رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: وائل رمضان 23 ديسمبر، 2024 0 تعليق

السجن في الإسلام تهذيب وإصلاح وحفظ لكرامة الإنسان

  •  الحبس عقوبة ليس مقصودا لذاته ولكن الغاية منه الزجر والردع والإصلاح والتهذيب والتأديب والتوبة
  •  النظام الإسلامي في القضاء قائم على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته وأنه لا يُسجن أحد إلا لمصلحة شرعية والسجن عقوبة لا تكون إلا لمستحقها
  •  عدّ الإسلام السجون مؤسسة تربوية يعامل فيها السجين كالمريض فتدرس أحواله ويعالج بأساليب خاصة لتجعل منه مواطنا صالحا بعد الانتهاء من مدة احتجازه
  •   الحبس في الإسلام ليس له الصدارة والأولوية من بين أنواع العقوبات التعزيرية الأخرى إلا إذا تعين وسيلة لردع الجاني وإصلاحه
  • كفلت الشريعة الإسلامية للسجين زيارة أقاربه ولا سيما الآباء والأمهات وكفلت له الخروج من السجن لزيارة أمه أو أبيه أو أخيه أو ابنه في حال مرض أحدهم مرضًا شديدًا
  •  اعتنى الإسلام بأمر السجون وأحوال السجناء عناية عظيمة قلَّ أن يوجد لها نظير وهذا الاعتناء نابع من الاهتمام بكرامة الإنسان وحفظ آدميته
  •  الشريعة الإسلامية وضعت ضوابط للتعامل مع القصَّر في ارتكابهم للمخالفات فلم تعاملهم معاملة البالغ الراشد
  •  النظر إلى السجين على أنه مذنب يستحق العقوبة لا يعني أننا نجرده من إنسانيته ونعامله بأنه مخلوق لا فائدة منه ولا رجاء في إصلاحه
  • كفل الإسلام للسجين المسلم الحق في إقامة الشعائر الدينية وأن تهيأ له الأماكن والوسائل اللازمة لذلك
  • ابن باز: المسلم قد يفعل ما يوجب سجنه من عدوانه على بعض الناس، ومن أخذه أموال الناس بالباطل، حتى يقام عليه العقوبة وما يستحق من تعزير
 

لقد اعتنى الإسلام بأمر السجون وأحوال المسجونين عناية عظيمة، قلَّ أن يوجد لها نظير في أي مكان أو زمان، وهذا الاعتناء نابع من اهتمام الإسلام بكرامة الإنسان وحفظه لآدميته، ومن ذلك حقه في الحفاظ على نفسه وسلامة بدنه، وعلى كرامته الإنسانية، فلا يجوز الاعتداء عليه، سواء بالسب والشتم، أم إهانته بالضربِ والتجويع، أم حرمانهِ من النوم والراحة، وله الحق في تعويضه عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت به على سبيل الإهمال أو العمد.

 

نظرة الإسلام إلى السجن

تنقسم نظرة الإسلام إلى السجن من شقين أساسيين:
  • الأول: إنه مكان لقضاء عقوبة المخالفة أو الجناية المرتكبة بحق أمن المجتمع وسلامته.
  • الثاني: أنه مكان لحفظ كرامة الإنسان وعدم إهدار حقوقه المدنية والإنسانية.
  • وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بأن السجن في أحد قسميه هو: (تصحيح مسار الشخص وتهذيبه في السجن بالطريقة التي تجعله إنسانًا سويًا عندما يخرج بعد انتهاء العقوبة).

فكرة السجون في الإسلام

        فكرة السجن موجودة في الإسلام ولم تكن أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى المتبادر إلى الذهن من اتخاذ دار خاصة يُوضَع فيها مَن استَحق عقوبة، ولم تكن كذلك أيام أبي بكر - رضي الله عنه - ولكن كان هناك حبس، بمعنى تعويق الشخص ومنْعه من التصرف الحر حتى يَقضِي دَيْنًا وجب عليه، أو يَرُدَّ حقًّا اغتصبه، وكان الذي يُلازم المحبوس هو الخصْم أو وكيله، ولهذا سمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أسيرًا. وأول من اتَّخذ دارًا للسجن في مكة هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، اشتراها من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم، وكان ذلك بمعرفة عامله على مكة نافع بن عبد الحارث الخزاعي، وقيل: إن أول من اتخذ دارًا للسجن هو معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، كما ذكره المقريزي، وكان القاضي شريح هو أول من حَبَسَ في الدَّيْن. ومن وقائع الحبس أيام عمر - رضي الله عنه - أنه حبس الحُطيئة الشاعر الهجّاء لتطاوله على ابن بدر (عامل عمر)، أو هَدَّده بالحبس حتى تَضَرع له بقصيدة معروفة منها قوله:

ماذا تقول لأفراخٍ بِذِي مَرَخٍ

                             زُغْبِ الحواصِلِ لا ماءٌ ولا شَجَرٌ

ألْقيْتَ كاسِبَهمْ في قعْرِ مُظْلِمَةٍ

                             فاغْفِرْ عليْـكَ سلامُ اللهِ يا عُـمَرُ

فعفا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. والشوكاني -رحمه الله- قال في (نيل الأوطار): «والحاصل أن الحبس وقع في زمن النبوة وفي أيام الصحابة والتابعين فمَن بعدهم إلى الآن في جميع الأعصار والأمصار، من دون إنكار، وفيه من المصالح ما لا يَخفَى»، وأخذ يُعدِّد هذه المصالح إلى أن قال: وقد استدل البخاري على جواز الرَّبط بما وَقَع منه - صلى الله عليه وسلم - من ربط ثُمَامة بن أَثَال بساريَةٍ من سواري مسجده الشريف، كما في القصة المشهورة في الصحيح.  

حقوق السجناء في الإسلام

       حقوق السجناء نالت حظا وافرًا واهتمامًا خاصا من فقهاء الأمة في مختلف العصور، ولقد سبقوا المنظمات الحقوقية الدولية وفقهاء القانون الدولي في حماية حقوق السجين، وأحاط علماء المسلمين المعاصرين حقوق السجين بنسيج من الحماية الدستورية والقانونية في ضوء مبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء والمعايير الدولية لحقوق الإنسان ذات الصلة.

الحق في المحاكمة والتعويض

        إن النظام الإسلامي في القضاء قائم على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأنه لا يُسجن أحد إلا لمصلحة شرعية، والسجن عقوبة لا تكون إلا لمستحقها، والناس أمام القضاء سواء، وقد كتب الفقهاء من كل المذاهب أبوابًا في القضاء الإسلامي وما يتعلق به، وكذا تحدثوا عن السجن ومتى يكون؟ وكم يكون؟ وكيف يكون؟ ولمن يكون؟ لكن لو فرض أن القاضي أخطأ في الحكم على شخص بريء وفقًا لمعطيات معينة، ثم تبين بعد ذلك أنه بريء، وقد حكم عليه بضرر حسي أو معنوي، فإنه يعوض من بيت المال وفقًا للضرر الحاصل له.

الحق في أداء الشعائر

كفل الإسلام للسجين المسلم الحق في إقامة الشعائر الدينية وأن تهيأ له الأماكن والوسائل اللازمة لذلك، وألا يمنع من حيازة الكتب الدينية وكذلك عقد حلقات لتحفيظ القرآن الكريم داخل السجن متى ما تيسر ذلك.

الحق في الزيارة

       أوجبت الشريعة الإسلامية صلة الرحم، وزيارة السجين من قبل أقاربه ولا سيما الآباء والأمهات، وكفلت للسجين الخروج من السجن لزيارة أمه أو أبيه أو أخيه أو ابنه في حال مرض أحدهم مرضًا شديدًا، ليسلم عليه بوجود كفيل يكفل عودته، وكذلك حضور جنازة أمه أو أبيه، وهي إحدى مظاهر صلة الرحم التي كفلها الإسلام للسجين، ويدخل في ذلك حقه في الاتصال بالعالم الخارجي، عبر الرسائل الورقية، وعن طريق الهاتف، ما لم يُخِلّ ذلك بالأمن والنظام والقانون.

