رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل سرحان 14 فبراير، 2016 0 تعليق

اللغة العربية.. ومعالم النهضة السلفية (2)

إن اللغة - أي لغة كانت - لها ثلاث مهام مهمة، أولها: هي ركنُ التفكير؛ فاللغة فكر ناطق، والتفكير لغة صامتة، وثانيها: وهي أولى وسائل التواصل والتفاهم والتخاطب، وبثِّ المشاعر والأحاسيس؛ ولذلك كانت أهمية اللغة في حياة الأمم؛ فإنها الأداة التي تحمل الأفكار، وتنقل المفاهيم؛ فتقيم بذلك روابط الاتصال بين أبناء الأمة الواحدة، وبها يكون التقارب والتشابه والانسجام بينهم، وأخيرًا: هي وعاءُ المعرفة؛ فهي الترسانة الثقافية التي تبني الأمة وتحمي كيانها، واليوم نتحدث عن معالم النهضة السلفية في النهوض باللغة العربية فنقول:

     إن العناية بأمر اللغة العربية كانت جزءًا من منهج الإصلاح والتغيير الشامل الذي أحدثه الإسلام في حياة العرب؛ فقد كانت لغة العرب وفصاحتهم وبلاغتهم ملكة وسليقة، ولم يكن لهم درس لغوي قبل الإسلام، حتى جاء الإسلام، ونزل القرآن فكان أول كتاب مدون تشهده العربية، ثم كان حث النبي ومن بعده صحابته على تعلم اللغة العربية وتعليمها، ثم جهود المسلمين الأوائل بداية من قراءة القرآن وما نشأ من أجله من علوم ومعارف وكتابته.

     إن تعلم فنون اللغة العربية وإحياءها من بدهيات المنهج السلفي والنهضة السلفية، فدون التضلع من فنونها لن نستطيع استكناه (استجلاء) أسرار التنزيل ومعرفة أحد أوجه إعجازه، وكيف نفهم كلام من أوتي جوامع الكلم بمعرفة سطحية بلغته التي افتخر أنه أوتي جوامع كلمها.

     وكيف يصح قولنا: «الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة» بدون التمكن من اللغة العربية؛ ففهم سلف الأمة وتراثهم مدون بتلك اللغة وهم قد بلغوا فيها مبلغًا عظيمًا، اقرأ كتب الشافعي -رحمه الله- أو الجويني -رحمه الله- أو غيره ممن سبقهما أو أتى بعدهما تجدها قطعًا أدبية رصينة، لا يذوق حلاوتها ويتبين دلائلها إلا من تضلع بالعربية، وكيف ننادي بإحياء الشريعة ونحن نفقد أداة من أهم أدوات فهمها ؟!

لقد ورد وصف القرآن بالعربي في أكثر من آية في كتاب الله -تعالى- ويتبع ذلك علته وهو لعلكم تعقلون أو تتقون أو لعلة التدبر والإنذار.

ربما أنكر بعض ذلك في عصرنا هذا الذي نحياه أو اعتراهم العجب، وحتى يتبين لك الأمر جليًّا أسوق لك بعض أقوال أهل العلم في المعاني التي ذكرتُها، فقط لأمسح عنك بعضًا مما اعتراك.

     فإن الله بعث «أفضل رسله من العرب، وأنزل عليه آخر كتبه بلسان العرب، فصار على الناس فرضا أن يتعلموا لسان العرب، وإن كان ذلك من فروض الكفاية ليعقلوا عن الله أمره ونهيه، ووعده ووعيده ويفهموا عن رسوله صلى الله عليه وسلم  بيانه وتبليغه». (شعب الإيمان (3/ 163))

     «قال الشافعي -رحمه الله-: فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها، على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساع لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما، ظاهرا، يراد به العام، الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره. وعاما ظاهرا يراد به العام، ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه؛ وعاما ظاهرا، يراد به الخاص. وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره. فكل هذا موجود علمه في أول الكلام، أو وسطه، أو آخره.

وتبتدئ الشيء من كلام العربية يبين أول لفظها فيه عن آخره. وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله. وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى، دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها، لانفراد أهل علمها به، دون أهل جهالتها.

وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة.

