
أخطاء الواقفين (6-10)إهمال عمارة الوقف وترميمه
إهمال عمارة الوقف أو ترميمه أو إصلاحه يؤدي إلى خرابه وهلاكه، وقد أجمع الفقهاء على أن العمارة هي أول واجب يلقى على عاتق الناظر أو القيم على الوقف، وعمارة الأعيان الموقوفة مقدمة على الصرف إلى المستحقين سواء في الوقف الخيري أم الأهلي؛ لأنها تؤدي إلى دوام الانتفاع بالوقف وعدم تفويت منفعة من منافعه.
ولحماية للأصول الوقفية ورعايتها وضمان استمرار عطائها، نص العلماء والفقهاء على أن تُصرف غلة الوقف على عمارته أولاً. قال الإمام النووي : «وظيفة المتولي العمارة، والإجارة، وتحصيل الغلة، وقسمتها على المستحقين، وحفظ الأصول والغلات»(1)، وجاء في الإسعاف: «أول ما يفعله القيم في غلة الوقف البداءة بعمارته، وأجرة القوام وإن لم يشترطها»(2)؛ سواء شرط ذلك الواقف أم لا(3) .
فيجب على الناظر القيام بكل ما من شأنه الحفاظ على الوقف ورعاية مصلحته، وفي مقدمة ذلك بأن يقوم بأعمال الترميم والصيانة حفظا لعين الوقف من الخراب والهلاك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : “ويدار في الوقف مع المصلحة؛ حيث كانت”(4). فيعمل بما هو في مصلحة الوقف، ويُحرص على عمارته وترميمه لجعله صالحاً محققاً لمقصد الواقف في النفع.
وقد قرر ابن عابدين قاعدة جليلة في الموضوع؛ حيث قال: «عمارة الأعيان الموقوفة مقدمة على الصرف إلى المستحقين»(5). ونص ابن نجيم على أنه لو شرط الواقف استواء العمارة بالمستحقين لم يعتبر شرطه، وإنما تقدم عليهم(6).
ترك الوقف بلا ناظر أو متولٍ يتولاه:
من الأخطاء التي قد يقع بها بعض الواقفين، ترك وقفه بلا نظارة ترعاه وتنميه، ويؤدي ذلك إلى إضعافه، بل وتجرأ بعض ضعاف النفوس للتعدي عليه واستغلاله، فلا بد للموقوف من متول يدير شؤونه ويحفظ أعيانه، وذلك بعمارتها وصيانتها، واستثماره على الوجه المشروع، وصرف غلته إلى مستحقيه على مقتضى وثيقة الوقف، والدفاع عنه والمطالبة بحقوقه، كل ذلك حسب شروط الواقف المعتبرة شرعاً(7).
والمقصود من الوقف هو انتفاع الواقف والموقوف عليه، انتفاع الواقف بما يحصل عليه من الأجر والثواب من الله تعالى في الدنيا والآخرة، وانتفاع الموقوف عليه بما يحصل عليه من المال أو المنفعة التي تندفع بها حاجته، ولا يتحقق ذلك إلا ببقاء العين الموقوفة على حالٍ ينتفع بها، والسبيل إلى ذلك هو الولاية التي تتوفر فيها الشروط والأحكام المعتبرة لذلك شرعاً.
والتولية على الوقف أمر واجب، للمحافظة عليه من التلف والضياع والتعطل. ويشترط فيمن يتولى النظر على الوقف جملة من الشروط وهي: الإسلام والعقل والبلوغ والعدالة والكفاية والحرية، وهي قدرة الناظر على التصرف فيما هو ناظر عليه بما فيه المصلحة، أي القدرة على القيام بشؤون الوقف.
ووظيفة الوالي على الوقف حفظ عين الوقف، والقيام بشؤونها، وتنفيذ شرط واقفها، وكل ما يتعلق بحماية العين عن الهلاك أو التعطل، وصيانتها، وعمارتها، ورعاية غلتها، والاجتهاد في تنميتها، وتحصيل الغلة وتوزيعها على مستحقيها، ودفع كل ضرر متوقع عن عين الوقف.
اشتراط شروط لا تصح :
شروط الواقفين هي المحور الأساسي الذي يدور حول تحقيق المقصد المطلوب من الوقف، وهو تنفيذ غرض الواقف من وقفه وإيقاعه موقعه بضوابطه الشرعية المعلومة. وعدم استشارة الواقف أهل الاختصاص قبل أن يوقف، قد يوقعه في كتابة اشتراطات باطلة في وثيقة وقفه، بعضها قد ينافي لزوم الوقف وتأبيده، كأن يشترط الواقف حق التصرف في الوقف بالبيع، أو الهبة، أو أن يعود الوقف إلى ورثته بعد موته، أو تؤول ملكيته إليهم عند الحاجة والعوز.
فشروط الواقفين تنقسم من حيث الحكم عليها بإجماع العلماء إلى صحيحة، وباطلة تضرب الوقف أو الموقوف لهم، ولكنها غير مبطلة للوقف ولا يعتد بها، كاشتراط الواقف لعائد يدفعه الموقوف عليه نظير ما يناله من غلة الوقف، أو اشتراط عدم عزل الناظر ولو كان خائنًا، أو اشتراط ألاّ يستبدل بعين الوقف غيرها ولو صارت خربة، فعند بعض الفقهاء يكون الوقف صحيحًا، والشرط باطلاً ولاغيًا.
والشروط الصحيحة واجبة الاعتبار لا يجوز مخالفتها إلا لضرورة بإجماع الفقهاء، أو لمصلحة راجحة للوقف أو للمستحقين عند بعض العلماء. يقول ابن القيم في أعلام الموقعين: “ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعة، وللمكلف مصلحة، وأما ما كان بضد ذلك لا حرمة له كشرط التعزب والترهب المضاد لشرع الله ودينه، فإنه تعالى فتح للأمة باب النكاح بكل طريق ، وسد عنهم باب السفاح بكل طريق، وهذا الشرط باطل لذلك ; فإنه يسد على من التزمه باب النكاح، ويفتح له باب الفجور ، فإن لوازم البشرية تتقاضاها الطباع أتم تقاض، فإذا سد عنها مشروعها فتحت له ممنوعها ولا بد.
وقف ما لا ينتفع فيه في زمنه :
كأن يوقف الواقف وقفاً بعيداً عن حاجات الناس وأماكن تواجدهم، فيشق الوصول له، كالذي يبني مسجداً بعيداً لا يستطيع المصلين الوصول له إلا بشق الأنفس، وكذلك من يقيم مسجداً في حيٍ لا يسكنه المسلمين، كحي للنصارى أو للدروز، فلا يَعمر بالمصلين ولا تقام فيه الجمعة والجماعة.
أو كالذي يوقف أرضاً لتكون مقبرة وهي في واد سحيق يشق الوصول لها لدفن الموتى والمشي في الجنازة لوعورة الأرض، أو كالذي يحفر بئراً يستحيل الوصول له أو تكون تكلفة الوصول له ونقل الماء أعلى من تكلفة الماء .
وهذا من وقف ما لا منفعة فيه، أو وقف ما لا ينتفع به إلا بعد سنوات أو قد لا يتحقق الانتفاع به في زمنه، فالأصل أن تدرس جدوى المشروع الذي سيوقف، ليتحقق نفعه في زمنه ويدوم نفعه لأجيال عديدة وقرون طويلة .
فالوقف شرع لتحقيق أهداف سامية، ومقاصد نبيلة، لحفظ الحياة الكريمة ومتطلباتها وضروراتها، وأفضله ما كان أكثر نفعاً، وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان، ومدى الحاجة إليه، جاء في « إتحاف الأحلاف في أحكام الأوقاف»: «إن أفضل الأوقاف وقف شيء، يحس الناس أنهم بحاجة ماسة له»(8).فأفضل الوقف، أبقاه وأعمه نفعاً، وأشده احتياجاً. فعلى الواقف أن يحرص على النفع من وقفه وأن يستمر معه النفع للموقوف له.
إهمال ما ينبغي أن تحتويه وثيقة الوقف:
ينبغي على الواقف أن تحوي وثيقة وقفه أو حجة وقفيتة على عناصر سبعة، وهي كالآتي :
1 – المقدمة أو الاستهلال: تتضمن البسملة والحمدلة والصلاة على رسول الله[، وذكر بعض الآيات والأحاديث الشريفة الدالة على عمل الخير.
2 – التوثيق: إثبات اسم القاضي الشرعي واسم الواقف وتاريخ تحرير الحجة واسم المحكمة الشرعية.
3 – الشهود: وهم الجماعة الذين حضروا واقعة تحرير الحجة لغرض التعريف بالواقف.
4 – صيغة الوقف: الصيغة التي تحدد الممتلكات الموقوفة وتعينها .
5- أغراض الوقف ومصارفه: تحديد المنتفعين من الوقف.
6- شروط الواقف: المتعلقة بالنظارة، وإجراءات صرف الغلة أو العائد.
7 – الخاتمة: يذكر فيها لزوم الوقف وتحذر من الاعتداء عليه أو انتهاك حرمته. والخاتمة تحتوي أيضا على ختم القاضي وتوقيع الواقف والشهود والتاريخ ومحرر الحجة أو الصك وما يتعلق بذلك.
ولا يتأتى ذلك إلا باستشارة المختصين في مجال الوقف وتوثيقه، وما ينبغي أن تتضمنه وثيقة الوقف بوضوح لا لبس فيه، لتقطع التنازعات سواء من أهل الواقف أو الموقوف عليهم .
الهوامش:
1 - روضة الطالبين، للنووي، ج5، ص 348.
2 -الإسعاف، للطرابلسي، ص60.
3 -انظر: روضة الطالبين،للنووي، ج5، ص 348؛ مغني المحتاج، ج2، ص394، والإسعاف للطرابلسي ، ص60
4 - انظر: فتاوى شيخ الإسلام 31/238، 261.
5 - ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، ج4 ، 367.
6 - ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 201.
7 - روضة الطالبين 5/348.
8- إتحاف الأحلاف في أحكام الأوقاف، عمر حلمي، ص5، اسطنبول 1307هـ.
لاتوجد تعليقات