النفقة على السجين وأهل بيته

       حقوق السجين قبل السجن هي حقوقه في أثناء السجن، فله حرمة المسلمين، فيحرم الإضرار به إضرارا حسيًّا أو معنويًّا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»، فيجب أن تُكفى حاجاته، من المأكل والمشرب، والملبس والمكان المريح، يقول ربنا - تبارك وتعالى-: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8)، قال أبو يوسف: الأَسِيرُ مِنْ أسرى الْمُشْركين لَابُد أَنْ يُطْعَمَ وَيُحْسَنَ إِلَيْهِ حَتَّى يُحْكَمَ فِيهِ، فَكَيْفَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ قَدْ أَخْطَأَ أَوْ أَذْنَبَ؟ يُتْرَكُ يَمُوتُ جُوعًا؟!. قال المرداوي: وكذلك ينفق على من تجب على السجين نفقته من زوجة وأولاد وغيرهم، ولا يتركون يسألون الناس، فلهم حق في بيت المسلمين؛ فكل محتاج تسد حاجته من بيت مال المسلمين.

 العناية الصحية بالسجين

قسَّم أهل العلم الكلام في هذه المسألة إلى قسمين: أحكام متعلقة بصحة السجين الشخصية، وأحكام متعلقة بالعناية الصحية بالمكان المتخذ للسجن.
  • أولاً: العناية الصحية بالسجين: بحث الفقهاء مسألة سجن المريض ابتداء، هل يحق للوالي أن يسجن الشخص المريض؟ والجواب أن هذه المسألة مسألة اجتهادية يرجع فيها البَتّ إلى القاضي، من خلال تقديره لموجب السجن وخطورة المرض وإمكان رعاية السجين في سجنه، فمتى توفرت الرعاية الصحية الكافية للمريض في سجنه ولم يكن ذا مرض خطير قد يفضي به إلى الهلاك لو سجن، جاز سجنه، وإذا لم يتوفر ذلك يوكل به القاضي من يعالجه ويحفظه دون تركه كُليّة حتى يعود بالإمكان سجنه.
إما إذا مرض السجين داخل السجن، وأمكن علاجه داخله فإنه يجب علاجه دون إخراجه، ولا يمنع الطبيب والخادم من الدخول عليه لمعالجته وخدمته، ولو تسبب عدم علاجه في هلاكه يترتب على ذلك مسؤولية جزائية وعقوبة على المتسبب في ذلك.
  • ثانيًا: العناية الصحية بمكان السجن: ينبغي أن يكون المكان المتخذ للسجن مكانًا واسعًا نظيفا ذا تهوية جيدة تصله أشعة الشمس تتوفر فيه كل المرافق الصحية التي تستلزمها طبيعة الحياة، ولا يجوز جمع عدد كبير من المسجونين في مكان واحد؛ بحيث لا يستطيعون الوضوء والصلاة.

حق السجين في حفظ آدميته

        وهذا الحق راجع إلى أن السجن في جانب منه هو للتأديب والإصلاح، وليس للتشفي والانتقام والانتقاص من الحقوق المدنية والإنسانية للسجين؛ لأن هذا الحق يشعر السجين بإنسانيته واحترامه، مما يؤدي به إلى تحسين وضعه وإصلاح أمره داخل السجن حتى يخرج إنسانًا سويا على الأقل، ومن هنا نرى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبس في الدور الاعتيادية التي يسكنها سائر الناس ويتوفر فيها النور والسعة، فقد حبس الأسرى المقاتلين الذين حكمهم القتل في دور اعتيادية؛ إذ فرقهم على بيوت الصحابة، وأحيانًا كان يحبسهم في المسجد؛ فقد بعثَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيلًا قِبَلَ نجدٍ، فجاءت برجُلٍ مِن بَني حَنيفةَ يُقالُ لَه: ثُمامَةُ بنُ أُثالٍ، سَيِّدُ أهلِ اليَمامةِ فرُبِطَ بساريةٍ مِن سَواري المسجدِ.

حقوق السجناء القُصَّر

         أما ما يتعلق بالقُصّر، أو ما يعرف بالأحداث (جمع حدث)، فإن الشريعة الإسلامية وضعت ضوابط للتعامل معهم في ارتكابهم للمخالفات، فلا يعاملون معاملة البالغ الراشد، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ المبُتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ»، ولكن لا يعني هذا عدم تأديبهم بنية إصلاحهم وتقويمهم؛ لأن الزجر قد يكون لمتعمد الفعل القبيح مع نية المعصية كالبالغ والراشد المكلف، وقد يكون المتعمد له لا نية له في معصية الله كالصبيان، فإننا نزجرهم ونؤدبهم لدرء مفاسدهم واستصلاحهم، وقد اتخذ علماء المسلمين نصوص الشريعة معيارًا للتعامل بالتأديب مع أفعال الصبي التي ينجم عنها ضرر بنفسه أو يلحقه بآخرين، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعًا، واضربوهم إذا بلغوا عشرًا»، فتسقط العقوبة ويبقى التأديب لعدم التكليف.

عدم التضييق النفسي على السجين

        ومن حقوق السجين عدم التضييق عليه نفسيا أو جسديا بمجرد الشبهة دون قرائن قوية، أخرج النسائي: عن الصحابي النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّهُ رُفعَ إِلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْكَلَاعِيِّينَ حَاكَةً ادُّعِيَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ سَرَقُوا مَتَاعَهُمْ فَحَبَسَهُمْ أَيَّامًا ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُمْ بِلَا امْتِحَانٍ وَلَا ضَرْبٍ، فَقَالُوا: «خَلَّيْتَهُمْ بِلَا امْتِحَانٍ وَلَا ضَرْبٍ»، فَقَالَ: «مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ فَعَلْتُ، فَإِنْ أَخْرَجَ اللَّهُ مَتَاعَكُمْ فَذَاكَ، وَإِلَّا أَخَذْتُ مِنْ ظُهُورِكُمْ مِثْلَهُ»، قَالُوا: «هَذَا حُكْمُكَ؟»، قَالَ «هَذَا حُكْمُ اللَّهِ -عز وجل- وَرَسُولِهِ».

الخلوة الشرعية للسجين

نص فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة وبعض المالكية على جواز أن يخلو الزوج بزوجته خلوة شرعية، فلا يمنع المحبوس من معاشرة زوجته في السجن، ويجب توفير مكان مخصص ومهيأ؛ بحيث لا يطلع عليه أحد. واستند الفقهاء في ذلك على أن المعاشرة من الحقوق المشتركة للزوجين؛ فهو حق ثابت ولم يطرأ ما يسقطه، وفي ذلك محافظة على صحة السجين ونفسيته وحفظًا له من الشذوذ، مع جواز حرمان السجين من هذا الحق إذا رأى القاضي مصلحة أكبر في منعه، وهذا الحكم كما يكون للزوج السجين، يكون أيضًا للزوجة إذا كانت هي المسجونة؛ لأن المعاشرة حق مشترك، ولعموم قوله -تعالى-: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمعْرُوفِ}.

خلاصة القول

         إن النظر إلى السجين بأنه مجرم مذنب يستحق العقوبة، لا يعني أننا نجرده من إنسانيته، ونعامله بأنه مخلوق لا فائدة منه، ولا رجاء في إصلاحه، ولنا في شريعتنا الغراء والتاريخ الإسلامي الدروس والعبر؛ فقد تحول أبشع المجرمين -ممن اشتهروا بقطع الطريق والحرابة- إلى أئمة فقهاء فضلاء، ما زالت سيرهم العطرة تتداول بين طيات المؤلفات من أكثر من ألف عام إلى يومنا هذا، فإذا كان الله -سبحانه وتعالى- يقبل التوبة عن عباده، فمن نحن حتى نسد طرق الإصلاح، بل علينا الأخذ بيد المذنبين ما أمكن بشتى الوسائل التي تضمن عودتهم إلى جادة الصواب، وانخراطهم في المجتمع كعضو فعال، قال الله -تعالى-: {إِنما التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيمًا حَكِيمًا}، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أُتِيَ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِسَكْرَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُل: مَا لَهُ أَخْزَاهُ الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكونوا عون الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ»، فما لنا لا نتعظ بكلام خير البشرية - صلى الله عليه وسلم - فنأخذ بيد من أخطأ بارتكاب جريمة عوقب عليها حدا، أو جريمة  

مظاهر من اهتمام المسلمين بالسجناء

  • مَرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسير في وثاقه، فناداه: يا محمد يا محمد، فأتاه فقال: ما شأنك؟ قال: إني جائع فأطمعني، وظمآن فاسقني، فأمر له النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء حاجته، وهذا دليل على اهتمام الإسلام بالسجين وتلبية حاجته من الطعام والشراب، وكثيرا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدفع بالأسرى ونحوهم على أصحابه ويوصيهم بهم خيرًا.
  • كان الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يتفقد السجون ويشاهد من فيها من المسجونين ويفحص أحوالهم.
  • كتب عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الخامس إلى عماله يقول: انظروا من في السجون وتعهدوا المرضى.
  • جعل الخليفة المعتضد العباسي من الميزانية 1500 دينار شهريا لنفقة المسجونين وحاجاتهم وعلاجهم ونحوه.
  • لما سجن الخليفة العباسي المقتدر أحد وزرائه وهو ابن مقلة، ساءت أحوال الوزير؛ فأرسل له الطبيب المشهور ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة ليعالجه في سجنه وأوصاه به خيرا، وكان الطبيب يطعم السجين بيده ويرفق به وبحاله.

الفوزان: السجن ليس مستحدثًا في هذا العصر

        ردا على سؤال وجه للشيخ صالح بن فوزان الفوزان عن قول بعضهم: إنَّ السجون عقوبة مستحدثة فهي أداة لظلم الناس وليس فيها مصلحة لهم، فقال -حفظه الله-: هذا كلام باطل لأن السجون كانت على عهد الخلفاء الراشدين عمر - رضي الله عنه -؛ حيث اشترى دارًا للسجن في مكة، حتى أن الله -تعالى- ذكر في قصة يوسف -عليه السلام- أنه لبث في السجن بضع سنين، فالسجن معروف وليس شيئًا مستحدثًا في هذا العصر.

أمور حرمت الشريعة استخدامها ضد السجناء

  • نهى الإسلام عن التمثيل بالجسم، فلا تجوز معاقبة السجين بقطع شيء من جسمه أو كسر شيء من عظمه، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التمثيل بالأسرى.
  • كما نهى الإسلام عن ضرب الوجه ونحوه؛ لما فيه من الإهانة، كما لا يجوز وضع الأغلال في أعناق المسجونين أو مدّهم على الأرض لجلدهم ولو حدا؛ لما فيه من الإهانة والضرر الصحي والجسدي على المسجون.
  •  التعذيب بالنار ونحوها أو خنقه أو غطّه في الماء، ولا شك أن ما يتعرض له الموقوفون في بعض السجون من تعذيب قاس لا يمت للإنسانية بصلة، حتى إن منظمة العفو الدولية وصفت أحد السجون في تقريرها الصادر عام 2017 بـ (المسلخ البشري)؛ إذ وثّقت عمليات شنق جماعية وإبادة ممنهجة لآلاف المعتقلين.
  • التجويع والتعريض للبرد، أو إطعامه ما يضرّه ويؤذيه، أو منعه من اللباس، فإن مات المحبوس بسبب هذه الحال، فحابسه معرّض للقتل قصاصًا أو دفع الدية، فكيف بما حدث في بعض السجون؟ إنه دليل على وحشية ما كان يتعرض له المسجونون؛ حيث كانوا يتناولون رغيف خبز واحد في الصباح ومثله عند المساء.
  •  التجريد من الملابس لما فيه من كشف العورة وتعريض السجين للمرض البدني والنفسي، فكيف بمن يستخدم ما يسمى بـ (مكبس الموتى)، للتخلص من جثث المسجونين سواء بعد إعدامهم أم وضعهم في المكبس وهم أحياء، إن مشاهد هذا المكبس وحبال الشنق وآثار الدماء التي لا تزال عليها وغيرها من مشاهد التعذيب التي فاقت أساليب التعذيب في أي من سجون العالم، أثارت حالة من الصدمة والغضب لمن رآها فكيف بمن وضع فيها؟

قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بشأن حقوق السجين

من القرارات التي أصدرها مجمع الفقه الإسلامي الدولي بشأن حقوق السجين قرار رقم: 191 (20/6) الذي شمل توصيات عدة تحفظ حقوق السجين وهي:
  • ضرورة الإشراف على السجون من خلال جهة مستقلة ترعى حقوق السجناء، مع مراقبة السجون وعقاب من يعتدي على تلك الحقوق.
  • قيام الدول الإسلامية ببناء السجون وفقًا لأنظمة تراعي حقوق الإنسان وكرامته، وتضمن سلامة السجناء وتكفل حقوقهم.
  • عدم تقييد حرية الأشخاص إلا بموجب حكم قضائي يصدر وفق الضمانات القضائية التي تحقق العدالة وتجنّب الظلم والتعسف.
  • العناية بالجوانب الاقتصادية للسجناء وتأهيلهم وتدريبهم على حرف مفيدة يستفيدون منها في أثناء قضاء مدة العقوبة وبعد انتهائها، مع كفالة أجر عادل مقابل ما يقومون به من أعمال.
  • كفالة حق السجين في اللقاء الاجتماعي مع أسرته وأصدقائه المعروفين بالاستقامة، والسماح بتنظيم لقاءات بين الزوج وزوجته، مع المحافظة على خصوصيتهما.
  • كفالة جميع الحقوق التي قررتها الشريعة للسجناء، ومن ذلك حقهم في المأكل المناسب، والملبس اللائق، ودورات المياه النظيفة، مع تمكين السجناء من الطهارة.
  • تمكين السجناء من ممارسة شعائرهم الدينية بحرية مع الاهتمام بتعليمهم، والتركيز على التعليم الديني، وتيسير تواصلهم في داخل السجون مع الوعاظ والمرشدين.
  • سن تشريعات لتعويض السجناء الذين تثبت براءتهم، وكذلك تعويض السجناء المعتدى عليهم، مع محاسبة المسؤولين عن الإساءات.
  • تنظيم دورات للسجناء والمسؤولين عن السجون للتعريف بحقوق كل منهم وواجباته.
 

ابن باز: من حق ولي الأمر تأديب من خالف الحق من الدعاة وسجنه

      أكد الشيخ العلامة عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله- أنَّ المسلم قد يفعل ما يوجب سجنه؛ فالمسلم قد يتعاطى ما يوجب سجنه من عدوانه على بعض الناس، ومن أخذه أموال الناس، ومن عدوانه على الناس حتى يقام عليه العقوبة وما يستحق من تعزير، أو حد، أو نحو ذلك، فليس بمستنكر، إنما المستنكر أن يسجن بغير حق، أو يسجن في طاعة الله، ورسوله، هذا هو المستنكر، أما كون السجون يوجد فيها مسلمون، فهذا من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، لابدّ أن من تعدى الحدود -وإن كان مسلمًا- لابدّ أن يمسك حتى ينفذ فيه أمر الله، وقد يطول سجنه، وقد يقصر على حسب حال الحاكم، وتنفيذه لشرع الله، وعلى حسب الجريمة قوة، وخفة، إلى غير ذلك من الأسباب.

ذكر السجن في القرآن الكريم

        جاء ذكر السجن في سورة يوسف -عليه السلام- في الآيات التالية: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (25)، وقوله -تعالى-: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، وقوله -تعالى-: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (39). وجاءت الإشارة إلى معنى السجن في قوله -تعالى-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال:30)، قال ابن عاشور -رحمه الله تعالى-: ومعنى: {ليُثبتوك} أي ليحبسوك، يقال أثبته إذا حبَسه ومنعه من الحركة وأوثقه، والتعبير بالمضارع في {يثبتوك}، و{يقتلوك}، و{يخرجوك}؛ لأن تلك الأفعال مستقبلة بالنسبة لفعل المكر؛ إذ غاية مكرهم تحصيل واحد من هذه الأفعال.

      وأشارت الآية إلى تردد قريش في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين اجتمعوا للتشاور في ذلك بدار الندوة في الأيام الأخيرة قُبيل هجرته، فقال أبو البختري: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق وسُدوا عليه باب بيت غير كَوة تُلْقون إليه منها الطعام، وقال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل بَطن في قريش فتىً جَلْداً فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفاً ويأتون محمداً في بيته فيضربونه ضربة رجل واحد؛ فلا تقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها؛ فيأخذون العقل ونستريح منه، وقال هشام بن عَمرو: الرأي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظْهُرِكُم فلا يضركم ما صنع».

إشارة أخرى إلى معنى السجن

       وهناك إشارة أخرى إلى معنى السجن وربما استدل بها على مشروعيته في قوله -تعالى-: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (النساء:15)، ودل على مشروعية السجن قول الله -تعالى-: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة:5).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك