رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: أيمن الشعبان 7 ديسمبر، 2020 0 تعليق

الانتكاس هاجس الصادقين

 

 

الحمد لله الكريم القهار، مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الجبار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار، صلاةً باقية بقاء الليل والنهار، وبعد:

     فمنذ أكثر من عقدين لمّا كنت أقرأ وأطالع بعض الكتب والمراجع والبحوث، في علامات آخر الزمان وأشراط الساعة وظهور الفتن وانتشارها، كان ينتابني بعض الاستغراب والتعجب من بعض الأزمنة وأحوال الناس، كيف تنتكس النفوس وتضطرب الآراء وتتقاذف الأهواءُ القلوب، فترى وتسمع ما لم يخطر على بال وما لم يكن في الحسبان.

تقلب أحوال

 وكما في المثل المعروف (عش رجباً ترى عجباً)، أدركنا هذه الأيام العصيبة مِن تقلب أحوال الناس وتغيّر مواقفهم، مَن يسعى لتحقيق أهدافه ومصالحه بأية صورة أو وسيلة بصرف النظر عن مشروعيتها، وبعيداً عن المبادئ التي تربى عليها، والثوابت التي تلقاها منذ عقود، والقيم التي نشأ عليها.

يُقضى على المرء في أيام محنته

                         حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

     الثبات على الحق غايةٌ شمّر إليها الصادقون، وجاهد في سبيلها المخلصون، وتعاهدها الموفقون المسددون، فعَنْ أَنَسٍ -]- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ».

وفي رواية ابن ماجه: «يا مُثبِّت القلوب: ثبِّت قلبي على دينِك».

 

القلوب بين أصابع الرحمن

وعن النوَّاس بن سَمعان - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من قلبٍ إلا بين أصبعين من أصابِع الرحمن، إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاءَ أن يُزيغَه أزاغَه ».

     فالأمر خطير جدا، فلا يقول قائل: لدي من الخبرة والتجربة والفطنة والحافظة والذكاء، والتاريخ المشرق والتمييز بين الحق والباطل ومعرفة الصواب، والفهم السديد والبصيرة الثاقبة، ما يعصمني من الشطط والخلل والزيغ؛ فهذا خير الخلق صاحب أتقى قلب وأنقاه وأطيبه وأثبته - صلى الله عليه وسلم- يكثر من دعاء ربه وسؤاله الثبات على الدين، ليصبح الانتكاس هاجساً، والتقلب أمراً مقلقاً، نسأل الله العافية والسلامة.

     لنتأمل ونتدبر - يا رعاكم الله- بمُقَلِ أفئدتنا، دعاء الراسخين في العلم وأصحاب العقول السديدة والآراء الراجحة، وسؤالهم ثبات القلب وعدم افتتانه وانتكاسه، بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان ولذة العلم، قال -تعالى-: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}(آل عمران:7-8).

 

القدوات الكبار

     الله أكبر! فماذا نقول أنا وأنت إذا كانت هذه حال هؤلاء القدوات الكبار أهل الفهم والفقه والدراية؟! فالخطب جلل والنازلة عظيمة، فليس العبرة أن ترى نفسك مستقيماً وتسير بطريق صحيح فحسب، إنما العبرة الثبات حتى الممات، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(الحجر:99)، وليست العبرة أن تستقيم كما رغبت وأحببت بل كما يريد الله منك وأمرت به، قال -تعالى-: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}(هود:112).

     وللتوكيد على خطورة الفتن على النفس، كان - صلى الله عليه وسلم- قبيل الانتهاء من صلاته يستعيذ بالله من فتنة المحيا والممات قبل التسليم، يقول ابن دقيق العيد: وَ»فِتْنَةِ الْمَحْيَا» مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ الْإِنْسَانُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، مِنْ الِافْتِتَانِ بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالَاتِ، وَأَشَدُّهَا وَأَعْظَمُهَا - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى-: أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ.

شقِيَ -والله- من عرف الطريق ثم أدبر، وبؤساً لمن ذاق الحلاوة ثم تنكر، وتعساً لمن سلك الدرب ثم تقهقر، وخسر -والله- من عاش على المبادىء والثوابت ثم انحدر، وباع الدرَ النفيسِ بالبعرِ الخسيس! {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}(البقرة:61).

 

مرض خطير

الانتكاس مرض خطير وداء مستطير، يُبتلى به من اقتحم الفتن المدلهمات، طالباً شهرةً أو منصباً أو مميزات، دون حصانةٍ أو تمسك بالمبادىء والثوابت والمسلمات، فتنقلب المفاهيم، وتضطرب الموازين، فيصبح الباطلُ حقاً والحقُ باطلاً، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}(الحج:46).

     لنتأمل بآذان قلوبنا قبل آذان أسماعنا وعيوننا، إخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الفتن التي تقع بوصف عجيب وتهويل شديد، من تتابعٍ وظلمةٍ وخطورة، حتى يصبح متجنبها والهارب منها غريباً بين الناس، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يظهرُ النفاقُ، وتُرفعُ الأمانةُ، وتُقبضُ الرحمةُ، ويُتَّهمُ الأمينُ، ويُؤتمنُ غيرُ الأمينِ، أناخَ بكمُ الشُّرْفُ الجُونُ»، قالوا: وما الشُّرْفُ الجُونُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «فِتَنٌ كَقِطَعِ الليلِ المظلمِ».

يقول الصنعاني: يملأ الآفاق ويسود به الأكوان، كذلك الفتن تسود بها الأديان والدنيا.

قال ابن الأثير: شَبَّه الفِتَن فِي اتِّصالها وامتِدَادِ أوقاتِها بالنُّوق المُسِنة السُّود.

 

     وهنالك أوصاف وأحوال أدق وأخطر وأعجب جاءت عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم-، تستدعي من العقلاء كثرة الاحتراز وسؤال الله الثبات على الحق، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «تَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ أَقْوَامٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».

«ويمسي كافراً»: لما يأتي من عظم الفتنة، «يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل»: لتهاونهم بأمر الدين.

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ليَغْشَيَنَّ أُمَّتِي من بعدي فِتَنٌ كَقِطَعِ الليلِ المظلِمِ، يُصْبِحُ الرجُلُ فيها مؤمنًا، ويُمْسِي كافِرًا، يبيعُ أقوامٌ دينَهم بعرَضٍ منَ الدنيا قليلٍ».

 

الفتن والانقلاب

     «يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ»: أَيْ بِتَرْكِهِ، «بِعَرَضٍ» بِفَتْحَتَيْنِ: أَيْ بِأَخْذِ مَتَاعٍ دَنِيءٍ وَثَمَنٍ رَدِيءٍ. قال النووي في شرح مسلم (2/133): وَهَذَا لِعِظَمِ الْفِتَنِ يَنْقَلِبُ الْإِنْسَانُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ هَذَا الِانْقِلَابَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أَظَلَّتْكُمْ فِتَنٌ، كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، أَنْجَى النَّاسِ مِنْهَا صَاحِبُ شَاهِقَةٍ يَأْكُلُ مِنْ رُسُلِ غَنَمِهِ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ وَرَاءِ الدُّرُوبِ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَأْكُلُ مِنْ فَيْءِ سَيْفِهِ».

وَالْمَعْنَى: كَقِطَعٍ مِنَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ؛ لِفَرْطِ سَوَادِهَا وَظُلْمَتِهَا، وَعَدَمِ تَبَيُّنِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ فِيهَا.

يقول ابن عثيمين: يعني أنها مدلهمة مظلمة، لا يرى فيها النور -والعياذ بالله-، ولا يدري الإنسان أين يذهب، يكون حائراً، لا يدري أين المخرج، أسأل الله أن يعيذنا من الفتن.

قَالَ الْحَسَنُ: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ، صُوَرًا وَلَا عُقُولَ، أَجْسَامًا وَلَا أَحْلَامَ، فَرَاشَ نَارٍ، وَذِبَّانَ طَمَعٍ، يَغْدُونَ بِدِرْهَمَيْنِ، وَيَرُوحُونَ بِدِرْهَمَيْنِ، يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دَيْنَهُ بِثَمَنِ الْعَنْزِ.

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك