
أصول الخطايا ثلاثة – الكبر والحرص والحسد
ذكر الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه الممتع (الفوائد) بأن أصول الخطايا تعود إلى أمور وأسباب ثلاثة، وهي الكبر والحرص والحسد، ولا يمكن لأي ذنب أن يخرج من هذه الدائرة مهما كان جرمه وفظاعته، سواء كان صغيرا أم كبيرا، خفيا كان أم ظاهرا، وأن العصاة والمذنبين ينهلون من هذا المستنقع الآسن الفاسد وإن تنوعت مشاربهم وتعددت مذاهبهم وتباعدت ديارهم؛ لأن النفس الأمارة بالسوء لا تحدها حدود، ولا يحجزها حاجز، فهي تستجيب لكل ما يُسكِّن غلواءها ويشفي عليلها من المعاصي والموبقات.
وعلل الإمام ابن القيم في ذلك بأن الكبر بريد الكفر وأن المعاصي تتخفي وراء الحرص وأن البغي والعدوان هما النتيجة الحاسمة للحسد، وإليك التفصيل في ذلك.
أول أصول الخطايا الكبر
ومما يدل على شؤم الكبر وخطورته بأنه أول ذنب عُصي الله -تعالى- وذلك لما امتنع إبليس الملعون لسجود آدم -عليه السلام-، فقال -تعالى- في ذلك {وَإِذ قُلنا لِلمَلائِكَةِ اسجُدوا لِآدَمَ فَسَجَدوا إِلّا إِبليسَ أَبى وَاستَكبَرَ وَكانَ مِنَ الكافِرينَ} البقرة ٣٤.
خلة مذمومة
والكبر خلة مذمومة لا يتحلى بها إلا ناقص العقل وفاقد المروءة؛ لأن الإنسان خلق من ضعف وجبل على نقص، فلا يكتمل إلا بالتواضع وخفض الجانب، فمن عُري عن التواضع وتطلع إلى التصدر من غير أهلية احتمى بالتكبر لستر عواره وحجب خواره، فالمتكبر ينازع الله تعالى في عزه وجلاله، في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله -عز وجل-: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار» مسلم.
فاقد المروءة
المتكبر إنسان فاقد المروءة فلما لبس ثوب الزور والبهتان المتمثل بالاستعلاء على الخلق والتطلع إلى الفوقية دون حق، استحق أن يحشر يوم القيامة؛ حيث تعلوه الكآبة والحزن مبالغة في إهانته وإيغالا في إزدرائه وتحقيره، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنْيَار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال» رواه الترمذي بإسناد حسن صحيح.
الكبر أنواع وأصناف
الكبر أنواع وأصناف أسوؤه الاستعلاء والاستنكاف عن عبادة الله -تعالى-، والاعراض عن الهدي والبطر عن الحق {إِنَّ الَّذينَ يَستَكبِرونَ عَن عِبادَتي سَيَدخُلونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ} (غافر ٦٠)، ومن الكبر أيضا احتقار الناس وازدراؤهم والنظر إليهم بالدونية دون سبب شرعي، وفي الحديث «الكبر: بطر الحقِّ وغمط النَّاس» مسلم.
صاحبه مبغوض ومذموم
الكبر آفة، فصاحبه مبغوض ومذموم في الدنيا، وأما في الآخرة فمصيره إلى النار ما لم تتداركه رحمة الله -تعالى- «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» مسلم.
الأصل الثاني: الحرص
والحرص هو التطلع إلى حطام الدنيا من مال أو جاه أو غير ذلك من حظوظ النفس التي لا حدود لها بشَره وجشع، وقد يصاحب هذا الحرص بعدم المبالاة عن مصدر هذا الحرص من حلال كان أم من حرام، وهو أمر جبلي فطر على الإنسان، وفي حديث أنس بن مالك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يهْرم ابن آدم وتَشِبُّ منه اثْنَتان: الحِرْصُ على المال، والحرص علَى العُمُر» مسلم.
الحرص والطمع
وكثير من الناس يغلب على تفكيرهم ويسيطر عليهم همّ الحرص والطمع فتتحول حياتهم إلى نكد وبؤس، ولا يقنعون بما في أيديهم من نعم الله -تعالى- الكثيرة، ثم لا يأتيهم من الدنيا إلا ما كتب لهم، وفي حديث زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من كانت الدنيا همَّه، فرَّق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِب له» رواه ابن ماجه بإسناد جيد.
يقول ابن القيم الجوزية في هذا الصدد: «وإن أصبح وأمسى والدنيا همُّه حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبَّته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يَكْدح كدح الوحوش في خدمة غيره ». كتاب الفوائد.
الحرص يورد صاحبه المهالك
فالحريص إذا لم يتقيد بضوابط الشرع فقد يورد حرصه على المهالك ويوقعه في المعاصي والموبقات؛ لأن كثيرا من المعاصي تنشأ عن الحرص والاستحواذ، لأن الحريص لا ينظر غالبا إلى المألات وعواقب الأمور بل همه ينصب إلى وصول هدفه المنشود بأي وسيلة متاحة أمامه، سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة، فالحريص قد يظلم، ويسرق، ويقتل، ويفترى، ويفعل الأفاعيل؛ لأن الحرص أعماه وسيطر على تفكيره.
وفي حديث كعب بن مالك الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما ذئبان أرسلا في غنم بأفسد لها، من حرص المرء على المال، والشرف لدينه» حديث صحيح، وقال الإمام المناوي: «فمقصود الحديث أنَّ الحرص على المال والشرف أكثر إفسادًا للدين من إفساد الذئبين للغنم؛ لأنَّ ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه، ويأخذ به إلى ما يضره، وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعًا». فيض القدير.
الأصل الثالث: الحسد
وهو تمني زوال نعمة الآخر من دون سبب شرعي، وهو أول معصية ارتكبها إبليس في حق أدم -عليه السلام-؛ بسبب المكانة التي حباها الله -تعالى- به، وكذلك كان أول حسد وقع بين البشر؛ حيث حسد قابيل أخاه هابيل، والحسد من أخبث أمراض القلوب فتكا وهلاكا؛ لأنه يعترض على قضاء الله -تعالى- وقدره، وفي القرآن الكريم {أَم يَحسُدونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ فَقَد آتَينا آلَ إِبراهيمَ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَآتَيناهُم مُلكًا عَظيمًا}النساء٥٤، كما حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مغبة تعاطيه فقال: «لا تحاسدوا»، وأخبر أنه يأكل الحسنات «إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».
الحاسد في حيرة من أمره
الحاسد في حيرة من أمره ونكد في عيشه، فقلبه يتحسر أسفا وألما كلما رأى نعم الله -تعالى- تنزل على عباده، فلا يقر له قرار ولا ترتاح نفسه إلا إذا اكتحلت برؤية زوال نعمة غيره، فهو في حرب مفتوح مع الله -تعالى- ما دام على فعلته الشنعاء، لأنه يعترض على الله -تعالى- في عدله بين عباده، فهو المعطي والمانع.
الحاسد مبغوض ومكروه
فالحاسد مبغوض ومكروه بين الناس، تشمئز منه النفوس الزكية، وتفر منه القلوب النقية، لذا قيل: «الحاسدُ لا ينالُ من المجالس إلاَّ مذمَّة وذُلا، ولا ينال من الملائكة إلاَّ لعنة وبغضا، ولا ينال من الخلق إلا جزعا وغمّا، ولا ينال عند النزع إلا شدَّة وهولا، ولا ينال عند الموقف إلاَّ فضيحة ونكالا» كتاب الإحياء.
فهذه الأصول الثلاثة التي أشار إليها الإمام ابن القيم الجوزية، وذكر بأن الخطايا والمعاصي جميعها تتفرع عنها، وتنهل من مستنقعها، فهي حقا أصول فاسدة ومفسدة للقلوب والأعمال، وينبغي للعاقل أن يحذر منها، ويبتعد عنها سلامة لدينه وعرضه وآخرته.
لاتوجد تعليقات