
بعد مرور عام على سقوط القذافي ليبيا إلى أين؟!
في العشرين من الشهر الجاري يكون قد مر على سقوط معمر القذافي ومقتله عام كامل؛ حيث قتل في مدينة سرت (مسقط رأسه) عن عمر يناهز 69 سنة في 20 أكتوبر 2011- مراحل مختلفة مرت بها الثورة الليبية منذ انطلاقها في 17 فبراير 2011 وانتهاءً بمقتل القذافي الذي أنهى سقوطه أطول فترة حكم ديكتاتوري في المنطقة استمرت 42 عامًا، ورغم التصور بأن سقوط القذافي وإنهاء حكمه كان بداية الاستقرار في ليبيا، إلا أن الأوضاع لم تكن بهذا اليسر، ولم يشهد الشعب الليبي كثيرًا من النتائج التي تسعده أو ترضيه كما كان يتخيل، بل على النقيض شعر هذا الشعب بشيء من خيبة الأمل تجاه تحقيق المستقبل الأفضل الذي طمح إليه والذي وعده به (الناتو) عندما «حشر أنفه» في القضية.
حلم لم يتحقق
حلم الليبيون ببلد جديد توزيعاً فيه الثروة توزيعها عادلاً على الشعب قليل العدد ليعيش في نعمة بفضل عائدات النفط، ولكنهم بعد عام ونصف تقريبًا من انطلاق الثورة لم يجدوا إلا الشكوى من ارتفاع أسعار السلع وعدم نظافة الشوارع والبطالة وغياب الأمن.
حلم الليبيون ببلد آمن خالٍ من الفوضى والاضطهاد والمتابعات، لكن الاضطرابات ما زالت مستمرة ولا تبدو نهايتها وشيكة؛ إذ تقع اشتباكات بين جماعات مسلحة من حين إلى آخر في مدن ليبية مختلفة، ويشكل الانتشار العشوائي للأسلحة تهديدًا لأمن البلد وجيرانه، وقد رفض بعض من شاركوا في الثورة تسليم أسلحتهم والإذعان للحكومة المركزية، بل ذهب بعضهم إلى اقتحام المباني الحكومية في مدن مثل العاصمة طرابلس احتجاجًا على عدم تلبية طلباتهم، كما تشهد المناطق الحدودية الليبية حركات تهريب أسلحة واسعة؛، حيث أعلن الجيش الجزائري مؤخرًا عن مصادرة كميات كبيرة من الأسلحة المختلفة القادمة من ليبيا، وتخشى دول المنطقة والمجتمع الدولي أن تقع مثل هذه الأسلحة في أيدي إرهابيين ومتمردين؛ الأمر الذي سيؤدى إلى تدهور الوضع الأمني الهش أصلاً في بعض دول الجوار.
أزمة بني وليد والصراعات القبلية
تمثل أزمة بني وليد أحد المؤشرات القوية على أن الأوضاع في ليبيا تسير إلى مزيد من التأزم؛ حيث ما زالت مواجهات عسكرية مفتوحة تدور رحاها بين القوات الحكومية بمساندة ثوار مدينة (مصراتة) ومقاتلي قبيلة (ورفلة) والتي اندلعت منذ فترة مسفرة عن سقوط عشرات القتلى والجرحى أغلبهم من الميليشيات المسلّحة التي تحاصر مدينة بني وليد.
ويُجمع العديد من المراقبين على أنّ رقعة المعارك مؤهلة للاتساع بعد إعلان عدد من القبائل الليبية دعمها قبيلة (ورفلة) المعروفة بتحالفاتها التاريخية مع قبائل مؤثّرة في المشهد الاجتماعي الليبي على غرار (ورشفانة) التي تحيط بالعاصمة طرابلس من ثلاث جهات و(ترهونة) المجاورة لمدينة بني وليد من جهة الشمال و(المقارحة) ذات الامتداد الواسع في الجنوب ولا سيما في مدينتي (براك الشاطئ)، و(الشويرف)، وقبيلة (الصيعان) الموجودة في سفوح الجبل الغربي إلى الشمال لا سيما في مدينتي ( بدر )، و(تيجي )، وقبيلة (القذاذفة) التي توجد مضاربها في بادية سرت شمالاً، وفي مدينة سبها جنوبا.
وقال موسى إبراهيم مسؤول الإعلام الخارجي في نظام العقيد المقتول معمّر القذافي: إنّ قبيلة (ورفلة) مستهدفة سياسيًا واجتماعيًا وإعلاميًا نظرًا لدورها الكبير في المجتمع الليبي، لافتاً إلى أنّ محمود جبريل دفع ثمن انتمائه لهذه القبيلة، وأنّ ثوار مصراتة والجماعات المتشددة هم من حالوا دون وصوله إلى الحكم».
تحذير من وقوع فتنة
وفي هذا السياق دعا حزب العدالة والبناء الليبي في بيان له جميع الأطراف المحلية بعدم الانجرار نحو الفتنة فيما يخص أزمة بني وليد، مطالبًا وزارتي الداخلية والدفاع بالإفصاح عن إجراءاتهما المتخذة تجاه المدينة، وقال الحزب في بيانه: «ندعو جميع الأطراف للالتزام بالشرعية وعدم التحرك إلا تحت لواء الدولة بمؤسساتها ذات الاختصاص، وعدم الانجرار وراء أصوات الفتنة والفوضى».
حكومة هشة في مواجهة الجماعات المسلحة
كان من أهم التحديات التي واجهت السلطات الليبية تنامي الجماعات والميليشيات المسلحة وهو ما أدى بها إلى اضطراب في اتخاذ القرار تجاه هذه المشكلة، لا سيما بعد وقوع الهجوم على السفارة الأميركية وأعقبه تظاهر الليبيين في بنغازي، فاضطرت السلطات إلى اتخاذ قرار بنزع سلاح كل الجماعات التي لا تخضع للدولة، لكن هذا القرار يحتاج إلى توافق سياسي لا يزال في بدايته، ومؤسسة عسكرية صلبة لا تزال مفقودة.
منعطف السفارة الأميركية
مثل حادث الهجوم على القنصلية الأميركية ومقتل السفير الأميركي (كرستوفر ستيفنز) نقطة تحول في حالة المراوحة بين المجموعات المسلحة وسلطة ثورة 17 فبراير، ولم يقتصر التحول على الخطاب الرسمي الذي صار صريحًا وقويًّا في نقدها، بل حتى على مستوى القرارات؛ حيث صدر قرار حكومي بحل كافة التشكيلات المسلحة، وتسلم المقرات التي تشغلها ومصادرة أسلحتها.
لكن ساحة الفعل تختلف عن منابر التصريح ودوائر اتخاذ القرارات، فقد ظهر تخبط المؤتمر الوطني والحكومة الانتقالية في التعامل مع الجماعات المسلحة، وظهر الارتباك في التصريحات الرسمية فيما يتعلق بتصنيف الكتائب بين المعنية بترك السلاح والمسموح لها بحمله؛ الأمر الذي أغضب الرأي العام، ويتكرر هذا عند الحديث عن أنصار الشريعة؛ حيث يشار إليها بأصابع الاتهام من قبل مسؤولين، فيما يثني على إسهامها في حفظ الأمن آخرون منهم.
الميليشيات تهدد آمال الليبيين
وفي هذا السياق عرضت منظمة العفو الدولية تقريرًا حول ليبيا بعنوان: «الميليشيات تهدد آمال ليبيا الجديدة» يؤكد ارتكاب المتمردين السابقين انتهاكات لحقوق الإنسان، بعد سنة ونصف تقريبًا على اندلاع الثورة؛ حيث أكدت المنظمة أن انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها ميليشيات المتمردين السابقين – على حد وصفها - «دون عقاب» تهدد الآمال في ليبيا جديدة، وقالت (دوناتيلا روفيرا) المستشارة الخاصة لمنظمة العفو الدولية: « قبل سنة ونصف تقريبًا جازف الليبيون بحياتهم من أجل المطالبة بالعدالة، لكن آمالهم اليوم معرضة لخطر ميليشيات مسلحة لا تحترم قانونًا ولا معتقدات وتدوس حقوق الإنسان دون أي عقاب»، وأعلنت (روفيرا) أن «معظم ميليشيات ليبيا خارجة عن السيطرة ويشجعها الإفلات من العقاب على ارتكاب مزيد من أعمال العنف ما يزيد في انعدام الاستقرار والأمن في البلاد».
الـحكومة والتعامل مع الـمسلحين
رأت صحيفة (الجارديان) البريطانية في تقرير لها أنه بعد مرور أكثر من عام على الثورة الليبية أصبحت الحكومة التنفيذية الهشة مشكلة وليست حلاً للمواطنين الليبيين.
وقالت الصحيفة: يوحي المشهد الليبي بالتفتت؛ حيث يوجد في ليبيا حوالي 500 مجموعة مسلحة تسير كل منها حسب نظامها، وقد أعدت منظمة العفو الدولية تقريرًا عن انتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا بعد الحرب، أظهر استمرار استخدام التعذيب والاحتجاز غير القانوني وسجلت المنظمة 12 حالة وفاة داخل سجون الميليشيات منذ سبتمبر الماضي يعد مصدرًا للقلق.
وأضافت أن المشكلة ليست في أن هذه الميليشيات ليست خارجة عن السيطرة، ولكن في عدم وجود آلية لترويض الأقلية التي ترتكب انتهاكات لحقوق الإنسان، وأن انعدام السيطرة المركزية ينذر بوقوع كارثة؛ حيث إن هذا الانعدام الأمني في أنحاء ليبيا يعني أنه لن يتم إنجاز أي شيء.
ويرى مراقبون سياسيون أن المجلس الوطني الليبي (البرلمان) تأخر كثيرًا في اتخاذ قرار بشأن الميليشيات المسلحة، وتوقع هؤلاء المراقبون حدوث معارك مسلحة قاسية بين الجيش الليبي وتلك الميليشيات؛ لأنها لن تلتزم بتسليم أسلحتها للسلطات الليبية، ولن تفكك أنفسها، والأخطر من ذلك أن بعض هذه الحركات المسلحة أعلنت استقلال بعض المناطق الليبية عن الدولة ووقوعها تحت سيطرتهم وسيادتهم.
وفي هذا السياق قال د. خالد عمارة نائب مساعد وزير الخارجية المصري للعلاقات الدولية الأسبق، إن المجلس الانتقالي الليبي السابق بقيادة مصطفى عبد الجليل، تساهل كثيرًا مع الحركات المسلحة، موضحًا أن الجماعات المسلحة تستطيع أن تصعد وتهدئ الاحتجاجات والتظاهرات في البلاد إذا أرادت، وقد يسهم قرار رئيس المؤتمر الليبي بحل المليشيات المسلحة في حدوث اضطرابات عنيفة داخل البلاد في حال استخدام القوة من جانب القوات المسلحة الليبية، والأفضل كان التفاوض مع هذه الحركات حتى تضع سلاحها جانبا؛ لأن قادة ليبيا عليهم ألا ينسوا أن هؤلاء الثوار أصحاب فضل في جلوسهم على مقاعد السلطة.
وضع انتقالي خطر
من ناحيته أوضح د. عبد الله الأشعل أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية، أن الوضع الليبي الآن هو وضع انتقالي خطر بسبب التسلح العسكري الثقيل أثناء الثورة الليبية من جانب القبائل، والثوار، والجماعات الإسلامية المسلحة؛ ولذلك تحتاج المرحلة الانتقالية الليبية إلى جهود كبيرة ووقت ليس بالقليل لترسيخ قيم الثقافة المدنية والديمقراطية بعيدًا عن أعمال العنف والمراوغات العسكرية مع السلطات.
المرتزقة وتفتيت المجتمع الليبي
من جانبه أشار د. محمد السعيد إدريس المحلل السياسي والباحث في الشؤون العربية، إلى أن الحركات والجماعات الإسلامية بكل تشكيلاتها تمثل صحوة إسلامية في ليبيا، وتتأثر كثيرًا بما يحدث داخل جارتها مصر وتستفيد جيدًا من التجربة المصرية، مؤكدا أن مشكلة فوضى السلاح وتشكيل مليشيات مسلحة تهدد قيام نظام ليبي جديد، وستدخل البلاد في حرب أهلية مع قوات الجيش النظامي، وعلى الثوار الليبيين دعم بلادهم؛ لأن الكثير من المخربين والمرتزقة دخلوا البلاد ويريدون تفتيتها، موضحا أن الثوار لو أرادوا الاحتفاظ بأسلحتهم عليهم الانضمام إلى الجيش النظامي الليبي أو قوات الأمن الداخلي الليبية، موضحًا أن تلك المليشيات تضع نفسها فوق القانون، وهي المسؤولة عن انتشار أعمال الفوضى المسلحة، والشعب الليبي لن يبدل طغيان حاكم مستبد، بطغيان غياب القانون.
حراك سياسي وعسكري
أما د. حسن نافعة أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، فقال: إن الساحة الليبية تشهد حراكًا سياسيًا وعسكريًا برز فيه الإسلاميون بروزاً كبيراً بعد عقود من الفراغ السياسي، والخطر في ذلك أن ليبيا تواجه خطرًا إسلاميًا مسلحًا، مطالبًا أعضاء المؤتمر الوطني الليبي العام بالإسراع في إصدار القوانين التي تُجرم حمل السلاح وتُدين التعرض للمواطنين الأبرياء، أو التعدي على المقدسات الدينية والسفارات الأجنبية؛ حفاظًا على استمرار نهضة البلاد وترسيخ النظام الديمقراطي في البلاد، بدلاً من حل الميليشيات بالقوة العسكرية التي لن يقابلها إلا رد عسكري من جانب هذه الجماعات المسلحة، مؤكدًا أن الصراع الشعبي بعد صعود الليبراليين لم يعجب التيارات الإسلامية تحديدًا، لا سيما أنهم جمعوا الكثير من السلاح الخفيف والثقيل بعد سقوط النظام الليبي السابق ووقع في أيدي أعضائهم ولن يتخلوا عنه بسهولة كما يتصور بعضهم.
الجماعات المسلحة يبن الترويض والاحتواء
وأخيرًا لا شك أن الأوضاع في ليبيا تسير من غموض إلى غموض لا سيما فيما يتعلق بالملف الأمني، وطريقة تعامل الحكومة الليبية معه، مما قد ينذر بخطر عظيم إذا ما اتجهت الأوضاع في ليبيا إلى مواجهات بين الأطراف المتصارعة، قد تفضي في النهاية إلى حرب أهلية أو إلى تقسيم البلاد لا قدر الله، ولا بد للحكومة أن تستفيد من تجارب دول الجوار في التعامل مع هذا الملف وعدم تكرار أخطاء تلك الحكومات، فقد أشارت العديد من الدراسات التي عُنِيت بالتعامل مع المجموعات المسلحة -أو كما يقال (المتشددة)- إلى خطأ سياسات الحكومات العربية التي دخلت في مواجهات مع هذه الطوائف واعتمادها على خيار واحد، وهو الخيار الأمني، الذي يبدأ بالعنف وينتهي بالاحتواء القاصر والقائم على الترغيب وشراء الذمم.
لذا فإنه (من الضروري الالتجاء إلى الوسائل الفكرية، والبدائل الإنسانية التي تأخذ في الاعتبار ضرورة الحوار مع هذه الجماعات) وتفهم مواقفها والحكمة في التعامل معها.
وهذا الخيار يعني أن مهمة احتواء هذه الميلشيات ليست مستحيلة، بل ينبغي إدراك أن توجيه حركتها ونشاطها إلى نمط أكثر سلمية واعتدالاً هو مهمة سهلة ويسيرة، وعلى الحكومة الليبية الجديدة مراعاة المسائل التالية عند وضع برامج عملية للتعامل مع هذه الجماعات والميلشيات:
1. عدم إغفال دورها الأساس في تحرير البلاد من قبضة النظام، وإسهامها في المحافظة على أمن المدن، والانطلاق من فرضية أنهم ليبيون يمكن أن تتحول طاقاتهم إلى عمل نافع يسهم في رقي البلاد وتطورها.
2. أن منطق الإقصاء والإبعاد يفاقم من ظاهرة تشددهم وعنادهم؛ ولذا يكون من الأجدى التعامل بمنطق الشراكة الوطنية والمواطنة الفعالة التي عليها تقوم الدول، وبموجبها تتأسس نظم الحكم الحديثة.
3. في ظل ضعف الجيش والأجهزة الأمنية، لا إمكانية لمواجهة هذه التيارات، هذا علاوة على أن الحسم الأمني هو في الحقيقة علاج مؤقت ثبت فشله.
4. حث تلك الجماعات والميليشيات على التحول إلى مؤسسات مدنية تعبّر كيف شاءت عن أفكارها سلمياً، ويتطلب ذلك تبني إستراتيجية متعددة الآجال، الطويل منها والقصير، تتضمن تطوير مناهج التعليم، وتطوير وسائل الإعلام، وتحقيق العدل الاجتماعي والاقتصادي والشفافية والمحاسبة ومحاربة الفساد، وحفظ الحقوق السياسية والمدنية واحترام القيم والمبادئ الإسلامية، وتضمين كل ذلك في الدستور.
5. إعادة نشاط الجامعة الإسلامية التي أسسها الملك الراحل محمد إدريس السنوسي، وصارت صرحًا علميًّا عالميًّا، ويكون لها فروع في المحافظات الليبية المختلفة، وتوفير كافة أوجه الدعم لها لتكون صرحًا علميًّا يُهتدى به، وحتى يكون لها الدور في إعادة صياغة وتشكيل الشخصية الليبية بكافة مكوناتها الثقافية والاجتماعية والدينية والعلمية والحضارية.
لاتوجد تعليقات