
القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية 34- ما لا يدرك كله لا يترك جله
نكمل في هذا العدد عرض حلقة جديدة من سلسلة ما تم جمعه وشرحه من قواعد وضوابط فقهية ذات الصلة بالأعمال الخيرية والوقفية، ليسهل على من جند نفسه لخدمة هذه الأعمال والمشاريع الأخذ بها، والالتزام بأحكامها التي استقيتها من كتب القواعد والضوابط الفقهية والتصانيف الوقفية والخيرية، وأردفتها تطبيقات عملية متعلقة بالمسائل الخيرية والوقفية تمس تلك الأعمال مباشرة.
(ما لا يدرك كله لا يترك جله) قاعدة تعني: أنه إذا عجز الشخص عن الإتيان بأمر ما أو حكم ما فهذا لا يعني تركه له بالكلية؛ بل يأتي منه ما استطاع.
فالله -عز وجل- لم يطالب المكلفين إلا بما هم مطيقون له قادرون عليه، دون أن يلحقهم فيه حرج أو مشقة فمن قَدر على ما كُلِّف به لزمه فعله، ومن عجز عن بعضه، انتقل من حال التمام التي يعجز عنها إلى التي أدنى منها ويطيقها.
لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286)، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16)، و صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» الجامع الصحيح للألباني. رقم 3430.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي-في شرح هذا الحديث-: «فأوامر الشريعة كلها معلقة بقدرة العبد واستطاعته، فإذا لم يقدر على واجب من الواجبات بالكلية، سقط عنه وجوبه، وإذا قدر على بعضه، وذلك البعض عبادة، وجب ما يقدر عليه منه، وسقط عنه ما يعجز عنه، ويدخل في هذا من مسائل الفقه والأحكام ما لا يُعدُّ ولا يُحصى».
والقاعدة أعلاه أتت بألفاظ وفروع مشابهة، ومنها: (حفظ البعض أولى من تضييع الكل)(1)، و(ما لا يدرك كله لا يترك كله)، وفي لفظ آخر: (ما لا يدرك كله لا يترك قله).
ومن التطبيقات العملية لهذه القاعدة:
1. في حال النوازل يُعمل على إغاثة ما نستطيع بوصفنا أفراداً وجماعات ومؤسسات خيرية وإغاثية، ولا يترك واجب الإعانة إن عمت الكارثة بمسوغ أنه لا استطاعة لنا في إغاثتهم جميعاً.
2. إذا تعذر تعيين الرجل الأمين على الإغاثات وتكليفه فيقدم أقلهم فسوقا، فإذا كان الأقل فسوقا يفرط في عشر المصالح العامة مثلا وغيره يفرط في خمسها لم تجز تولية من يفرط في الخمس فما زاد عليه، ويجوز تولية من يفرط في العشر.
3. وإذا تعذرت العدالة في ولاية الأيتام فيختص بها أقلهم فسوقا فأقلهم؛ لأن حفظ بعضهم أولى من تضييع الكل.
4. وفي حال تقسيم الأعمال والمهام بين المؤسسات الخيرية للقيام بواجب الإعانة والكفالة، فالمؤسسة التي ليس لها قدرة على كفالة 1000 يتيم، فلا تترك الأمر البته، بل تكفل ما تستطيع.
5. وإحياء سنة الصدقة وتفعيلها في نفوس المسلمين أمر مستحب، ولا يترك الأمر في المجتمعات التي ضعفت فيها ثقافة التصدق والبذل لأصحاب الحاجات بحجة أن المجتمع لا يتصدق، فتستمر الدعوة للصدقة لنشر تلك الثقافة بين المسلمين.
6. وتعليم الناس الخير، وأمور دينهم، لا يترك إن عم الجهل في مجتمع لا يكترث أهله بتعلم أمور دينهم، فلا يُعدم الخير في بعضهم، فما لا يدرك كله لا يترك كله.
7. والتحدي الذي تعيشه المؤسسات الخيرية الإسلامية بسبب التضييق المباشر من الدول الغربية وإغلاق بعضها وإدراجها أخرى ضمن القوائم السوداء باتهامها بالإرهاب،ليس مسوغا للعزوف عن العمل الخيري.
8. وليس منع التحويلات المالية للمشاريع الخيرية في العالم الإسلامي التي تفرضه دول عظمى مهيمنة على البنوك العالمية، مسوغا كاف لإغلاق المؤسسات الخيرية، بل عليها أن تجد البدائل وتجتهد في طرح الحلول، ولا تستسلم لهذا الظلم.
9. وبعض التجاوزات في المؤسسات الخيرية تعالج بالتدرج، وتقدم الأولويات في المعالجة، ويستجلب ولو القليل ليكون بداية لتحقيق المرغوب؛ لكي تكون أعمالنا الخيرية كلها موافقة للشرع.
الهوامش:
1- القواعد الصغرى، 80.
لاتوجد تعليقات