
التكوين العلمي الربانيّ
- مهمة الرسول ومن يقوم مقامه هو بيان الشرع وتقريب العلم والقيام على تربية الناس تربيةً علميةً إيمانيةً لا تربية وعظية فلسفية ولا تربيةً خطابيةً جدليةً
- البناء العلمي الصحيح للمسلم لا يتحقق إلا إذا توسطت التزكية بين تلقي القرآن والتعليم فالتزكية هي ثمرة السماع للقرآن وهي الدافع إلى التعليم
قال -تعالى-: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}، اشتملت هذه الآية على حقائق مهمة في باب التكوين العلمي التربوي لطالب العلم نبينها في هذه المقالة.
- الحقيقة الأولى: بيان مقاصد الرسالة النبوية، فهذه الأمور المذكورة في الآية تدور عليها مقاصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الوحي وبيانه.
- الحقيقة الثانية: مهمة الرسول ومن يقوم مقامه، مهمة الرسول ومن يقوم مقامه هو بيان الشرع وتقريب العلم، والقيام على تربية الناس تربيةً علميةً إيمانيةً، لا تربية وعظية فلسفية، ولا تربيةً خطابيةً جدليةً.
- الحقيقة الثالثة: التدرج في التبليغ والتعليم والتربية، فقد اشتملت الآية على مراتب التعليم والتربية، ودرجات التبليغ والتزكية.
- الحقيقة الرابعة: الاعتناء النوعي بالمخاطب؛ إذا المقصود هو: سماع القرآن وتزكية النفس وتعليمهم الدين والأحكام.
- الحقيقة الخامسة: الكمال لا يتحقق والجهل بجميع أنواعه لا يزول ولا يرفع إلا بتعليم الرسول وتزكيته؛ فالآية جمعت بين ضبط الرواية وإتقان الدراية وحسن الرعاية.
التزكية والعلم والحكمة
- الحقيقة السادسة: أن هذه المطالب الثلاثة: (التزكية والعلم والحكمة)، لا تتحقق إلا بالاكتساب والسعي والاجتهاد؛ فمصدر التلقي يكون من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو السبب والوسيلة؛ لهذا أسندت الآية المطالب إليه، والعمل بهذه الثلاثة يكون من المخاطب المكلف.
- الحقيقة السابعة: جاءت الآية بالتخلية والتحلية، فذكر التزكية في الآية من باب التخلية وذكر التعليم من باب ذكر التحلية؛ فكل علم لا يسبق بالتزكية يبقى ناقصًا.
- الحقيقة الثامنة: أن تلاوة الآيات تقوي الاعتقاد، والتزكية تقوي الإيمان والانقياد، وتعليم الكتاب والحكمة يقوي جانب فهم الأحكام؛ لهذا اشتملت الآية على أسباب تصحيح الاعتقاد والانقياد والأخلاق.
حقيقة علمية علاجية واقعية
- الحقيقة التاسعة: حقيقة علمية علاجية واقعية، وهي أن البناء العلمي الصحيح للمسلم لا يتحقق إلا إذا توسطت التزكية بين تلقي القرآن والتعليم؛ فالتزكية هي ثمرة السماع للقرآن وهي الدافع إلى التعليم؛ لهذا سيخرج جيل يتربى بالتربية العلمية الإيمانية، فالترتيب بين هذه المراحل الثلاثة في الوجود والوجوب والتطبيق من أسباب نهضة الأمة ويقظتها؛ لهذا كانت تربية الصحابة -رضي الله عنهم- تربية قرآنية سنية إيمانية علمية.
مراحل التكوين العلمي الرباني
- الحقيقة العاشرة: مراحل التكوين العلمي الرباني، دلت الآية على أن التكوين العلمي الرباني يمرّ بثلاث مراحل:
- المرحلة الأولى: المرحلة التأسيسية، وهي المرحلة التمهيدية للعلوم؛ فيتلقى طالب العلم في هذا المرحلة أمرين: الأول- يتلقى مجمل العلوم بما فيها تلقي القرآن، يتلقى منه ما يستطيع ضباطًا وتلاوةً؛ فيأخذ من كل علم أصوله ومجمله، والثاني- هو أن يأخذ كليات الدين ومجمل الاعتقاد، فهذه المرحلة تدور على الأخذ بمجمل العلوم والإيمان.
- المرحلة الثانية: وهي المرحلة التربوية، وهي مرحلة ترسيخ الإيمان وتهذيب الأخلاق والاعتناء بجانب الإعداد.
- المرحلة الثالثة: وهي مرحلة (تلقي مفصل العلوم والاعتقاد)؛ فيأخذ طالب العلم مفصل العلوم الشرعية ومفصل مسائل الاعتقاد والأحكام.
أهداف كل مرحلة وغاياتها
ولكل مرحلة من هذه المراحل كتبها وشيوخها ومنهجيتها ومدارسها وطلابها ومقاصدها، ويمكن أن يقال على سبيل الإيجاز: إن المرحلة الأولى موضوعة للاعتناء بالألفاظ ومجمل الاعتقاد، والمرحلة الثانية موضوعة لتهذيب النفوس وإصلاح القلوب، والمرحلة الثالثة موضوعة لمعرفة مقاصد الوحي من القرآن والسنة على سبيل التفصيل والإتقان. فهذه عشرة كاملة من الحقائق النافعة والمراحل المتدرجة، وهي أصح الطرائق للتكوين العلمي الربانيّ الدعوي والفقهي، الأساسي والتكميلي، الإجمالي والتفصيلي.وصايا مهمة لطالب العلم
هذه وصايا مهمة لطالب العلم؛ حتى يحقق المقصود منه، ويكون على قدر هذه المسؤولية الجسيمة، ويحمل بإخلاص تلك الأمانة العظيمة، ويكون عند الله مقبولاً.أولاً: الإخلاص
الإخلاص هو الركن الأول في قبول جميع الأعمال ولا سيما طلب العلم، فيجب على طالب العلم أن يخلص عمله لله -عزوجل- أولاً وآخرًا، والحذر كل الحذر من الرياء والسمعة! فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يوْمَ الْقِيامَةِ ... وذكر منهم: رَجُل تَعلَّم الْعِلّمَ وعَلَّمَهُ، وقَرَأ الْقُرْآن، فَأتِىَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمهُ فَعَرَفَهَا قالَ: فمَا عمِلْتَ فِيهَا؟ قالَ: تَعلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأتُ فِيكَ الْقُرآن، قَالَ: كَذَبْتَ، ولكِنَّك تَعَلَّمْت الْعِلْمَ وَعَلَّمْتهُ، وقَرَأت الْقرآن لِيقالَ: هو قَارِئ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أمِرَ، فَسُحِبَ عَلى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ في النَّارِ».ثانيًا: البدء في الأهم فالأهم
ينبغي لطالب العلم ان يرّتب أولوياته في طلب العلم، ولا يشك أحد أن أهم ما يبتدئ به أي مسلم في تفقهه في الدين هو القـرآن الكريم ثم الحـديث الشريف، وكذلك فإن من أهم ما ينبغي الحرص عليه العقيدة الصحيحة الموافقة للقـرآن والسـنة بفهم سلف الأمة، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما يبدئ به في دعوته وتعليمه للناس هي كلمة التوحيد لا إله إلا لله والتحذير من الشرك.ثالثًا: التدرج في طلب العلم
التدرج في طلب العلم مهم جدا، وحتى تكون البداية موفقة ومباركة، ينبغي لطالب العلم أن يبدأ بالمتون والكتب الصغيرة، ثم الصعود إلى ما هو أعلى منها وهكذا.رابعاً: الدراسة على يد عالم أو شيخ
وهذا الأمر مهم جدا، ولا سيما لمن يمكنهم ذلك، الذين يعيشون بالقرب من العلماء والدعاة المشهود لهم بالخير والصلاح؛ فليس هناك أمر يعوض طلب العلم مشافهةً، وإن كان به شيء من الصعوبة من ناحية الالتزام بالمواعيد المحددة والتفرغ، إلا أن هذه الصعوبة سوف يدرك طالب العلم قيمتها وبركتها عاجلاً أو آجلاً، ولا سيما في قراءة القـرآن الكريم وتجويده.خامسًا: التأني وضبط الحماس
الكثير من الشباب في بداية طريقهم في طلب العلم يأخذهم الحماس، ويكلفون أنفسهم فوق طاقتهم، ولربما تمكنوا منها في أول الأمر، ولكن لا يلبثون أن يملوا ويتعبوا منها؛ مما قد يؤدي إلى أن يملوا طلب العلم جملةً وتفصيلا؛ ولذلك يجب عليهم أن يتأنوا في طلب العلم، ويسيروا وفق خطوات مرتبة ومعروفة، وفي مدة مدروسة، ليست بالقصيرة جدا أو الطويلة، ولكن بحسب قدرات الشخص التي يراها في نفسه.
لاتوجد تعليقات