أسبابًا يقضي الشرع فيها أمورًا لم تكن قبل ذلك؛ لأجل عدمه منها قبل ذلك، لا لأنها شرع مجدد، فلا نقول: إن الأحكام تتغير بتغير الزمان، بل باختلاف الأمر الحادث.
شرح العبارة
اعتدَّ جمهور العلماء بهذه العبارة، وجعلوها قاعدة فقهية بالضوابط التي مرت الإشارة إليها، وتوسَّع بعض المعاصرين في تفسير تلك العبارة، وأدخلوا فيها ما أرادوا من أحكام، وأتبعوها للمصلحة المتوهَّمة عندهم، وبيان الأمرين فيما يلي:
(1) الفهم الصحيح للعبارة
بناء على ما تقدم -من أن مناط إعمال هذه المقولة إنما هو في تغير الفتوى بسبب تغير الأسباب المؤثرة في تغير الحكم، وليس بسبب تغير الزمان أو المكان- فقد عدَّ بعض العلماء هذه العبارة قاعدة شرعية مندرجة تحت قاعدة: (العادة محكمة)، وأرجعه بعضهم إلى الأحكام المرتبة على العوائد، وجعله تحقيقًا مجمعًا عليه، ودونك بعض ألفاظهم:
- لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان.
يقول علي حيدر (ت 1353هـ) في شرحها: «إن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة؛ لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس، وبناء على هذا التغير يتبدل أيضًا العرف والعادة، وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام -حسبما أوضحنا آنفًا-، بخلاف الأحكام المستندة على الأدلة الشرعية التي لم تُبن على العرف والعادة، فإنها لا تتغير.
مثال ذلك: جزاء القاتل العمد القتل، فهذا الحكم الشرعي الذي لم يستند على العرف والعادة لا يتغير بتغير الأزمان.
أمَّا الذي يتغير بتغير الأزمان من الأحكام فإنما هي المبنية على العرف والعادة، كما قلنا، وإليك الأمثلة: كان عند الفقهاء المتقدمين أنه إذا اشترى أحد دارًا اكتفى برؤية بعض بيوتها، وعند المتأخرين لا بد من رؤية كل بيت منها على حدته، وهذا الاختلاف ليس مستندًا إلى دليل، بل هو ناشئ عن اختلاف العرف والعادة في أمر الإنشاء والبناء.
- الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت.
وقد ضرب لها القرافي أمثلة مع شرحها فقال: «كالنقود في المعاملات، والعيوب في الأعراض في البياعات، ونحو ذلك، فلو تغيرت العادة في النقد والسكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في البيع عند الإطلاق على السكة التي تجددت العادة بها، دون ما قبلها، وكذلك إذا كان الشيء عيبًا في الثياب في عادة رددنا به المبيع، فإذا تغيرت العادة وصار ذلك المكروه محبوبًا موجبًا لزيادة الثمن لم ترد به، وبهذا القانون تعتبر جميع الأحكام المرتبة على العوائد، وهو تحقيق مجمع عليه بين العلماء لا خلاف فيه، بل قد يقع الخلاف في تحقيقه هل وجد أم لا؟».
توضيح وبيان
جاءت بعض ألفاظ هذه القاعدة عامة، وبعضها مقيدة، والذي اتفق عليه العلماء هو أنها مقيدة بالأحكام الاجتهادية، ولهذا التغيير أسبابه المعتبرة شرعًا، يقول الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه اللَّه-: «وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، أي: التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، وهي المقصودة بالقاعدة الآنفة الذكر: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان).
تحقيق المناط هو المراد
تحقيق المناط هو المراد بتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان: بتدقيق النظر في معنى قولهم: (تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان)؛ فإنه يمكن إرجاع القاعدة إلى تحقيق المناط؛ فإن المفتي مأمور ببذل وسعه واستفراغ طاقاته لاستخراج الحكم الشرعي، وهو ما يطلق عليه الاجتهاد، وهو لا يخرج عن أمور ثلاثة: تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط. يقول أبو علي العكبري الحنبلي (ت 428هـ): «والاجتهاد بذل الوسع في طلب الغرض، وهو على ثلاثة أضرب: تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط»، وهذه الثلاثة هي جماع ما يقوم به المجتهد والمفتي لاستخراج الحكم؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ): وهذه الأنواع الثلاثة هي جماع الاجتهاد.
لاتوجد تعليقات