     وكانت هذه الوجوه التي وصفت اجتماعها في معرفة أهل العلم منها به - وإن اختلفت أسباب معرفتها -: معرفة واضحة عندها، ومستنكرا عند غيرها، ممن جهل هذا من لسانها، وبلسانها نزل الكتاب، وجاءت السنة، فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل بعضه.

ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبته معرفته: كانت موافقته للصواب - إن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة، والله أعلم؛ وكان بخطئه غير معذور، وإذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه». (الرسالة (ص 50))

     قال شيخ الإسلام رحمه الله: «إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية». (اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 527)

وقال -رحمه الله-: «وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف». (اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 526)

     وقال -رحمه الله- في مجموع الفتاوى: «ولابد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامه؟ فمعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة الألفاظ على المعاني». (الإيمان لابن تيمية (ص: 97)

فهذا كلام أئمة السلفية -رحمهم الله- في بيان أهمية (التضلع) في اللغة العربية لفهم كتاب الله وفهم مراد الله ومراد رسوله وفهم كلام السلف.

     ولله دره أبي فهر الشيخ محمود شاكر -رحمه الله- حينما بيَّن القوة التي ينضوي عليها المنهج السلفي، وبين أن السلفي لابد أن يمتلك ناصية اللغة مستدلًّا بما استدل به سلفه الأوائل، ويقول -رحمه الله-: «وأدرك الذين كانوا يقودون حركة الصراع بين الحضارتين (الغربية والإسلامية) أن أقوى الفريقين المتصارعين من سلفيين ومبتدعة هو فريق (السلفيين)، لا من حيث كثرتهم وغلبتهم، بل من حيث القوة التي تشتمل عليها دعوتهم؛ لأنها تؤدي إلى إعادة بناء لغة الأمة؛ إذ لا معنى للانتساب لطريقة (السلف) إلا بأن يمتلك (السلفي) ناصية اللغة وآدابها تملكًا يمكنه من الاستمداد المباشر من (القرآن) و(السنة)، على النهج نفسه الذي كان (السلف) يستمدون به من القرآن والسنة في آدابهم، وأخلاقهم، وثقافتهم، وفقههم، وعلمهم، وتفكيرهم، وفي سائر ما يكون به الإنسان حيًّا رشيدًا قادرًا على بناء الحضارة؛ ولأنها تؤدي أيضًا إلى اتخاذ سمتٍ نابع من القرآن والسنة، تكون به حضارة القرآن والسنة ممثلة في رجال يغدون بين الناس ويروحون، ويغضبون ويرضون، ويتنازعون ويصطلحون، ويعيشون عيشة كاملة ممثلة لخلاصة الرحلة الطويلة العميقة في استنباط طريق للحياة الإنسانية الصحيحة، من الفطرة التي جعلها الله كامنةً في الطبيعة البشرية، ومطوية في هذا التنزيل المعجز الذي جاء من عند الله، وهو (القرآن) وفي جوامع الكلم التي أوتيها نبي الله  صلى الله عليه وسلم ، مبينًا عن كتاب الله مفصِّلًا لمجمله وهو (الحديث).

وهذه الفطرة هي التي ذكرها الله سبحانه في سورة الروم فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(الروم: 30).

     فهذه القوة التي اشتملت عليها دعوة (السلفيين) كانت مصدرًا لمخاوف (الاستعمار) و(التبشير)، فأرادوا أن يقاوموا هذه الدعوة القليل عدد أصحابها، الذين هم مع قلتهم يصارعون جمهورًا غالبًا من (المبتدعة)، يؤيدهم إلف العامة وهم الكثرة، ما عندهم من (البدع) المنكرة التي ينكرها (السلفيون) أشدَّ الإنكار». (أباطيل وأسمار لأبي فهر محمود محمد شاكر (402، 403).

     فقوة السلفية في عودتها إلى الكتاب والسنة والتماسها درب السلف الأوائل، وكيف نفهم مراد الله ومراد رسوله فهمًا صحيحًا عميقا؟ وكيف نشعر بأسرار التنزيل إذا كنا جهلاء بأسرار العربية، أشبه ما يكون بالأعاجم؟ وكذلك كيف نتصل بالسلف الأوائل إذا كنا عن لغتهم متباعدين؟!

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك