
الضوابط الفقهية للأعمال الوقفية – الضوابط المتعلقة بشرط الواقفين (شرطُ الواقفِ كنصِّ الشارع)
باب الوقف من الأبواب المهمة التي من الأهميّة تقرير ضوابطه؛ ذلك أنّ عامّة أحكام الوقف اجتهاديّة؛ فلا مناص من الانطلاق في تقريرها من أصول الشريعة العامّة، الضابطة لباب المصالح والمنافع على وجه الخصوص، ثمّ من القواعد الفقهيّة الكلّيّة، ثم يترجم ذلك كله على هيئة ضوابط خاصّة بباب الوقف، وهو ما نتناوله في هذه السلسلة، واليوم مع الضوابط المتعلقة بشرط الواقفين، والضابط الأول: شرط الواقف كنص الشارع.
معنى الضّابط
شرطُ الواقف يُنزَّلُ في التعامل معه، وفي الموقف منه، منزلة نصّ الشارع، وقد أطلق ابن نُجيم في هذا الضابط قولاً يدلُّ على مكانة هذا الضابط ووجوب مراعاته، ومنزلته عند أهل العلم، فقال: «تواتر من قول العلماء ذوي المذاهب الأربعة، أنّ شرط الواقف كنصِّ الشارع».
مجال إعمال الضابط
ومجال إعمال هذا الضابط هو التأصيلُ لاحترام إرادة الواقف واعتبار مقصده من الوقف، ويُقصد بها تلك الإرادة التي يعبِّر عنها في وثيقة وقفه، وهذه الوثيقة تسمى: كتاب الوقف، أو الإشهاد بالوقف، أو حجة الوقف، أو الوقفيّة، وهو يعبِّر عن إرادته في صورة مجموعة من الشروط، يحدِّد بها كيفية إدارة الوقف، وتوزيع ريعه، وصرفه إلى الجهات التي ينص عليها أيضاً في الوثيقة نفسها، ويطلق على تلك الشروط في جملتها اصطلاح (شروط الواقف)، وأهل العلم قد رفعوها إلى منـزلة النصوص الشرعية؛ من حيث لزومها ووجوب العمل بها.
تفسير وجه الشَّبه
ومع ورود التنصيص على أنّ شرط الواقف كنصِّ الشارع عن جمعٍ كبير من أهل العلم، إلا أنّهم اختلفوا في تفسير وجه الشَّبه ومدى التطابُق بين (شرط الواقف) و (نَصِّ الشارع)، وأُوردُ هنا مثالَيْن على تفسيرات أهل العلم لهذا الضابط.
قال ابن نُجيم: «شرطُ الواقف يجب اتّباعُه لقولهم: شرطُ الواقف كنَصِّ الشارع، أي: في وجوب العمل به، وفي المفهوم والدَّلالة إلّا في مسائل:
- الأولى: شرَطَ أنَّ القاضي لا يعزلُ النّاظر، فله عزل غير الأهل.
- الثانية: شرَطَ ألا يُؤَجَّر وقفُه أكثر من سنةٍ، والنّاس لا يرغبون في استئجاره سنةً، أو كان في الزيادة نفعٌ للفقراء، فللقاضي المخالفة دون النّاظر.
- الثالثة: لو شَرَطَ أنْ يُقْرَأَ على قبره، فالتعيينُ باطل.
- الرابعة: شَرَطَ أنْ يُتَصَدّقَ بفاضلِ الغَلَّة على من يسأل في مسجدِ كذا كلَّ يومٍ، لم يُرَاعَ شرطُه، فللقيِّم التصدُّق على سائلِ غيرِ ذلك المسجدِ، أو خارجَ المسجد، أو على من لا يسأل.
- الخامسة: لو شَرَطَ للمستحقِّين خُبزًا أو لحمًا معيَّنًا كلَّ يومٍ، فللقيِّم أن يدفعَ القيمةَ من النقدِ، وفي موضعٍ آخر لهم طلبُ العَيْن وأخذُ القيمة.
- السادسة: تجوز الزيادة من القاضي على معلومِ الإمامِ إذا كان لا يكفيه، وكان عالماً تقيًّا.
- السابعة: شَرَطَ الواقفُ عدم الاستبدال، فللقاضي الاستبدالُ إذا كان أصلح».
معنىً واحد
ونحن نلاحظُ في المستثنيات أنّه يجمعها معنىً واحدٌ تقريباً، وهو أنّ شرط الواقف غير واجب الاتّباع إذا كان ضارًّا بمصلحة الوقف أو الموقوف عليهم، أو فيه تضييق عليهم، أو كان يُفضي إلى التحكُّم في غلّة الوقف على نحوٍ عبثيٍّ، يعطِّل المصلحة العامّة ويقتُل منافع المال المحترم شرعًا، بحيث لو تصرَّف الإنسانُ في مالِه من غير وقْفٍ على ذلك النَّحو، لكان اتِّجاه الشّرع في الغالب أن يمنعه من ذلك التصرُّف، دفعاً للضّرر، وحفظاً لمصلحته.
الدَّلالةُ والمفهوم
بينما نجد شيخ الإسلام ابن تيميّة مثلاً يحمل العبارةَ على أنّ وجه الشبه هو الدَّلالةُ والمفهوم، دون وجوب العمل بالضَّرورة، جاء عنه -رحمه الله- في «الاختيارات الفقهيّة» للبعلي: «ولا يلزمُ الوفاءُ بشرط الواقف إلا إذا كان مستحبًّا خاصّة، وهو ظاهر المذهب أخذاً من قول أحمد في اعتبار القُربة في أصلِ الجِهَة الموقوفِ عليها، ويجوز تغييرُ شرطِ الواقفِ إلى ما هو أصلحُ منه، وإنْ اختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفيّة، واحتاج النّاس إلى الجهاد، صُرِفَ إلى الجُنْدِ.
وقول الفقهاء: نصوصُ الواقفِ كنصوصِ الشّارعِ، يعني في الفهم والدَّلَالةِ، لا في وجوب العمل، مع أنَّ التحقيقَ أنَّ لفظ الواقفِ والمُوصي والنَّاذِرِ والحالفِ وكلِّ عاقِدٍ يُحمل على مذهبِه وعادتِه في خطابِه ولغتِه التي يتكلّم بها، وافقَ لغة العرب أو لغةَ الشارع أو لا، والعادة المستمرَّة والُعرف المستقِرُّ في الوقفِ يدلُّ على شرطِ الواقفِ أكثرَ ممّا يدلُّ لفظُ الاستفاضة»، قال البعلي: «وظاهر كلام أبي العبّاس في موضع آخر خلاف ذلك، وإنْ نُزِّلَ تنزيلاً شرعيًّا لم يجُز صرفُه بلا مُوجبٍ شرعيّ».
المصلحة شرعية
وكلُّ متصرِّفٍ بولاية إذا قيل له: افعل ما تشاء فإنّما هو لمصلحة شرعية، حتى لو صرَّحَ الواقفُ بفعلِ ما يهواهُ أو ما يراهُ مطلقاً؛ فهو شرطٌ باطل لمخالفتِه الشرعَ، وغايتُه أن يكون شرطاً مباحاً، وهو باطلٌ على الصحيح المشهور، حتى لو تساوى فِعْلَانِ عُمِلَ بالقُرْعَةِ، وإذا قيل هنا بالتخيير فله وجهٌ.
معنىً صحيحٌ ومعنى باطلٌ
ويشرح الإمام ابن القيّم -رحمه الله- هذه المسألة بقوله: «وأمّا ما قد لهج به بعضهم من قوله: «شروطُ الواقفِ كنصوص الشارع»، فهذا يرادُ به معنىً صحيحٌ ومعنى باطلٌ.
فإن أُريد أنها كنصوص الشارع في الفهم والدَّلالة، وتقييد مطلقها بمقَيَّدِها، وتقديمِ خاصِّهَا على عامِّها، والأخذ فيها بعمومِ اللَّفظ لا بخصوص السبب، فهذا حقٌّ من حيث الجملةُ.
وإنْ أُريد أنها كنصوص الشارع في وجوب مراعاتها والتزامها وتنفيذها، فهذا من أبطل الباطل! بل يبطُل منها ما لم يكن طاعة للَّه ورسوله، وما غيره أحبُّ إلى اللَّه وأرضى له ولرسوله منه، ويُنَفَّذُ منها ما كان قُرْبَةً وطاعةً.
نقطة الالتقاء
والذي يظهر أنّ هذا الضّابط الذي أبرزناهُ في المنقول عن شيخ الإسلام ابن تيميّة سابقًا، يمثِّل نقطة الالتقاء، والضابطَ الذي يجب الانطلاق منه عند وضع الحدِّ الفاصل بين ما تجب مراعاته وما لا تجب مراعاته من شروط الواقف؛ لأنّ الذين أطلقوا وُجوب مراعاة شروط الواقف، استثنَوْا من ذلك الإطلاق صوراً، فدلّ على أنّ الإطلاق ليس على ظاهره عند الجميع.
الأصل في المسألة
ولا ريب أنّ الأصل في المسألة هو ما عبَّر عنه أهل العلم بقولهم: «يلزم مراعاةُ الشرط بقدر الإمكان».
قال العلّامة أحمد الزّرقا: «ومراعاتُه بالوفاء به...والمراد بالشرط هنا: المُقَيَّدُ به، المُعَرَّفُ بأنَّه: التزامُ أمرٍ لم يوجَد، في أمرٍ وُجِدَ بصيغةٍ مخصوصةٍ، لا المعلَّق عليه...والفرق بين المعَلَّقِ بالشّرط والمُقَيَّدِ بالشّرط: أنّ المعلَّق بالشرط عدمٌ قبل وجود الشرط، لأنّ ما توقَّفَ حصولُه على حصول شيءٍ يتأخَّر بالطَّبع عنه، بخلافِ المقيَّد بالشرط، فإنَّ تقييدَه لا يوجب تأخُّرَه في الوجود على القيد، بل سبْقَه عليه كما هو ظاهرٌ، ثم تقييد الشرط بـ «الجائز» لإخراج غيرِه، فإنّ الشرط ثلاثةُ أنواع: شرطٌ جائزٌ، وهو ما يقتضيه العقد، أي: يجب بدون شرطٍ، شرطٌ فاسدٌ، وهو ما كان بخلاف ذلك، وفيه نفعٌ مشروطٌ في صُلب العقد من أحد المتعاقدَيْن للآخر غير معطوفٍ بالواو، شرطُ لَغْوٍ، وهو ما كان بخلاف ذَيْنِك الشرطَيْن.
تقييم الشرط والحكم عليه
من هنا يتضح لنا أنّ من الشائع جدًّا أن يختلف أهل العلم في تقييم الشرط والحكم عليه إن كان فاسداً أو لا؛ لأنّ الجميع ينظرون إلى الشروط من الزاوية التي يبيّنها الإمام ابن القيِّم -رحمه الله- بقوله: «فالصواب الذي لا تسوِّغ الشريعة غيرَه عرضُ شروط الواقِفِين على كتاب اللَّه -سبحانه- وعلى شرطِه، فما وافق كتابَه وشرطَه فهو صحيح، وما خالفَه كان شرطًا باطلًا مردودًا، ولو كان مئة شرطٍ، وليس ذلك بأعظمَ من ردِّ حُكْمِ الحاكم إذا خالف حُكْمَ الله ورسولِه، ومن ردِّ فتوى المفتي، وقد نص اللَّه -سبحانه- على ردِّ وصية الجَانفِ في وصيَّتِه والآثمِ فيها، مع أنّ الوصيّة تصحُّ في غيرِ قُرْبَةٍ، وهي أوسع من الوقف! وقد صرَّحَ صاحبُ الشرع بردِّ كلِّ عملٍ ليس عليه أمرُه، فهذا الشرطُ مردودٌ بنَصِّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يقبلَه ويعتبرَه ويصحِّحَه».
لاتوجد تعليقات