
الوقف الإسلامي وصنائعه الحضارية – الوقف الإسلامي ومسيرة الحياة
- كانت الأوقاف تقوم بدور الوزارات وتقدم الخدمات على أكمل وجه ومنها: أوقاف خصصت للعبادة وإقامة الصلاة وأوقاف خاصة بالتربية والتعليم كالمدارس ودور الحديث
- الوقف الإسلامي أنتج حضارة إسلامية لا تزال بعض آثارها العملية ماثلة أمامنا ما يدعونا ذلك للدفاع عنه بكل ما أوتينا من قوة ونحييه من جديد
توافرت الأوقاف في العهود الإسلامية، وكانت حاضرة في حياة الإنسان من مهده إلى لحده، سواء كان فقيرًا أم غنيا، ملازمة له منذ ولادته إلى وفاته، فيولد المولود في منزل وقفي (رباط مخصص للولادة) على يد القابلة التي تتقاضى راتبًا من أموال الوقف، هي باذلة جهدها لله -سبحانه وتعالى- تساعد الأمهات على الولادة، وينام المولود في مهد وقفي، ويأكل ويشرب من أموال الوقف -إن كان من أهل الحاجة-، وعندما يبلغ بضع سنين يلتحق بالكتاتيب التي هي أوقاف، ويتقاضى شيخه ومعلمه راتبه من أموال الوقف.
ويلتحق بعد ذلك الطالب بالمدارس الوقفية، والتعليم كان وقفًا كله، ويصرف لتشغيله من أموال الوقف، ولا تدفع دولة الخلافة قرشًا واحدًا على التعليم، وعندما يقرأ كانت الكتب الموقوفة والتابعة للأوقاف هي المتوافرة بين يديه، ويكتب في ورق الأوقاف، والحبر يصرف من وقف خصص لذلك. وخلال مسيرة حياته يصلي الفتى في بيوت الله (المساجد) التي هي وقف لله -سبحانه وتعالى-، ويكون مأمومًا وراء إمام يتقاضى مخصصاته وتكاليف معيشته من أموال الوقف، ويسمع الدروس والخطب في المساجد من أهل العلم والفقه الذين تكفل برعايتهم الوقف، وحينما يشتد عوده ويكون مهيأ للعمل والنتاج، فالمؤسسات الوقفية والمشاريع التنموية الوقفية تقدم فرص العمل وتكون حاضرة أمامه؛ حيث كان ما يقارب الـ (30%)، وفي بعض الأحيان تصل النسبة إلى (50%) من القوى البشرية تعمل في المجال الوقفي ودائرة الوقف. وعندما يمرض فإن (البيمارستانات) الوقفية (المستشفيات) هي التي كانت تعالج المرضى وتوفر لهم الدواء بالمجان، والطبيب المعالج والكادر الذي يتبعه يتقاضون راتبهم من ريع الأوقاف، التي خصصت لتشغيل تلك المستشفيات. ويشرب خلال مسيرة حياته -أحيانًا كثيرة- من أسبلة، ويتوضأ من متوضآت في المساجد والميادين، أوقفها الواقفون قصداً في الأجر من الله -سبحانه وتعالى-، ونفع الآخرين، وعندما تحدث له ضائقة مالية فإن من الأوقاف ما خصص لتفريج الكروب وسد الديون، وحفظ كرامة الإنسان. وحين تنقُّله بين المدن والقرى، أو حينما يقصد الحج إلى بيت الله الحرام فإن (التكايا) والاستراحات والآبار الوقفية موزعة في الطرق وأماكن تجمع المسافرين، وما زال بعضها قائماً وإلى الآن ينتفع بها الناس. وعندما يحين أجله ويتوفاه الله -سبحانه وتعالى- فإنه يُنقل من بيته إلى المغسلة بعربات وقفية، ومغسلة حبست وأوقفت لله -سبحانه وتعالى-، ويغسِّله المغسِّل الذي يتكفل بمعيشته الوقف، ويُـحمل ويوضع في تابوت وقفي، ويكفن بكفن من أموال الوقف، ويُصلِّـي عليه المشيعون بإمامة إمام يتقاضى راتبه من الوقف، ويوارى في التراب في مقبرة وقفية، كل من يعمل فيها يتقاضى راتبه من الأوقاف. بل كانت الأوقاف تقوم بدور الوزارات المتعددة، وتقدم الخدمات على أكمل وجه، ومنها: أوقاف خصصت للعبادة وإقامة الصلاة، كالمساجد والجوامع ومصليات العيدين، وأوقاف خاصة بالتربية والتعليم، كالمدارس ودور الحديث، والكتاتيب، والحلقات الفقهية، ومساطب العلم، ودور القرآن وأوقاف خصصت للمجالات الاجتماعية التنموية، كبناء المساكن للفقراء، والحدائق والبساتين والآبار، وأوقاف خاصة بالأمور الاقتصادية، كالأسواق الوقفية والحمامات والفنادق، وأوقاف النقود، وأوقاف خصصت ليصرف من ريعها على إقامة الثغور والثكنات العسكرية، وتصنيع السلاح، وفكاك الأسرى، وأوقاف للعلاج، كالمستشفيات، ودور العجزة، والصيدليات والمختبرات، وأماكن النقاهة للمرضى، وأوقاف خصصت للتدريب والتطوير، ولا سيما للأيتام، وكذلك أوقاف للتدريب على الفروسية والرماية، وإجادة فنون القتال، ومختلف أنواع الرياضات التي كانت متوافرة والحاجة شديدة للتدريب عليها.ما أروع تلك الأوقاف !
فما أروع تلك الأوقاف وما قدمته من خدمات جليلة! نعم، إلى هذا الحدّ كانت الأوقاف مؤثّرة في الحياة العامّة في المجتمع الإسلامي، ولا يشكّ عارفٌ بالتاريخ المفعم بالرّوح الإسلامية في أنّ استقصاء ثمار الوقف ودوره الحضاري يكاد يكون مهمّة مستحيلة.لماذا هذا العقوق للوقف؟!
فمع الحقائق المضيئة في الوقف الإسلامي ودوره الحضاري في الأمة على مر العهود الإسلامية، نتساءل: لماذا هذا العقوق للوقف؟! ولماذا غُيب دور مؤسساته التي قدمت خدمات مختلفة المجالات على مر العهود الإسلامية؟!- ألم يكن الوقف على مر العصور الإسلامية مصدر تمويل دائم حقق المصالح الخاصة والمنافع العامة لأفراد المجتمع؟!
- أهنالك مؤسسات في الدنيا قدمت ما قدمه نظام الوقف ومؤسساته ومشاريعه؟!
- ألم يكن الوقف من أهم ميادين البر، وأغزر روافد الخير، وأفسحها مجالًا، وأعظمها أجرًا، وأبقاها عملًا، وأكثرها تأثيرًا؟!
- ألم يكن الوقف بمؤسساته ومخرجاته للأمة خير معين، وسندًا لجهادها، وسدا لحاجاتها، ودعمًا لعلمائها ودعاتها، وحفظًا لهويتها وحيويتها؟!
- ألم توفر مؤسساته كل متطلبات ومستلزمات حفظ المسلمين ورعاية الأمة وأمنها وكرامتها؟!
- ألا يشفع لهذا النظام دوره الحضاري ومساهماته في النهضة الإسلامية الشاملة، وحفظه للهوية وللقيم الإسلامية، وحمايته للثروات والأموال وصرفها في مصارفها الشرعية؟!
- ألم يكن حاضرًا في حياة الإنسان من مهده إلى لحده، سواء كان فقيرًا أم غنيًا، ملازمًا له لا فكاك عنه منذ ولادته إلى وفاته؟!
- لماذا تضاءل دوره في عصرنا وبلداننا؟! وكيف لنا أن نسترجع مكانته ودوره؟!
الوقف شرع لأهداف سامية
نقدم هذه الحقائق لتعي الأمة أن الوقف شرع لأهداف سامية، ومقاصد نبيلة، وامتاز بتنظيم محكم دقيق، وحري بنا أن نعيده إلى ما كان عليه رافدًا وفيرًا لتحقيق الغايات والمقاصد الشرعية، ومقومًا أساسيًا في بناء الحضارة الإسلامية. حقائق، مدادها نظام رباني، شُرع لتحقيق الغايات والمقاصد لحفظ الحياة الكريمة ومتطلباتها وضروراتها، أخرج بمؤسساته ومشاريعه وتطبيقاته على مر العهود الإسلامية نماذج وروائع يقف أمامها القارئ وقفة تقدير واعتزاز. حقائق، تكشف علاقة الوقف الإسلامي بكل مناحي الحياة، ومساهماته في رعاية ونماء ما يحتاج إليه الإنسان في المجتمع، من المهد إلى اللحد، ونقولها عالية جلية بأن الوقف الإسلامي بتشريعاته وأحكامه وخصائصه ومخرجاته لبنة أساس في نهضة المجتمعات والأمم. حقائق، ننتقيها لنحيي بها سنة الوقف التي سنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وندفع بها الهمم والنفوس للبذل والعطاء، وبذل الجهود لاستئناف مسيرة الوقف الإسلامي من جديد، جمعناها وغايتنا نشر ثقافة الوقف، وإحياء سنتة، وترغيب المسلمين للمساهمة في كل مجالاته ومساراته. حقائق، شهد بها الرحالة والمؤرخون من المسلمين وغيرهم، ووثقها التاريخ، لتحفظ لنا الذاكرة والتاريخ، لتبقى مليئة بأعاجيب، ومشاريع تثير الفخر في النفوس، فكم خرَّجت مدارسه من علماء وفقهاء!، وكم حفظت مكتباته من مخطوطات! وكم رعت نزله من مسافرين! وكم أطعمت تكاياه من منقطعين!، وكم عالجت مشافيه من مرضى!، وكم قدمت صيدلياته من عقاقير ودواء!، وكم نسجت مشاغله من كساء!، وكم آوت ملاجئه من أيتام وعجزة!، وكم سقت آباره من إنس وطير وبهائم!، وكم حفظت عطاءاته من كرامة الإنسان!، وكم كفلت إيراداته من طلبة علم تفرغوا للتحصيل العلمي!، وكم عالجت مؤسساته من مشكلات اجتماعية! فالوقف الإسلامي، أنتج -بتطبيقاته ومؤسساته- حضارة إسلامية لا تزال بعض آثارها العملية ماثلة أمامنا، ألا يدعونا ذلك للدفاع عنه بكل ما أوتينا من قوة ونحييه من جديد؟
لاتوجد تعليقات