
الحكمــــة ضالـــة المؤمـــــن {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}
طهارة النفس تتحقق بإصلاح الفكر بالتعلم حتى يميز الحق والباطل في الاعتقاد، وبين الصدق والكذب في المقال، وبين الجميل والقبيح في الفعال
اهتم القرآن الكريم بشخصية المسلم اهتماما كبيرا تمثّل في النصوص الشرعية، والمبادئ العامة، والأحكام التفصيلية التي تناولت الجوانب العقدية والعملية والأخلاقية للمسلمين.
فالقرآن الكريم في بنائه للشخصية الإسلامية المتميزة لم يترك تحديد سمات تلك الشخصية ومعالمها لاجتهادات البشر أو أهوائهم أو عاداتهم وتقاليدهم، بل بيّن بكل وضوح صفات تلك الشخصية التي يريد للمسلمين أن يكونوا عليها ويتصفوا بها، من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي ذكرت صفات المؤمنين، وسمات المتقين، على سبيل الإجمال تارة، وعلى سبيل التفصيل تارة أخرى؛ بحيث تكون تلك الصفات والسمات معايير عامة وتفصيلية لبناء الشخصية الإسلامية، تحدد بدقة مدى قرب المسلم أو بعده من تلك الشخصية المطلوبة، وهذا من جملة بيان القرآن الكريم الذي امتن الله -تعالى- به على عباده فقال سبحانه: { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(النساء: 176).
والمجاهدة من أبرز معالم الشخصية الإسلامية، والمقصود بالمجاهدة العمل على تزكية النفس بترسيخ الفضائل، والتخلص من الرذائل، ويذهب الشيخ ابن عثيمين إلى معنى أوسع وأشمل فيقول: المجاهدة تعني مجاهدة الإنسان نفسه ومجاهدة غيره، فأما مجاهدة الإنسان نفسه فإنها من أشق الأشياء، ولا تتم مجاهدة الآخر إلا بمجاهدة النفس أولاً، ومجاهدة النفس تكون بأن يجاهد الإنسان نفسه على شيئين: على فعل الطاعات، وعلى ترك المعاصي؛ لأن فعل الطاعات ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه، وترك المعاصي كذلك ثقيل على النفس إلا من خففه الله عليه، فتحتاج النفس إلى مجاهدة ولاسيما مع قلة الرغبة في الخير، فإن الإنسان يعاني من نفسه معاناةً شديدة؛ ليحملها على فعل الخير».
- والمجاهدة في اللغة: مصدر جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة، وأصل المادة يدل على المشقة، قال ابن فارس: الجيم والهاء والدال أصله المشقة، ثم يحمل عليه ما يقاربه، يقال : جهدت نفسي وأجهدت، والجهد: الطاقة، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ}(التوبة: 79).
- وأما المجاهدة في الاصطلاح: ففي التعريفات للجرجاني (المجاهدة): محاربة النفس الأمارة بالسوء بتحميلها ما يشق عليها بما هو مطلوب في الشرع، وزاد المناوي: هي حمل النفس على المشاق البدنية ومخالفة الهوى.
وقال ابن حجر: المراد بالمجاهدة: كف النفس عن إرادتها من الشغل بغير العبادة.
والمسلم -كما يصوره القرآن الكريم- ساع في تكميل نفسه بالفضائل وتطهيرها من الرذائل، كما أنه يسعى في تكميل غيره بالدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو في جهاد مستمر، وتزكية دائمة، ولهذا فإنه يستحق هداية الله وتوفيقه كما وعده الله -عز وجل- في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(العنكبوت: 69).
قال الطاهر: ومعنى جاهدوا فينا؛ جاهدوا في مرضاتنا والدين الذي اخترناه لهم والهداية: الإرشاد والتوفيق بالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي، أي لنزيدنهم هدى. وسبل الله: الأعمال الموصلة إلى رضاه وثوابه، شبهت بالطرق الموصلة إلى منزل الكريم المكرم للضيف.
والمراد بالمحسنين جميع الذين كانوا محسنين، أي كان عمل الحسنات شعارهم وهو عام . وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم في عداد من مضى من الأنبياء والصالحين. وهذا أوقع في إثبات الفوز لهم مما لو قيل: فأولئك المحسنون؛ لأن في التمثيل بالأمور المقررة المشهورة تقريرا للمعاني».
ويقول القرطبي: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} أي جاهدوا الكفار فينا؛ أي: في طلب مرضاتنا. وقال السدي وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال . قال ابن عطية : فهي قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين وقمع الظالمين، وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله وهو الجهاد الأكبر.
وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون. وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوْا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ}(البقرة: 282).
وقال عبد الله بن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا». وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الأقوال.
وقال في البحر المحيط: {والذين جاهدوا فينا}: أطلق المجاهدة، ولم يقيدها بمتعلق، ليتناول المجاهدة في النفس الأمارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين، وما ورد من أقوال العلماء، فالمقصود بها المثال. قال ابن عباس: جاهدوا أهواءهم في طاعة الله، وشكر آلائه، والصبر على بلائه.{لنهدينهم سبلنا}: لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير، كقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(محمد: 17). وقال السدي: جاهدوا فينا بالثبات على الإيمان، لنهدينهم سبلنا إلى الجنة.
وقال ابن بطال: جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال الله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿40﴾فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ }(النازعات: 40 - 41) الآية، ويقع بمنع النفس عن المعاصي، وبمنعها عن الشبهات، وبمنعها من الإكثار من الشهوات المباحة لتتوفر لها في الآخرة، قال ابن حجر: ولئلا يعتاد الإكثار فيألفه فيجره إلى الشبهات فلا يأمن أن يقع في الحرام.
كما أن مجاهدة النفس أساس لتهيؤ الإنسان للخلافة في الأرض، كما قال الراغب الأصفهاني: لا يصلح لخلافة الله، ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه إلا من كان طاهر النفس، قد أزيل رجسها ونجسها؛ فللنفس نجاسة كما أن للبدن نجاسة، لكن نجاسة البدن قد تدرك بالبصر، ونجاسة النفس لا تدرك إلا بالبصيرة، وإياها قصد تعالى بقوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ}(التوبة: 28).
وقال -رحمه الله- مبينا وسيلة طهارة النفس: الذي يطهر به النفس حتى يترشح لخلافة الله تعالى، ويستحق به ثوابه هو العلم والعبادات الموظفة التي هي سبب الحياة الأخروية، كما أن الذي يطهر البدن هو الماء الذي هو سبب الحياة الدنيوية، ولذلك سماها الحياة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24)، فسمى العلم والعبادة حياة من حيث إن النفس متى فقدتهما هلكت هلاك الأبد.
وطهارة النفس تتحقق بإصلاح الفكر بالتعلم حتى يميز الحق والباطل في الاعتقاد، وبين الصدق والكذب في المقال، وبين الجميل والقبيح في الفعال، وإصلاح الشهوة بالعفة حتى تسلس بالجود، والمواساة المحمودة بقدر الطاقة، وإصلاح الحمية بإسلاسها حتى يحصل التحكم وهو كف النفس عن قضاء وطر الخوف وعن الحرص المذمومين، وبإصلاح هذه القوى الثلاث يحصل للنفس العدالة والإحسان.
لاتوجد تعليقات