رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات 16 ديسمبر، 2024 0 تعليق

إفراد العبادة لله أهم مقاصد العقيدة 2

  • العبودية لله سبحانه وتعالى مقصدُ مقاصدِ الدين الإسلامي وهي في الوقت ذاته مفتاح سعادة القلب وصلاحه وفلاحه فبينهما تلازم واطراد
  • النافع للعبد هو طاعة الله ولا شيء أنفع له من ذلك وكل ما يُستعان به على الطاعة فهو طاعة وإن كان من جنس المباح
  • الإنسان لا انفكاك له عن العبودية لله بل عزه وكرامته أن يترقى إلى مرتبة العبودية بينما ذلّه وحيرته وضياعه أن يتهاوى في دركات المعاصي
  • التنطع والغلو في الشعائر مع التفريط في الأخذ بالأسباب مذموم ويؤدي إلى الانقطاع عن العبادة وعن العمل
  • أهل السنة يؤكِّدون التلازم بين الظاهر والباطن وأنه لا يمكن أن يكون الإنسان في باطنه عابدًا لله سبحانه وتعالى ثم لا ينقاد لأمر الله تعالى وينتهي عن مناهيه
 

ما زال حديثنا مستمرا عن إفراد العبادة لله -عزوجل-، وأنها من أهم مقاصد العقيدة، وقد ذكرنا أن أول أمرٍ في القرآن كان الأمر بإفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21)، وأول نهيٍ فيه هو النهي عن الشرك: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22)، ثم ذكرنا حقيقة العبودية وأشهر تعريفاتها، ثم تحدثنا عن أهمية مقصد العبودية، وأنها وصية الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأنها أعلى المقاصد وأكملها، وبها وصف الله أولياءَه وأصفياءَه، وأنها غاية المطالب، وأنها المنجيةُ للعبد يوم القيامة.

شمولية مقصد العبودية

             من المعاني الإيمانية الأصيلة التي تكاد تغيب عن أذهان المسلم -اليوم- أنه في كل أحواله يدور حول فلك الغاية العظمى والمقصد الأجلِّ الذي خُلِق له، فمقصد المقاصد هو إخلاص العبودية لله -سبحانه وتعالى-، وقد كان السلف يمتثلون أمر الله -سبحانه وتعالى- ويحيون حياتهم على العبودية في كل أحوالهم كما قال -تعالى-: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 190، 191)، فهنا بيَّن المولى -سبحانه وتعالى- أنهم يعتبرون بخلق السماوات والأرض ويتفكرون فيها، ويتعبدون لله -سبحانه وتعالى- بتأمل خلقهما، في: ارتفاع السماء واتساعها، وانخفاضها وكثافتها وما فيها وما في الأرض من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت، وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار، وحيوان ومعادن ومنافع، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص، وهذا التفكّر مقرونٌ بذكرهم لله -سبحانه وتعالى- في كل أحوالهم قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، والمقصود بكونهم يتفكرون في خلق السموات والأرض أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا من ليس كمثله شيء، ومن هو مالك كل شيء ورازقه، وخالق كل شيء ومدبره، ومن هو على كل شيء قدير، وبيده الإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، والإحياء والإماتة، والشقاء والسعادة.

حقيقة ملازمة للنفس المسلمة

          وحياة الإنسان دائرة حول هذا المحور، سواء فيما يفعله مِن فعلٍ أم يتركه مِن أمرٍ، وسواء كان في أمر من الواجبات كالفرائض أم في شيء من المندوبات كالسنن الرواتب أم انتهى عن المكروهات والمحرمات، بل وحتى لو كان في مباح من المباحات قَصد به التقوِّي للعبادة والتعفُّف عن المحرم فهو في عبادة، فالنافع للعبد هو طاعة الله، ولا شيء أنفع له من ذلك، وكل ما يُستعان به على الطاعة فهو طاعة، وإن كان من جنس المباح، فالعبودية حقيقة ملازمة للنفس المسلمة مهيمنة على حياته، ومن هنا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يستحضرون نية التعبُّد وهم يفعلون المباحات، يقول معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: «إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي».

المقصد الأعظم والغاية العليا

        فكان يفعل المباحات مستذكرًا المقصد الأعظم والغاية العليا التي من أجلها خُلق، وهي العبودية لله -سبحانه وتعالى-، وإلى هذا أرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بيَّن أن حياة المسلم دائرة بين العبودية حتى وقتِ انشغاله بالمتع والمباحات إذا كان يستحضر نية التعبد فيها وتجنب المحرمات؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟» قالوا: نعم، قال: «فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر».

تحول المباح إلى طاعة

         وما أحسنَ ما أوضحَه الإمام النووي (676هـ) -رحمه الله- حين قال: المباح إذا قصد به وجه الله -تعالى- صار طاعةً ويثاب عليه، وقد نبَّه - صلى الله عليه وسلم - على هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «حتى اللقمة تجعلها في فيِّ امرأتك»؛ فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله -تعالى- حصل له الأجر بذلك، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله -تعالى-، ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئا أصله على الإباحة وقصد به وجه الله -تعالى- يثاب عليه، وذلك كالأكل بنية التقوي على طاعة الله -تعالى-، والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطا.

مكانة العبودية لله

          فمما يجلِّي لنا مكانةَ العبودية لله في الدين الإسلامي، أنها تشمل جميع مناحي حياة الإنسان، فالإنسان في حياته همّام حارث، وهو بين فعل وترك، والمسلم في فعله وتركه دائر بين العبودية لله -سبحانه وتعالى-، فهو حين يبادر إلى الفعل يتوخّى ما أمره الله به، أو لم يحرمه الله -تعالى-، سواء المأمورات أم المندوبات أم المباحات، وحين يترك شيئا فهو يتركه إرضاء لله -سبحانه وتعالى- من المنهيات سواء المكروهات أم المحرمات، وليس للمسلم شيءٌ خارج عن هذه القسمة في حياته، ثم إن هو وقع في المعصية وفعل ما نهى الله عنه، أو ترك ما أمر الله به، فإنه يتوب ويؤوب إلى ربّه ويستغفره؛ فالمسلم في كل ذلك دائر مع العبودية، كما قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162، 163)، أي: إن صلاتي وذبحي وحياتي ووفاتي خالص لله -سبحانه وتعالى- ولعبادته دونما أشركتم به، لا شريك له في شيء من ذلك من خلقه، ولا لشيء منهم فيه نصيب؛ لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا له خالصا.

لا انفكاك للإنسان عن العبودية

          وهكذا لا انفكاك للإنسان عن العبودية ما دام في الحياة الدنيا؛ فالدنيا دار عمل لا دار جزاء، كما أمر الله بذلك نبيه -عليه الصلاة والسلام-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر: 99)، واليقين هنا هو الموت كما ورد ذلك عن السلف، ومنهم سالم بن عبد الله بن عمر، ولا يصح تفسيرها بأنها مرتبة ينقطع فيها المرء عن طاعة الله وعبادته، بل إن علامة قبول الطاعة أن توصَل بطاعة بعدها، وعلامة ردّها أن توصَل بمعصية، ما أحسن الحسنة بعد الحسنة، وأقبح السيئة بعد الحسنة، ذنب بعد التوبة أقبح من سبعين قبلها، النكسة أصعب من المرض الأول، ما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة! ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذل، وغني قوم بالذنوب افتقر، سلوا الله الثبات إلى الممات، وتعوذوا من الحور بعد الكور.

التلازم بين الظاهر والباطن

          ولا يقتصر الأمر في الدين الإسلامي هنا على مجرد شمول العبادة لأنشطة الإنسان وأفعاله، سواء الظاهرة أم الباطنة، وسواء القول أم الفعل، بل إن أهل السنة يؤكِّدون التلازم بين الظاهر والباطن، وأنه لا يمكن أن يكون الإنسان في باطنه عابدًا لله -سبحانه وتعالى- ثم لا يوجد منه أي فعل في الظاهر من مقتضيات ذلك الباطن من الانقياد لأمر الله -تعالى- والانتهاء عن مناهيه إلا في حال نادرة وهي الإكراه؛ ولذا عذره الله فقال: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (النحل: 106)، ولكن الإكراه إنما يكون على العبادات الظاهرة، وأما العبادات الباطنة فلا يتصوَّر الإكراه فيها، والعكس أيضا صحيح، فلا يمكن أن يكون الإنسان عابدًا لله في ظاهره بالكلية ثم هو في باطنه غير عابد له ولا مطيع، إلا في حال واحدة وهي حال النفاق -أعاذنا الله منه-؛ فبين الظاهر والباطن تلازم مطّردٌ ومنعكسٌ، كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».

ليس المقصد أن يتنطّع العبد

          ولابد من التنبيه إلى أنه ليس المقصد هنا أن يتنطّع العبد وينقطع في الشعائر التعبدّية من صلاة وصوم وذكر، ويترك ما فطره الله عليه من بذل أسباب المعيشة والرزق والصلة والاختلاط؛ فإنه ينبغي للإنسان ألا يحتمل من العبادة إلا ما يطيق الدوام عليه ثم يحافظ عليه، كما ذكر الإمام النووي -رحمه الله. فالتنطع والغلو في الشعائر مع التفريط في الأخذ بالأسباب مذموم، وهو يؤدي إلى الانقطاع عن العبادة وعن العمل، كما قال ابنُ عبدِ البرِّ (463هـ) -رحمه الله-: وأنتم متى تكلفتم من العبادة ما لا تطيقون، لحقكم الملل، وأدرككم الضعف والسآمة، وانقطع عملكم، فانقطع عنكم الثواب لانقطاع العمل.

بين عبودية الأعلى وعبودية الأدنى

العبودية بالنسبة للإنسان مكوَّن أساسي في جبلته؛ فالإنسان لا ينفك عن العبودية مهما زعم وادعى ذلك؛ لأنه مفطور ومجبول على العبودية، فيبقى الخيار: إما أن يكون من عباد الإله الحق، أو يعبد آلهة باطلة حتى ولو اتخذ إلهه هواه. وخلاصة الأمر: أن الإنسان لا انفكاك له عن العبودية لله، بل عزه وكرامته أن يترقى إلى مرتبة العبودية، وذلّه وحيرته وضياعه أن يتهاوى في دركات المعاصي، يقول ابن قُتيبةَ (276هـ) -رحمه الله-: من أراد عزّا بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان، فليخرج من ذلّ معصية الله إلى عز طاعته.    

العبودية لله مقصدُ مقاصدِ الدين الإسلامي

        العبودية لله -سبحانه وتعالى- مقصدُ مقاصدِ الدين الإسلامي، وهي في الوقت ذاته مفتاح سعادة القلب وصلاحه وفلاحه، فبينهما تلازم واطراد، فمتى التزم العبد مقصد خالقه ومولاه من إيجاده سعِد ونعِم، ومتى أعرض عنه شقيَ ونَدم، فبذكر الله تطمئن القلوب وتأتلف وتسكن، وبعبادته تقرّ العيون، فالإنسان أحوج ما يكون إلى العبودية؛ ولذا كان مقصد المقاصد ومقصد الدين العظيم، ولم يكرم الله إنسانا بأشرف من العبودية وأسماها؛ فالكرامة كل الكرامة لزوم الاستقامة، وإن الله لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس: 62)، يقول ابن رجب (795هـ) -رحمه الله-: فالله -سبحانه- إذا أراد توفيقَ عبدٍ وهدايته أعانه ووفَّقه لطاعته، فكان ذلك فضلًا منه، وإذا أراد خِذلانَ عبدٍ وكلَهُ إلى نفسه، وخلَّى بينَه وبينَها، فأغواهُ الشيطانُ لغفلته عن ذكرِ الله، واتَّبع هواه، وكان أمره فُرُطًا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك