
أسباب الانحراف الفكري ( 3)
من أخطر الأمراض التي تفشت في مجتمعاتنا قديماً وحديثاً، بل وربما يكون أهمها على الإطلاق هو مرض الانحراف الفكري الذي نشأ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصدي له بقوة كما في حديث ذي الخويصرة الذي طعن في عدالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وغيرها من المواقف ولكن نور النبوة قضي على تلك الانحرافات.
وقلنا: إن هذا الانحراف له أسباب كثيرة ذكرنا منها ترك العمل بالقرآن الكريم، والخلل في فهم نصوصه، و ترك العمل بالسنة، واليوم نستكمل الحديث عن هذه الأسباب.
الجهل بوسطية الأمة
السبب الثالث من أسباب الانحراف الفكرى هو جهل الكثير ممن انحرفوا وسطية الدين التي جاء بها القرآن والسنة، وكانت الوسطية دأب سلف هذه الأمة المباركة، وهذه الوسطية كانت بين طرفي نقيض، إما الغلو والإفراط وإما الجفاء والتفريط والإسلام وسط بينهما وهو ماكان يتحدث عنه المولى -تعالى- في كتابه، وسماه الصراط المستقيم، بل إن الصراط المستقيم مثل قمة الوسطية وذروة سنامها، والصراط الطريق الواضح والمنهاج، قال ابن الجوزى -رحمه الله-: والمراد بالصراط أربعة أقوال:-
الأول: أنه كتاب الله، وقد روي عن النبيصلى الله عليه وسلم .
الثاني: أنه دين الإسلام، وقد روي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبي العالية وآخرين.
الثالث: أنه الطريق الهادي إلى دين الله، وروي عن أبي صالح وابن عباس ومجاهد.
الرابع: أنه طريق الجنة في قول لابن عباس.
قال ابن عثيمين -رحمه الله-: والصراط ينقسم إلى قسمين: مستقيم ومعوج، فما كان موافقاً للحق فهو مستقيم كما قال -تعالى-: {وَأَنَّ هـذا صِراطي مُستَقيمًا فَاتَّبِعوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبيلِهِ}، وماكان مخالفاً له فهو معوج (انتهى).
وشبه الدين الحق بالصراط المستقيم الذي ليس به أدق انحراف قد يخرجه عن حدود الاستقامة، والخط المستقيم هو أقصر بُعد بين النقطتين؛ فالعبد الطالب الوصول لابد له من قطع المسافات، ومس الآفات؛ ليُكرم بالوصول والموافاة(إعراب القرآن).
ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على اتباع الصراط المستقيم؛ فعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبي الصراط سواران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجه؛ فالصراط الإسلام، والسواران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوقه واعظ الله -تعالى- في قلب كل مسلم (إسناده صحيح).
قال العلماء: وفي هذا إشارة أنَّ الدخول على الحرام له أبواب كثيرة وعديدة عن يمين المرء وعن شماله، وهذه الأبواب دخولها لا يكلف المرء مشقة، ولا يأخذ منه وقتًا، ينحرف يمنة أو ينحرف يسرة فإذا بنفسه خارجَ الصراط، ثم إن هذه الأبواب عليها دُعاة من شياطين الإنس والجنِّ يدعون إليها لينحرفوا بمن استجاب لهم إلى الهاوية إلى حيث النار. (انتهى) ولذلك يقول -تعالى-: {وَإِنَّ اللَّـهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}،{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}.
وسطية الأمة
كما أن الله -تعالى- جعل الإسلام ديناً وسطاً، جعل كذلك الأمة التى تحمل هذا الدين أمة وسطاً فقال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، قال الأشقر -رحمه الله-: جعل الله الأمة الإسلامية أمة وسطاً، والوسط الأفضل والأكمل والخيار؛ لأنه مركز الاتزان؛ فالوسط هو النقطة المتوسطة بين طرفين بدرجة متساوية، والتطرف مذموم، والاتزان والتوسط محمود؛ فكانت هذه الأمة أمة وسطاً لتوسطها في الدين بين الغلو والتقصير، وبين الإفراط والتفريط، وقد صرح القرآن في موضوع آخر بخيرية هذه الأمة وأنها أفضل الأمم (انتهى).
وقال البقاعي -رحمه الله-: ومالك الوسط من الطرفين محفوظ من الغلط، ومتى زاغ عن الوسط حصل الجور الموقع فى الضلال عن القصد (انتهي).
وقال رشيد رضا -رحمه الله-: ومن كان متوسطاً بين شيئين فإنه يرى أحدهما من جانب وثانيهما من الجانب الآخر، وأما من كان من أحد الطرفين فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر ولا حال الوسط أيضاً؛ ولذلك جعل الله -تعالى- الرسول صلى الله عليه وسلم شهيداً على الأمة بقوله -تعالى-: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}؛ لأنه هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط، وإنما تكون هذه الأمة وسطاً باتباعها له في سيرته وشريعته، وهو القاضي بين الناس فيمن اتبع سنته، ومن ابتدع لنفسه تقاليد أخرى أو حذا حذو المبتدعين (انتهى).
وقال الدرويش -رحمه الله-: وإنما كان الخيار وسطاً؛ لأن الخلل إنما يتسرب إلى الأطراف، وتبقي الأوساط محمية، والوسط يدل أيضا على غاية العدالة كأنه الميزان الذي لا يحابي ولا يميل مع أحد (انتهى).
والنبي صلى الله عليه وسلم يدلل على هذه الوسطية بأحاديث كثيرة ذكرنا بعضهما ونذكر اليوم حديثاً جامعاً مانعاً، وهو قوله: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»؛ ولذلك نجد أن النبيصلى الله عليه وسلم أخبر عن أصحاب الفتن والغلاة أنهم سفهاء الأحلام أحداث الأسنان، فما تنتظر من سفيه وحدث إلا الجهل والانحراف والبعد عن الحق واتباع التعصب والهوى بالباطل.
لاتوجد تعليقات