رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د/ وليد بن محمد بن عبدالله العلي 17 أغسطس، 2010 0 تعليق

الروض الأنيق في الفوائد المستنبطة من قصة يوسف الصديق (11)

 

الجزء الثاني والعشرون

الفوائد المستنبطة من قول الله تعالى: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم} (يوسف: 76).

الفائدة السبعون:

إن المكر والخداع حسن إذا كان على وجه المقابلة لا على وجه الظلم؛ كما قال تعالى: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون}، وقال: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}، وقال: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم}. وأخبر تعالى أنه كاد ليوسف في مقابلة كيد إخوته (إعلام الموقعين 3/368).

 

الفائدة الحادية والسبعون:

كيد الله سبحانه لا يخرج عن نوعين:

أحدهما: أن يفعل سبحانه فعلا خارجا عن قدرة العبد الذي كاد له؛ فيكون الكيد قدرا محصنا ليس من باب الشرع، كما كاد الذين كفروا بأن انتقم منهم بأنواع العقوبات، وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام؛ فإن يوسف أكثر ما قدر عليه أن ألقى الصواع في رحل أخيه، وأرسل مؤذنا يؤذن: {أيتها العير إنكم لسارقون}. فلما أنكروا قال: {فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه}، أي: جزاؤه استعباد المسروق ماله للسارق، إما مطلقا، وإما إلى مدة، وهذه كانت شريعة آل يعقوب عليه السلام، حتى قيل: إن مثل هذا كان مشروعا في أول الإسلام أن المدين إذا أعسر بالدين استرقّه صاحب الحق، وعليه حمل حديث بيع النبي[ سُرَق.

وقيل: بل كان بيعه إياه إيجاره لمن يستعمله، وقضى دينه بأجرته، وعلى هذا فليس بمنسوخ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى: أن المفلس إذا بقيت عليه ديون وله صنعة: أجبر على إجارته نفسه، أو أجره الحاكم ووفى دينه من أجرته.

وكان إلهام الله تعالى لإخوة يوسف عليه السلام قولهم: {من وجد في رحله فهو جزاؤه}، كيدا من الله تعالى ليوسف عليه السلام، أجراه على ألسن إخوته، وذلك خارج عن قدرته، وكان يمكنهم أن يتخلصوا من ذلك بأن يقولوا: لا جزاء عليه حتى يثبت أنه هو الذي سرق؛ فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب أن يكون سارقا، وقد كان يوسف عليه السلام عادلا، لا يأخذهم بغير حجة، وكان يمكنهم التخلص أيضا بأن يقولوا: جزاؤه أن يفعل به ما تفعلونه بالسراق في دينكم، وقد كان من دين ملك مصر فيما ذكر: أن السارق يضرب ويغرم قيمة المسروق مرتين؛ فلو قالوا له ذلك لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلوم به غيرهم؛ فلذلك قال سبحانه: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله}، أي: ما كان ليمكنه أخذه في دين ملك مصر، لأنه لم يكن في دينه طريق إلى أخذه.

وقوله: {إلا أن يشاء الله} استثناء منقطع، أي: لكن إن شاء الله أَخَذه بطريق آخر.

ويجوز أن يكون متصلا، والمعنى: إلا أن يُهيء الله سببا آخر يؤخذ به في دين الملك غير السرقة. وفي هذه القصة: تنبيه على الأخذ باللوث الظاهر في الحدود؛ وإن لم تقم بينة، ولم يحصل إقرار؛ فإن وجود المسروق مع السارق أصدق من البينة، فهو بينة لا تلحقها التهمة، وقد اعتبرت شريعتنا ذلك في مواضع، منها: اللوث في القسامة، والصحيح: أنها يقاد بها؛ كما دل عليه النص الصحيح الصريح.

ومنها: حد الصحابة -رضي الله عنهم-في الخمر بالرائحة والقيء.

ومنها: حد عمر -رضي الله عنه- في الزنى بالحبل، وجعله قسيم الاعتراف والشهادة، فوجود المسروق مع السارق إن لم يكن أظهر من هذا كله فليس دونه.

فلما فتشوا متاعه فوجدوا فيه الصواع، كان ذلك قائما مقام البينة والاعتراف؛ فلهذا لم يمكنهم أن يتظلموا، ولو كان هذا ظلما لقالوا: كيف يأخذه بغير بينة ولا إقرار؟!

وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب: «الإعلام باتساع طرق الأحكام».

والمقصود: أنه ليس في قصة يوسف عليه السلام شبهة، فضلا عن الحجة لأرباب الحيل؛ فإنا إنما تكلمنا في الحيل التي يفعلها العبد، وحكمها في الإباحة والتحريم، لا فيما يكيد الله سبحانه وتعالى لعبده، بل في قصة يوسف عليه السلام تنبيه على أن من كاد غيره كيدا محرما فإن الله سبحانه وتعالى لابد أن يكيده، وأنه لابد أن يكيد للمظلوم إذا صبر على كيد كائده وتلطف به، فالمؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق، فإن الله تعالى يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة، فهذا أحد النوعين من كيده سبحانه لعبده.

النوع الثاني: أن يلهمه أمرا مباحا أو مستحبا أو واجبا يوصله به الى المقصود الحسن؛ فيكون على هذا إلهامه يوسف عليه السلام أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضا، فيكون قد كاد له نوعي الكيد؛ ولهذا قال سبحانه: {نرفع درجات من نشاء}.

وفي ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعي الذي يحبه الله تعالى ورسوله [ من نصر دينه وكسر أعدائه ونصر المحق وقمع المبطل: صفة مدح، يرفع الله تعالى بها درجة العبد، كما أن العلم الذي يخصم به المبطل ويدحض حجته: صفة مدح، يرفع بها درجة عبده؛ كما قال سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام ومناظرته قومه وكسر حجتهم: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء}.

وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع، ولكن ليس هو الكيد الذي تستحل به المحرمات وتسقط به الواجبات؛ فإن هذا كيد لله تعالى ودينه، فالله سبحانه ودينه هو المكيد في هذا القسم؛ فمحال أن يشرع الله سبحانه هذا النوع من الكيد.

وأيضا: فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعي، ومحال أن يشرع الله تعالى لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له.

وأيضا: فإن الأمر المشروع هو عام لا يختص به شخص دون شخص، فالشيء مباح لكل من كان حاله مثل حاله، فمن احتال بحيلة فقهية محرمة أو مباحة لم يكن له اختصاص بتلك الحيلة عمن لا يفهمها ولا يعلمها، وإنما خاصية الفقيه إذا حدثت به حادثة أن يتفطن لاندراجها تحت الحكم العام الذي يعلمه هو وغيره، والله سبحانه إنما كاد ليوسف عليه السلام كيدا خاصا به جزاء له على صبره وإحسانه، وذكره في معرض المنة عليه، وهذه الأفعال التي فعلها يوسف عليه السلام والأفعال التي فعلها الله سبحانه له، إذا تأملها اللبيب رآها لا تخرج عن نوعين:

أحدهما: إلهام الله سبحانه له فعلا كان مباحا له أن يفعله.

الثاني: فعلٌ من الله تعالى به خارج عن مقدور العبد.

وكلا النوعين مباين للحيل المحرمة التي يحتال بها على إسقاط الواجبات وإباحة المحرمات (إغاثة اللهفان 2/158-162).

 

الفائدة الثانية والسبعون:

من جنس معاريض يوسف الصديق عليه السلام حين تفتيش أوعية أخيه عن الصاع، فإن المفتش بدأ بأوعيتهم مع علمه أنه ليس فيها، وأخر وعاء أخيه مع علمه أنه فيها؛ تعريضا بأنه لا يعرف في أي وعاء هو، ونفيا للتهمة عنه؛ لأنه لو كان عالما في أي الأوعية هي لبادر إليها، ولم يكلف نفسه تعب التفتيش لغيرها (مفتاح دار السعادة 3/195).

 

الجزء الثالث والعشرون

الفوائد المستنبطة من قول الله تعالى: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم} (يوسف: 76).

الفائدة الثالثة والسبعون:

إن من نال شيئا من شرف الدنيا والآخرة فإنما ناله بالعلم، وتأمل ما حصل لآدم من تميزه على الملائكة، واعترافهم له بتعليم الله له الأسماء كلها، ثم ما حصل له من تدارك المصيبة، والتعويض عن سكنى الجنة بما هو خير له منها بعلم الكلمات التي تلقاها من ربه.

وما حصل ليوسف من التمكين في الأرض والعزة والعظمة بعلمه بتعبير تلك الرؤيا، ثم علمه بوجوه استخراج أخيه من إخوته بما يقرون به ويحكمون هم به، حتى آل الأمر إلى ما آل إليه من العز والعاقبة الحميدة، وكمال الحال التي توصل إليها بالعلم، كما أشار إليها سبحانه في قوله: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم}.

جاء في تفسيرها: نرفع درجات من نشاء بالعلم، كما رفعنا درجة يوسف على إخوته بالعلم (مفتاح دار السعادة 1/521).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك