رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. هايل عبد المولى طشطوش 7 ديسمبر، 2015 0 تعليق

البيئة المستدامة في الوعي الاقتصادي الإسلامي

 أمر الإسلام بالتعامل برفق وإحسان مع كل شيء، ولاسيما مع المقدرات التي تخدم حياة الإنسان وتسهلها؛ وعليه أن يتعامل مع البيئة برفق وإحسان، فكما يأخذ منها عليه أن يعطيها

دعا الإسلام إلى العمل والجد وتنمية البلاد عمرانيا واقتصاديا من خلال العمل بالأرض وزراعتها، فقد نهى الإسلام عن ترك  الأرض قاحلة بورا بغير زراعة

الإسراف يفضي إلى مشكلات بيئية، لا يقتصر تأثيرها على الإنسان وحده، بل يمتد ليشمل باقي الأحياء

 

 

لقد جاء الإسلام دينا شاملا عاما، اتسع لكل ما يمكن أن يخطر على بال البشر، واحتضن كل ما يمكن أن تفرز مستجدات الحياة، ومن القضايا المهمة التي تناولها الإسلام بالاهتمام والنظر: قضية البيئة والحفاظ عليها وديمومتها، في إطار ما أصبح يعرف اليوم بالاستدامة، حيث عرف الإسلام الاستدامة منذ مجيئه، والأدلة على ذلك واضحة للعيان، فمعظم تعاليمه وإرشاداته للخلق تصب في إطار الاستدامة، ولا أدل على ذلك من تعاليمه في مجال الاستهلاك بمفهومة الشامل، وفي هذه المقالة نقدم تصور الإسلام لبيئة مستدامة هدفها خدمة الأجيال الحالية، وحماية الأجيال القادمة، والحفاظ على مصالحها، وقد قدم الإسلام عددا من التصورات الواعية في مجال بناء بيئة مستدامة، ولعل من أبرز هذه التصورات ما يلي:

أولا: حماية البيئة من الفساد والضرر والتلف:

دعا الإسلام إلى الحفاظ على البيئة ومقدراتها من الثروات والخيرات الطبيعية، وحرم الإفساد فيها من خلال قطعها، أو تلويثها، أو إتلافها؛ لأن ذلك حق من حقوق الإنسان، وحمايته من الضرر  الذي يلحق  ﻋﻨﺎﺻﺮ ﺍﻟﺒﻴﺌﺔ ﺍﻟتﻱ تقوم  حياته ﻋﻠﻴها واجب.

     بل ذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك؛ حيث أمر بالتعامل برفق وإحسان مع كل شيء، ولاسيما مع المقدرات التي تخدم حياة الإنسان وتسهلها؛ حيث إن تحقيق مبدأ التنمية المستدامة يتطلب من الإنسان أن يتعامل مع البيئة برفق وإحسان، فكما يأخذ منها عليه أن يعطيها، وعليه أن يراعي حقوق البيئة كما يرعى حقوق الإنسان،  قال رسول الله[: «إن الله كتب  الإحسان على كل شيء...»، ومن مظاهر الدعوة إلى عدم إفساد البيئة وتلويثها، قوله[: «لا يبولن الرجل في الماء الدائم ثم يغتسل منه»، كما شدد الإسلام على عدم تلويث الجو وإفساده بالدخان والأبخرة والأتربة والمخلفات والروائح القذرة؛  حيث روي عن الرسول[  أنه قال: «لا يؤذ أحدكم جاره بقتار قدره»، أي بريح طعامه، فإذا كان الإسلام يشدد على عدم الإيذاء بريح الطعام، فمن الأولى أن لا يؤذي الناس بما هو أسوأ من هذا بكثير، من مداخن تنفث السموم, وروائح مختلفة, وغير ذلك من الأتربة والأدخنه، ودفن النفايات النووية, والتجارب النووية في أعماق البحار التي تؤذي الأحياء المائية, أو في جوف  الصحراء التي تلف ما حولها بأعمدة الرمال وآثار التفجير, التي لا يعلم آثارها الوخيمة إلا الله عز وجل.

ثانيا: الحفاظ على الثروات والموارد الطبيعية وصيانتها:

لا شك أن التنمية المستدامة تحتاج  إلى حماية الموارد الطبيعية اللازمة لإنتاج المواد الغذائية وتوفير مصادر الطاقة ومواد البناء. وتتمثل هذه الموارد في التربة الصالحة للزراعة، ومصادر المياه اللازمة للري، والثروة الحيوانية والبحرية، والمعادن والوقود.

     ومن حرص الإسلام وعنايته بحماية الماء ومصادره من التلوث فقد ذكر الماء في أكثر من ثمانين آية في  القرآن الكريم؛ لأنه أصل الحياة, وعدم تلويثه سواء أكان في الأنهار، أم  في السدود، أم في البرك أم في الأواني أمر مهم، ويعد مجرد الزفير فيه شكلاً من أشكال تلوثها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم  عن الزفير أو النفخ في الإناء الذي يوجد فيه ماء، فكيف إذا لوث بمواد أخرى؟

     وقد ربطت السنة النبوية الشريفة بين التنمية المستدامة والمحافظة على البيئة ورعايتها، كما ربطت بينهما وبين الإيمان، فجعلت إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان، والإحسان إلى البيئة  وما تحتويه من ثروات ومقدرات هو سبب من أسباب رضوان الله سبحانه وتعالى ، والإساءة إليها سبب من أسباب الغضب الإلهي؛ وذلك لأن الإنسان مستخلف مسترعى في هذه الحياة، وعلية أن يحافظ على هذه  الوديعة، ويقوم بواجب الخلافة حق القيام من خلال عمارة حقيقية للكون، واستثمار خيراته واستعماره بما أمر به الخالق جل وعلا؛ حيث خلق الله العالم لكي يعمر:   {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 61)، أي طلب منكم عمارتها. وهذا يعني إحياء الأرض الميتة, واستمرار صيانتها عن طريق غرس الأشجار , و العناية بالتربة والحفاظ عليها من التلوث والانجراف والإفساد.

ثالثا : الترشيد  في الاستهلاك:

     لقد ركز الإسلام في منهجه المحافظ على البيئة بإبراز قيم الرشد والعقلانية في  الاستهلاك، وذلك من خلال الأمر بالتوسط والاعتدال في كل تصرفات المرء؛ حيث قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} البقرة: 143). وكذلك قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، (الأعراف: 31). وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67).

     وقد اهتم الإسلام بهذه القضية، فحثّ الأفراد على الاعتدال في شؤون الحياة كافة، فلا إفراط ولا تفريط، ولا إسراف ولا تقتير، بل جعل عقوبة السرف عذاب جهنم؛ حيث  قال تعالى: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ}(غافر: 43), دعا الإسلام إلى الاقتصاد في الاستهلاك، ومثال ذلك مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم  بسعد بن أبي وقاص و هو يتوضأ, فقال له: «لا تسرف في الماء»، فقال سعد : «و هل في الماء إسراف؟ قال: «نعم, وإن كنت على نهر جار» 1/48 زاد المعاد. 

     ولا شك أن الإسراف يفضي إلى مشكلات بيئية، لا يقتصر تأثيرها على الإنسان وحده، بل يمتد ليشمل باقي الأحياء التي تشاركه الحياة على كوكب الأرض؛ حيث  إن معظم الدراسات التي أجريت حول مشكلات التلوث البيئي أكدت على وجود علاقة وثيقة بين إسراف الإنسان في تعامله مع مكونات البيئة المختلفة، وبين التلوث البيئي بجميع أشكاله.

رابعا: الدعوة إلى النظافة العامة والشخصية:

     لقد شدد الإسلام على قضية النظافة سواء العامة منها أم الشخصية؛ وذلك لأن النظافة المرتكز الأول من مرتكزات حماية البيئة، بل واقترنت النظافة والطهارة في الإسلام بالإيمان، وعد التلوث نجاسة كريهة يجب على المسلمين أن يتطهروا منها؛ لأن الطهور شطر الإيمان، قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} (البقرة: 222)، وقال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}(الفرقان: 48). وقد وردت لفظة (الطهر) في القرآن الكريم أكثر من 30 مرة.

      كما أمر نبينا الكريم بتنظيف البيوت والأفنية؛ حيث ورد في الحديث الشريف: «نظفوا أفنيتكم» . كما أمر بقص الأظافر وتنظيف الشعر  والاستحمام والتطيب، وكل هذه الأفعال هي من مقومات النظافة المؤدية إلى حماية البيئة والمجتمع من التلوث والأمراض والتلف، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31).

     وعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية, والسواك, واستنشاق الماء, وقص الأظافر, وغسل البراجم - أي عقد الأصابع ومفاصلها – ونتف الإبط، وحلق العانة, وانتقاص الماء, والختان».

     هذا وقد جعل الإسلام حماية البيئة ونظافتها من الإيمان, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة, فأفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شعبة من الإيمان»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره, فشكر الله له، فغفر له». 

رابعا: الحفاظ على  التوازن البيئي:

     في مجال المحافظة على التوازن البيئي، دعا الإسلام إلى المحافظة على هذا التوازن. ومن المعروف أن الله خلق كل شيء بقدر؛ حيث   ينظر الإسلام إلى أن ما في الأرض نعم إلهية، يجب على الانسان أن يحافظ عليها ويستغلها بحكمة ورشاد: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49)، وفي هذا إشارة إلى التوازن البيئي. لذلك على الإنسان أن يجعل هذه النظم مصدر نعمة وليس مصدر   نقمة، فالحاجة إلى التعامل معها على أسس عقلانية أمر يؤكده الإسلام؛ حيث حرم الإسلام العبث في موارد الثروة وعناصر البيئة، وحرم التعامل معها  بصورة عشوائية طائشة, كقتل الحيوانات عبثا، وقطع الأشجار، وصيد الطيور بشكل جائر ، قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 85).

     ومن فقه الإسلام في هذا الإطار ما وصى به أبوبكر الصديق يزيد بن أبي سفيان حينما أرسله على رأس جيش إلى الشام، فقال له: وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكله، ولا تغرقن نخلا ولا تحرقنه، ولا تغلل ولا تجبن». 

      وفي مجال الرفق بالحيوان روى ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم  مر عليه حمار قد وُسِم في وجهه، فقال: «لعن الله الذي وسمه»،  وعن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم  خلفه ذات يوم، فأسرّ إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم  لحاجته هدف أو حائش النخل، فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم  حن وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكن، فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتؤدبه»، وعن سهل بن الحنظلية قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة».

لقد ركز المنطق العقائدي في الإسلام على فهم العلاقة بين الإنسان والبيئة والتوازن البيئي؛ وذلك من خلال تشريعات خاصة لحماية البيئة والترشيد في الاستهلاك للموارد والاعتدال في تصرفاته.

خامسا: الدعوة إلى التنمية الاقتصادية والعمرانية مع الحفاظ على الموارد الطبيعية:

     دعا الإسلام إلى العمل والجد وتنمية البلاد عمرانيا واقتصاديا من خلال العمل بالأرض وزراعتها، فقد نهى الإسلام عن ترك  الأرض قاحلة بورا بغير زراعة، بل يدعو للاهتمام بالزراعة، وبيان الغاية منها بالنفع على الإنسان والحيوان، جاء في الحديث الشريف: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة» رواه البخاري. بل لقد عد الرسول عليه السلام غرس الأشجار وتطهير الأنهار، وحفر الآبار، وغيرها من الأعمال النافعة، صدقة جارية؛ حيث قال: «سبع يجري للعبد أجرهن، وهو في قبره بعد موته: من علم علماً، أو كرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس شجرة، أو بنى مسجدا»، وقال أيضا: «من بنى بنياناً في غير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرساً، في غير ظلم أو اعتداء كان له أجراً جارياً ما انتفع به خلق الرحمن».

كذلك فقد دعا الإسلام إلى إحياء الأرض الموات وهذه دلالة على عدم جواز تعطيل الأرض دون زراعة، وإعطائها لمن يزرعها، وهذه دعوة للتشجير والتخضير وزرع الصحراء والأرض البور، «فمن أحيا أرضا ميتة فهي له» .

إن ما قدمناه من مرتكزات للبيئة المستدامة في التصور الاقتصادي الإسلامي إنما هو غيض من فيض، فهذا الموضوع يحتاج إلى الكثير من البحوث والدراسات لتجليته وتبيانه، وسنسعى إلى ذلك في أبحاث ودراسات قادمة بعون الله تعالى .

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك