
إنمـا مقاطع الحقـوق عنـد الشروط
على المسلم أن يتفقه في دينه، ويتعلم أحكام المعاملات التي يمارسها، كما يتعلم أحكام العبادات التي يتقرب إلى الله بها، ويعرف حقوق الله
الواجبات الشرعية منها ما يجب بإيجاب الشرع ابتداء كالإيمان والعبادات المفروضة، ومنها ما يكون بإيجاب الإنسان على نفسه تجاه الآخر بالعقود والإلزامات، قال شيخ الإسلام: «الواجب إما بالشرع، أو بالشرط، وكل ذلك فعل مأمور به».
فيجب على المسلم الوفاء بالعهود والالتزامات التي وافق عليها عن رضى واختيار، إذا كانت هذه العقود لا تخالف حكماً شرعياً ثابتاً، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1). وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء: 34).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً (أخرجه أبو داود والترمذي). وفي رواية للطبراني: «المسلمون عند شروطهم فيما أحلّ». وفي لفظ للحاكم: «المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك». صححها جميعا الشيخ الألباني رحمه الله
قال الصنعاني: «فقوله: «المسلمون على شروطهم» أي: ثابتون عليها واقفون عندها، وفي تعديتها بـ (على) ووصفهم بالإسلام أو الإيمان دلالة على علو مرتبتهم وأنهم لا يخلّون بشروطهم، وفيه دلالة على لزوم الشرط إذا شرطه المسلم إلا ما استثناه الحديث».
الشروط الجائزة
وقال المنذري: «وهذا في الشروط الجائزة دون الفاسدة، ويدل على هذا قوله: «إلا شرطا حرم حلالا» ويؤيده ما ثبت في حديث بريرة من قوله صلى الله عليه وسلم : «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» وحديث: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».
والشرط الذي يحل الحرام: كأن يشرط نصرة الظالم أو الباغي، والذي يحرم الحلال: كأن يشرط عليه ألا يطأ زوجته أو أمته أو نحو ذلك».
ولا يجوز الإخلال بالشروط بعد الاتفاق عليها بغير عذر، قال شيخُ الإسلام رحمه الله: «وكلُّ مَن شرَط شرطًا ثم نقضَه فقد غدَر، فقد جاءَ الكتاب والسُّنَّة بالأمر بالوفاءِ بالعهود والشروط، والمواثيق والعقود، وبأداءِ الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عنِ الغدر ونقضِ العهود والخيانة، والتشديد على مَن يَفْعل ذلك».
وحث الشرع المطهر على الوفاء بشروط عقد الزواج على وجه الخصوص تعظيما لشأن الزواج، فعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج» متفق عليه
قال ابن حجر: قوله: «ما استحللتم به الفروج» أي: أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح لأن أمره أحوط وبابه أضيق.
الشروط في النكاح
وقال الخطابي: الشروط في النكاح مختلفة، فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقا وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعليه حمل بعضهم هذا الحديث، ومنها ما لا يوفى به اتفاقا كسؤال طلاق أختها. ومنها ما اختلف فيه كاشتراط ألا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله.
وأخرج البخاري في صحيحه تعليقا عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم قَالَ شهِدت عمر فَذكر قصَّة فِيهَا فَقَالَ عمر رضي الله عنه : «إِن مقاطع الْحُقُوق عِنْد الشُّرُوط وَلها مَا اشْترطت».
وفي رَوَاية ابْن أبي شيبَة قال: شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أُتِيَ فِي امْرَأَةٍ جَعَلَ لَهَا زَوْجُهَا دَارَهَا، فَقَالَ عُمَرُ: لَهَا شَرْطُهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: إِذًا يُطَلِّقْنَنَا، فَقَالَ عُمَرُ: «إِنَّمَا مَقَاطِعُ الْحُقُوقِ عِنْدَ الشُّرُوطِ».
عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم قَالَ كنت مَعَ عمر حَيْثُ تمس ركبتي ركبته فَجَاءَهُ رجل فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تزوجت هَذِه وشرطت لَهَا دارها وَإِنِّي أجمع لأمري أَو لشأني أَن أنْتقل إِلَى أَرض كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: «لَهَا شَرطهَا»، فَقَالَ: هَلَكت الرِّجَال إِذا لَا تشَاء امْرَأَة أَن تطلق زَوجهَا إِلَّا طلقت فَقَالَ عمر: «الْمُسلمُونَ عَلَى شروطهم عِنْد مقاطع حُقُوقهم» رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه
قال العيني: «المقاطع: جمع مقطع، وهو موضع القطع في الأصل، وأراد بمقاطع الحقوق: مواقفه التي ينتهي إليها». أي الحقوق تلزم عندما يكون هناك شرط بفعلها. وقال القاضي شريح بن الحارث الكندي: «من شرط على نفسه طائعا غير مكره، فهو عليه» أي يلزمه ما اشترطه.
والشروط في العقود قسمان:
- القسم الأول: شَّرْطِ صَّحِيحِ: وهو ما لا يخالف مقتضى الشرع أو العقد، وحكمه وجوب الوفاء به، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ البَائِعُ عَلَى المُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَ الثَّمَنَ؛ فتَسْلِيمُ الثَّمَنِ وَاجِبٌ؛ لأن هذا من مقتضى العقد وآثاره. وكما لو اشْترطُ أَمْرا مِنْ مَصْلَحَةِ العَقْدِ؛ كَاشْتِرَاطِ الرَّهْنِ، أَوِ اشْتِرَاطِ الحُلُولِ أَوِ التَّأْجِيلِ، أَوِ اشْتِرَاطِ الكَفِيلِ، أَوِ اشْتِرَاطِ صِفَاتٍ فِي المَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ السَّيَّارَةُ مِنَ المُودِيلِ الفُلَانِيِّ، أَوْ أَنْ تَكُونَ السَّيَّارَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَدَوَاتِ السَّلَامَةِ.
وذهب جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهي رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَجَمَاعَةٌ. إلى أَنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي تَكُونُ لِمَصْلَحَةِ العَاقِدِ تعد شُرُوطًا صَحِيحَةً وَلَوْ تَعَدَّدَتْ، مِثل لو اشْتَرَى السَّيَّارَةَ، واشترط على البائع أَنْ يَغْسِلَ سَيَّارَتَهُ لِمُدَّةِ أُسْبُوعٍ يَوْمِيًّا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعَدَدٍ مِنَ الأَدِلَّةِ؛ مِنْهَا:
قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وَالعَقْدُ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ. وحَدِيث: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ»، فَإِنَّ كَلِمَةَ (شُرُوطٍ) تُفِيدُ العُمُومَ. قال شيخ الإسلام: «الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما دل الدليل على خلافه».
الأصل في الشروط الحظر
وَأَمَّا ما ذهب إليه بعض الفقهاء من أن الأصل في الشروط الحظر لحَدِيثُ: « كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ».
فَالجواب أن المُرَاد بِهِ كُلُّ شَرْطٍ خَالَفَ كِتَابَ اللهِ، بِدِلَالَةِ سَبَبِ الحَدِيثِ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الحَدِيثِ أَنَّ قَوْمًا بَاعُوا مَمْلُوكًا وَاشْتَرَطُوا وَلَاءَهُ، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ؛ وَلِذَلِكَ أَبْطَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم .
- وأما القسم الثاني: فهو شَّرْط بَاطِل أو فَاسِد وهُوَ: مَا يخالف الشرع أو ما لا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وحكمه أنه لا يجب الوفاء به.
فمثال الشروط التي تخالف الشرع أن يقرض شخصا مالا، ويشترط عليه أن يرد أكثر مما أخذ، فهذا شرط باطل يبطل العقد؛ لأنه يتضمن الربا المحرم، أو اشترط في عقد النكاح مدة معينة فهذا شرط باطل يبطل العقد؛ لأنه يتضمن نكاح المتعة المحرم.
ومثال الشُّرُوطُ المُنَافِيَةُ لِمُقْتَضَى العَقْدِ؛ كَمَا لَوْ باع السَّيَّارَةَ بِعَشْرَةِ آلَافٍ، عَلَى أَنْ تَبْقَى السَّيَّارَةُ فِي مِلْكه، فهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَافَى مَعَ مُقْتَضَى العَقْدِ.
فعلى المسلم أن يتفقه في دينه، ويتعلم أحكام المعاملات التي يمارسها، كما يتعلم أحكام العبادات التي يتقرب إلى الله بها، ويعرف حقوق الله -تعالى- وحقوق العباد، ويؤديها كاملة غير منقوصة لئلا يلحقه الإثم والمؤاخذة، وبالله التوفيق.
لاتوجد تعليقات