رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: خالد السبت 24 أغسطس، 2020 0 تعليق

البصيرة في الدين حقيقتها ومراتبها ومنزلتها (3)

 

ما زال الحديث موصولاً عن البصيرة في الدين، وقد بينا أن الحديث عن البصيرة في الدين خلال هذه الأيام ماسة وشديدة، لكثرة ما نشاهده من الفتن، والأمور التي تزلزل الناس؛ فنحن بحاجةٍ إلى مدارسة هذه القضايا حينًا بعد حين، وأن نتذاكر، ونتواصى، ونتناصح، وألا نمل، ولا نفتر من طرح هذه الموضوعات.

  

     قد يقع المؤمن في المعصية، لكنه سرعان ما يتذكر، ويستيقظ إيمانه، وتبقى بصيرته حية، فيرجع إلى ما كان عليه من لزوم الصراط المستقيم، والجادة الصحيحة، ويرجع إلى طاعة ربه - تبارك، وتعالى -، أما الفئة الأخرى وَإِخْوَانُهُمْ فهؤلاء شيءٌ آخر، أي: إخوان الشياطين {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} (الأعراف: 202)، يعني: أن الشياطين تمدهم في الغي، فيبقى الواحد منهم مسترسلاً مع جرائمه، وجرائره، وانحرافاته، وضلالاته، فلا يرجع عنها، بل يُزيَّن له ذلك، ويسأل ربه التثبيت، وغالباً ما يكون ذلك في لونٍ من الانحرافات، وهي التي كانت بسبب الشبهات، وصارت كثيرٌ من الشهوات اليوم تغلف، وتلبس بلبوس الشبهات، فصار أصحابها يسترسلون معها، ويقولون: إن ذلك هو الحق الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم .

     فأهل التقوى يتذكرون، فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم، وتكشفت الغشاوة عن عيونهم، فإذا هم مبصرون، فمس الشيطان عمى يطمس هذه البصائر، أو يضعفها، ولذلك إذا استرسل الإنسان مع هذه المعاصي، والذنوب فإن ذلك يؤدي إلى انطماس بصيرته، وإلى تتابع الذنوب على قلبه، فتنكت فيه نكتة سوداء.

تُعرض الفتن على القلوب

     كما جاء في الحديث: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيّ قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيُ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات، والأرض، والآخر أسود مُربادًّا كالكوز مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه»، يكون كالكأس مقلوباً، لا يبقى فيه شيء من المائع، ولا يستقر فيه، فينتكس قلب الإنسان إذا تتابعت عليه الذنوب.

مواقعة المعصية

     فينبغي على العبد إذا أراد أن يواقع معصية الله -تعالى- أن يتذكر هذا المعنى أولاً، أن بهذا الذنب ستُنكت في قلبه نكتة سوداء، والذنب الآخر يتلوه، ويتبعه، فهي كالحصير تعرض على القلوب عوداً عوداً، متجاورة، متتابعة، متعاقبة، فإذا وقع في الآخر دعاه إلى الذي بعده، حتى يسود القلب، وإذا اسود القلب فإن العبد لا يبصر الحق بعد ذلك، ولذلك تجد أن الكثيرين لا يريدون أن يتوبوا، ولا يفكرون في التوبة.

     وهذا هو السر الذي يفسر حال الكثيرين لربما كان يعاني من مرض عضال، فرجله في القبر، ومع ذلك لا يتوب، ولا يرجع عن المظالم، ولا عن الفساد، والإفساد الذي تسبب فيه، ويبقى على ذلك إلى أن يفارق الدنيا، والسبب في ذلك هو أن هؤلاء تمدهم الشياطين في الغي، ثم لا يقصرون، أي: لا يرعوي، ولا يرجع، ولا تحصل له توبة، ولا يراجع نفسه، ويندم على ما وقع منه.

كيف تتحقق التقوى؟

- الأمر الأول: تتحقق بفعل الطاعات، فإن الطاعة تؤثر في القلب تأثيراً عجيباً، فهي تنور القلب، وتجلوه، وتصقله، وتقويه، وتثبته، حتى يصير كالمرآة المجلوة في جلائها، وصفائها، فيمتلئ نوراً، فإذا دنا الشيطان منه أصابه من نوره ما يصيب مسترق السمع من الشهب الثواقب، كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، ولذلك كان عمر -رضي الله عنه- إذا سلك طريقاً سلك الشيطان طريقاً آخر، فالشيطان يَفْرق، ويخاف من هذا القلب، أشد من فرق الذئب من الأسد، حتى إن صاحبه ليصرع الشيطان، فالطاعات تنور البصائر.

- الأمر الثاني: هو ترك المعاصي؛ لأن الظلمة تحصل للقلب بتتابع هذه الذنوب.

- ثالثاً: هداية الله -تعالى- للعبد، وتوفيقه: فالعبد بحاجة إلى أن يسأل ربه دائماً أن يرزقه بصيرةً في الدين، وأن يهدي قلبه، وذلك لا يحصل إلا بمنّ الله -تعالى- وكرمه، وهدايته، وتوفيقه لعبده، وإلا فإن الشبهات، والشهوات غلابة، والشبه، والفتن خطافة، فتختطف العبد، وهذا الصراط الذي في الدنيا عليه كلاليب، كما أن الصراط المنصوب على جسر جهنم، أو على متن جهنم عليه كلاليب تختطف الناس.

فالعبد بحاجة إلى أن يسأل ربه دائماً: «اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات، والأرض، عالم الغيب، والشهادة، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، فإنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم»، فيكثر من هذا السؤال، والدعاء، والتضرع.

نحن بحاجة إلى هذا الفهم

     يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم، وأقول: يا معلم آدم، وإبراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة، ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب، وأسأل الله، وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني»، فنحن بحاجة إلى مثل هذا، وأن نكثر من دعاء الله -تعالى- والضراعة إليه.

يوسف -عليه السلام

     ويوسف -عليه السلام-، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم دعا ربه، وقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (يوسف: 33 - 34)، وكذلك أيضاً لما خلصه الله -تعالى- ونجاه من فتنة امرأة العزيز، قال الله - تبارك، وتعالى -: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: 24) وفي قراءة متواترة: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ}، فدل ذلك على أن الإخلاص سببٌ للخلاص من الفتن بأنواعها، (فتن الشبهات، وفتن الشهوات).

معرفة الأدلة الهادية

- رابعاً: الدليل الهادي مع السلامة عما يعارضه: فالعبد بحاجة إلى الدليل الهادي، مع السلامة عما يعارضه، والقرآن، والسنة هما أصل تلك الأدلة الهادية، ولكن قد يعرض لذلك شبهات تصرف الإنسان عن الحق، فمن الناس من لا يقف على الدليل أصلاً الذي يوصله إلى مطلوبه من الحق، فربما خفي عليه ذلك، وربما قصر في طلبه، فيقرأ في بعض الفلسفات المترجمة، يقرأ في بعض كتب الغربيين التي ترجمت في فلسفاتهم، ويطلب الكمالات من تلك الفلسفات، فمثل هذا كيف يهتدي؟

      فالعبد بحاجة إلى معرفة الأدلة الهادية، كما أنه بحاجة إلى أن يتخلص، وينفك من كل ما يعارضها من الشبه التي تحول بين العبد، ومعرفة الحق، ولزومه، ومن أدار النظر في أعلام الحق، وأدلته، وتجرد لله - تبارك، وتعالى - من هواه استنارت بصيرته، ورزق فرقاناً يفرق به بين الحق، والباطل كما ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في المدارج(7).

الدلالة التي توجب إبصار النفوس

      ولهذا أطلقت البصيرة على الدلالة التي توجب إبصار النفوس، كما في قوله - تبارك، وتعالى -: {قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (الأنعام: 104)، جَاءَكُمْ بَصَائِرُ أي: ما تبصرون به الهدى من الضلال، والإيمان من الكفر، وهي الحجج البينة الظاهرة، فمن أراد الحق فإن القرآن هو مورده، ومصدره، ومعينه الذي لا ينضب، ومن طلب الهدى في غيره أضله الله تعالى، وقال الله -تعالى- في حق موسى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 43) أي: أنه سببٌ للبصيرة.

التفكر في آيات الله

- خامساً: التفكر في آيات الله، ومخلوقاته، وأن يعتبر في ذلك كله: فحسن التأمل لما نرى، ونسمع من الآيات المشهودة، والمتلوة يثمر صحة البصيرة، كما ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله -، القرآن: أن نتدبره، وأن نتفكر في معانيه، وأن نعتبر بما فيه من القصص، والمواعظ، والعبر، والأمثال، وأن نستخرج ألوان الهدايات، وأن نقرأه بهذا الاعتبار، أنه كتاب هداية، وأن نطلب الهداية منه، وأن نقبل عليه بكليتنا.

أن نقبل عليه إقبالاً صادقاً بقلوبنا، لا أن نقرأ لمجرد تحصيل الأجر، والثواب، فإن ذلك من المطالب التي يُقرأ كتاب الله -تعالى- لتحصيلها، ولكنه أيضاً نزل لهداية القلوب، والنفوس من أجل أن تسلك صراط الله المستقيم.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك