
التعريف بمراتب الدين
الحاجة للتذكير اليوم أصبحت واجبة امتثالا لقول الله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} (الذاريات: 55)، ثم أعقبها الله بقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: 56). وقد اقتضت حكمة الله الصراع بين الحق والباطل وهو أمر قديم وسببه عظيم وهو الخلاف: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} (هود: 118) وذلك بعزوف كثير من الناس - ولاسيما من يُوصفون بالمثقفين - عن أخذ العلم الشرعي من مصادره الحقة، وأخذهم من غير العلماء المختصين تعصبا لمذهب أو طريقة، أو موطن أو سلوك ورثوه، أو منهج نشأوا عليه فاتبعوه.
التعريف بمراتب الدين: الإسلام، والإيمان، والإحسان من حيث كونها علما وعملا، ظاهرا وباطنا، قولا واعتقادا، إلزاما من الله والتزاما من العباد، وتحقيقها يكون بالإيمان بها والإسلام لها والإحسان فيها وللتذكير بذلك:
أولا: مراتب الدين كلها تجتمع في الإسلام والإيمان والإحسان، يُلخصها لنا حديث عمر بن الخطاب ] الصحيح المشهور، قال: «بينما نحن عند رسول الله [ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي [ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله الإسلام: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسولا الله[ وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك..» الحديث. وبذلك نعلم أن مراتب الدين هي: إسلام، وإيمان، وإحسان».
ثانيا: التعريف بالإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، وهو دين الله ودين الرسل {إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19)، ولا يقبل غيره: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران: 85)، وقد ارتضاه الله لعباده، بقوله: {ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة: 3).
ثالثا: التعريف بالإيمان: عبر عنه السلف بأقوال متقاربة بين مختصر ومتوسع، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان تارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية. وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة. وكل هذا صحيح والمقصود هنا أن من قال: الإيمان قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعا. (أي) أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح؛ (وهو بمعنى من قال: هو قول وعمل ونية) ومن قال هو قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولا بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولا وعملا ونية بلا سنة فهو بدعة. انتهى.
فالإيمان قول، يقول الله: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} (البقرة: 136) وهو عمل: {ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا} (طه: 75)، وهو نية «إنما الأعمال بالنيات» وهو اتباع: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} (آل عمران: 31).
رابعا: أما الإحسان، فقد عرفه رسول الله [: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ومن آيات الإحسان، قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} (النحل: 90)، وقوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: 26). وقال تعالى: {وكذلك نجزي المحسنين}، وهي آية تكرر ذكرها في القرآن، مما يشعر بأن الجزاء إنما هو على الإحسان في العمل لا مجرد العمل فقط، فالابتلاء بحسن العمل، لا بكثرته، كما قال الله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} (الملك: 2)، ومنهج الإحسان في العمل هو الاتباع لقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (الأحزاب: 21).
خامسا: علاقة الإسلام بالإيمان، من حيث اللغة هنا فرق بينهما، فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الوحدانية: (لا إله إلا الله) غير شهادة الرسول، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد. كذلك فالإيمان والإسلام كشيء واحد فلا إيمان لمن لا إسلام له: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} (البقرة: 25) ولا إسلام لمن لا إيمان له؛ {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون} (الأنبياء: 94) وكذا الفرق لمن لم يدرك حقيقتهما، يقول الله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} (الحجرات: 14) والتدرج بالتعريف بالدين، فقوله [: «هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم» فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فتبين أن تلك الثلاثة هي درجات الدين: مسلم، ثم مؤمن، ثم محسن.. فإذا ذكر الإيمان مع الإسلام، فالإسلام هو الأعمال الظاهرة: الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج. والإيمان هو ما في القلب من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. ولأحمد بسنده عن النبي [ أنه قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب» فإذا ذكر أحدهما مجردا؛ دخل فيه الآخر كقوله: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق».. أما علاقتهما بالإحسان، فالإحسان هو الرابطة والوسيلة التي يؤدي بها العمل بالإسلام، والاعتقاد بالإيمان مقترنين على أكمل وجه، يقول الله تعالى: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} (الزمر: 18).
ولقد بليت هذه الأمة بنزاع من حين خرجت بعض الطوائف في الماضي، فمنهم من يكفر صاحب المعصية، واليوم جاء من يقول بالاكتفاء بالادعاء بالإيمان، والله تعالى يقول: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} (البقرة: 85).
سادسا: ومن أثنى الله عليه بالإسلام من الأنبياء وأتباعهم كلهم كانوا مؤمنين كما كانوا مسلمين؛ قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين} (القصص: 52، 53). ولقد أمرنا الله بالإيمان والإسلام، يقول الله تعالى: {وقولوا آمنا بالذين أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} (العنكبوت: 46)، وفي الصحيحين البخاري رقم 7001، ومسلم رقم 24 عنه[ من حديث وفد عبدالقيس قال: «آمركم الإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة...» الحديث. ففسر الإيمان بما فسر به الإسلام، ومن المعلوم أن ضد الإسلام وضد الإيمان واحد وهو الكفر فقال: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم} (آل عمران: 86) وقال: {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} (آل عمران: 80) وقال: {إن الله مع الذين اتقوا} أي: آمنوا فأسلموا وتمام الآية وهو الرابطة: {والذين هم محسنون} (النحل: 128).
سابعا: يثير بعضهم مقولة هل يجوز أن يقول المؤمن «أنا مؤمن»؟.. هناك بعض الخلاف في ذلك ليس في حقيقة قولها ولكن في الكيفية والمقصود من قولها ونستعرض بعض أقوال العلماء:
ففي شرح النووي لصحيح مسلم قال: اختلف العلماء من السلف وغيرهم في إطلاق الإنسان قوله «أنا مؤمن»؟.. فقالت طائفة: لا يقول أنا مؤمن مقتصرا عليه بل يقول أنا مؤمن إن شاء الله، حكى هذا الشافعية.. وذهب آخرون إلى جواز الإطلاق وأنه لا يقول إن شاء الله، وهذا هو المختار وقول أهل التحقيق، وذهب الأوزاعي وغيره إلى جواز الأمرين، والكل صحيح باعتبارات مختلفة، فمن أطلق نظر إلى الحال وأحكام الإيمان جارية عليه في الحال، ومن قال «إن شاء الله» فقالوا فيه إما للتبرك وإما لاعتبار العاقبة وما قدره الله تعالى فلا يدري أيثبت على الإيمان أم يُصرف عنه. والقول بالتخيير حسن صحيح نظرا إلى مأخذ القولين الأولين ورفعا لحقيقة الخلاف. انتهى.
وفي مغني المحتاج للشافعية: لا بدع ولا إشكال في العبارة المعزوة إلى الشافعي رحمه الله في قوله: «أنا مؤمن إن شاء الله» فهي مروية عن عمر وصحت عن ابن مسعود رضي الله عنهما، وهي قول أكثر السلف والشافعية والمالكية والحنابلة وسفيان الثوري. انتهى.
وفي مصنف ابن أبي شيبة: (ح/30968) قال أبوإسحق: «لقيت عبدالله بن معقل ]، فقلت: إن أناسا من أهل الصلاح يعيبون علي أن أقول: أنا مؤمن، فقال عبدالله بن معقل: لقد خبت وخسرت إن لم تكن مؤمنا». وفيه (ح/30969) عن إبراهيم التيمي قال: وما على أحدكم أن يقول: أنا مؤمن، فوالله لئن كان صادقا لا يعذبه الله على صدقه، وإن كان كاذبا لما دخل عليه من الكفر أشد عليه من الكذب. انتهى.
وفي الذخيرة للمالكية: قيل لمالك: أقول أنا مؤمن والله محمود، أو إن شاء الله؟ فقال: قل: مؤمن، ولا تجعل معها غيرها. معناه: لا تقل إن شاء الله، وقال أبوحنيفة وغيره: لا يجوز (أي لا تقل: إن شاء الله) لأن الإيمان يجب فيه الجزم ولا جزم مع التعليق. انتهى.
وفي تفسير السراج المنير: أن ذكر هذه الكلمة (أي إن شاء الله) لا ينافي حصول الجزم والقطع ألا ترى أنه تعالى قال: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} (الفتح: 27).
وفي الفروع وكشاف القناع وغيرهما للحنابلة: «كما لا يفسد الإيمان بقوله أنا مؤمن إن شاء الله غير متردد في الحال» وزاد في الإنصاف: «قال القاضي: وكذا نقول في سائر العبادات لا تفسد بذكر المشيئة في نيتها» وفي مجموع الفتاوى: «قال الميموني: سألت أحمد بن حنبل عن رأيه في: أنا مؤمن إن شاء الله؟ فقال: أقول: مؤمن إن شاء الله وأقول: مسلم ولا أستثني» وفي مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية: ولهذا استثنى ابن مسعود] وغيره في الإيمان فكان يقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله فإن الإيمان المطلق الكامل يقتضي أداء الواجب وأحدهم لا يعلم بيقين أنه أدى كل الواجب كما أمر، ولئن أداه فهو فضل من الله ورحمة، فلهذا استثنوا فيه. انتهى.
أما قول الله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} (الحجرات: 14)، فقال المفسرون: نزلت في بني أسد وهي قبيلة كانت تجاور المدينة أظهروا الإسلام وفي الباطن إنما يريدون المغانم وعرض الدنيا ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهؤلاء المدعين للإيمان لم تؤمنوا، أي لم تصدقوا بقلوبكم ولكن قولوا أسلمنا، أي استسلمنا.
وقولهم: من قال: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى فليس له من الإسلام نصيب، وأمثاله قالوا عنها: ضعيفة أو موضوعة، ففي عمدة القاري: قال: وفي كل ذلك نظر. وفي روح المعاني قال: موضوع باتفاق المحدثين، وفي اللآلئ المصنوعة قال: رواه وضعفه محمد بن تميم.
الخلاصة: جواز أن يقول المؤمن: «أنا مؤمن» وإن شاء قال معها: «إن شاء الله» للتبرك ورجاء الثبات ولاعتبار العاقبة وما قدره الله تعالى، فلا يدري أيثبت على الإيمان أم يصرف عنه، ولا يعلم أحد بيقين أنه أدى كل الواجب كما أمر الله.. ولكن لا تقال للشك، قال الله عز وجل: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} (الحجرات: 15)، ولا للتزكية والإعجاب لقوله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (النجم: 32)، والله أعلم.
لاتوجد تعليقات