رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 19 أغسطس، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: نَسخُ التّحلّل مِنَ الإحْرام والأمْر بالتَّمَام

  • في الحديث مَشروعيَّةُ الإحرامِ المُبهَمِ ويَصْرِفُه إلى ما شاءَ مِن أنواعِ النُّسُكِ قبْلَ شُروعِه في العبادة

عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ حِلَّ، فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي، وغَسَلَتْ رَأْسِي، فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ فِي إِمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ، وإِمَارَةِ عُمَرَ، فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ، إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ. فَقُلْتُ: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ بِشَيْءٍ فَلْيَتَّئِدْ، فَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ، فَبِهِ فَأْتَمُّوا، فَلَمَّا قَدِمَ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ما هَذَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ؟ قَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196). وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ. عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ المُتْعَةُ فِي الْحَجِّ، لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً، في الباب حديثان: الحديث الأول: رواه مسلم في الحج (2/895) باب: في نَسخ التّحلّل من الإحرام والأمر بالتمام.

         في هذا الحَديثِ يَحكي أبو مُوسى الأشْعَرِيُّ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَه إلى قَومٍ باليَمَنِ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قدْ أرْسَلَه ليَكونَ مُعلِّمًا وقاضيًا لأهْلِها، فرَجَع أبو مُوسى - رضي الله عنه - والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ، وهو مُحرِمٌ بحَجَّةِ الوَداعِ، والبَطحاءُ: مكانٌ ذو حَصًى صَغيرةٍ، وهو في الأصلِ مَسيلُ وادي مكَّةَ، وهو يَقُعُ جَنوبَ الحرمِ الشَّريفِ أمامَ جَبلِ ثَورٍ، ويُقالُ له: الأَبْطَحُ أيضاً، فسَأَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا مُوسى - رضي الله عنه -: بِمَ أهلَلْتَ؟ والمرادُ بالإهلالِ هنا: قصْدُ النِّيةِ في الإحْرامِ، وهو في الأصْلِ رفْعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، فأجابَه أبو مُوسَى - رضي الله عنه - أنَّه أهَلَّ كإهلالِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - -وكان رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ممَّن ساقَ الهَدْيَ، فقَرَنَ في إحْرامِه بيْن العُمرةِ والحجِّ- فسَأَله: هلْ مَعَكَ مِن هَديٍ؟ فأجابَ: لا، فأمَرَه - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَطوفَ بالبَيتِ وبالصَّفا والمروةِ، فيكونُ بذلك قدْ أتَّم عُمرةً، ثمَّ أمَرَه أنْ يَحِلَّ مِن إحرامِه، فيُباح له كلُّ شَيءٍ. فأَتَى أبو مُوسى - رضي الله عنه - امرأةً من قَومِه، وهذا مَحمولٌ على أنَّها كانتْ مَحْرَمًا له، فسَرَّحَتْ له شَعرَه بالمُشطِ، وغَسَلتْ رَأْسَه، ولم يَذكُرِ الحَلْقَ أو التَّقصيرَ، إمَّا لكونِه مَعلومًا عندَهُم، أو لدُخولِه في أمْرِه بالإحلالِ.

زَمانُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه 

         فلمّا جاء زَمانُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - وخِلافتُه، فذُكِرَ له ذلك فقالَ: إنْ نَأخُذْ بكِتابِ الله، فإنَّه يَأمُرُنا بالتَّمامِ، أي: بإتمامِ أفعالِهما بعْدَ الشُّروعِ فيهما، قال اللهُ -تعالَى-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (البقرة: 196)، وتَأويلُه للآيةِ: هو إفرادُ كلِّ نُسكٍ على حِدَةٍ، واستَشهَدَ - رضي الله عنه - بقِرانِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه لم يَحِلَّ مِن إحْرامِه حتَّى نَحَرَ الهَدْيَ بمِنًى. وظاهِرُ كَلامِ عُمَرَ - رضي الله عنه - هذا، إنكارُ فسْخِ الحجِّ إلى العُمرةِ، وليس مُرادُ عُمَرَ - رضي الله عنه - بذلكَ مُخالَفةَ القُرآنِ والسُّنَّةِ، وقد رَوَى النَّسائيُّ: أنَّ أبا مُوسى سَأَلَ عُمرَ عن ذلِك، فقال عُمرُ: قد عَلِمْتُ أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قد فَعَلَه، ولكنْ كَرِهْتُ أنْ يَظلُّوا مُعرِّسينَ بهنَّ في الأرَاكِ، ثمَّ يَروحوا في الحجِّ تَقطُر رُؤوسُهم؟ ومعْناه: أنّه كَرِه التَّمتُّعَ، لأنَّه يَقتضي التَّحلُّلَ ووَطْءَ النِّساءِ، إلى حِينِ الخُروجِ إلى الحجِّ. فكان مِنْ رأي عُمر: عَدمُ التّرفّه للحَجّ، فكرِه لهُم قُربَ عَهدهم بالنساء، وقد أخرج مسلم: من حديث جابر أنّ عُمر قال: «افْصلُوا حَجّكم مِنْ عُمْرتكم، فإنّه أتمّ لحَجّكم، وأتَمّ لعُمْرتكم».

قوله: «أنْ نَأخذَ بكتابِ الله»

        قوله: «أنْ نَأخذَ بكتابِ الله... إلخ» هذا مُحصّل جواب عمر - رضي الله عنه - في مَنَعه الناس مِنَ التّحلل بالعُمرة: أنّ كتابَ الله دالٌ على منع التّحلّل لأمْره بالإتْمام، فيقتضي اسْتمرار الإحْرام إلى الفراغ من الحج، وأنّ سُنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً دالة على ذلك، لأنّه لمْ يحلّ حتّى بلغَ الهَدي محلّه، لكنْ الجواب عن ذلك، ما أجاب به هو - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: «ولولا أنّ مَعي الهَدي، لأحْللت». فدلّ على جواز الإحْلال لمَنْ لمْ يكنْ معه هَدْي، وتبيّن منْ مُجْموع ما جاء عن عمر في ذلك أنّه مَنَعَ منْه، سَدّاً للذّريعة. (انظر الفتح). وقال النووي: والمُختار أنّه نَهى عن المُتعة المَعْروفة، التي هي الاعْتمار في أشْهر الحَج، ثمّ الحَجّ مِنْ عامه، وهو على التّنْزيه، للتّرغيب في الإفْراد، كما يظهر من كلامه، ثمّ انْعقدَ الإجْماع على جواز التّمتّع مِنْ غير كراهة، ونفي الاخْتلاف في الأفضل. ويُمكن أنْ يتمسّك مَنْ يقول: بأنّه إنّما نَهَى عن الفسخ، بقوله في الحديث الذي أشرنا إليه قريبا مِنْ مسلم: «إنّ الله يُحلُّ لرسُوله ما شاء». والله أعلم.

فوائد الحديث

  • اتِّباعُ سُنَّةِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - واقتِفاءُ أثَرِه في أفعالِه.
  • وفيه: مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشهُرِ الحجِّ.
  • وفيه: مَشروعيَّةُ الإحرامِ المُبهَمِ، ويَصْرِفُه إلى ما شاءَ مِن أنواعِ النُّسُكِ، قبْلَ شُروعِه في أفعالِ النُّسُكِ.
  • وفيه: دلالة على جواز تعليق الإحْرام، بإحْرام الآخر.

الحديث الثاني

عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ المُتْعَةُ فِي الحَجِّ، لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً، هذا الأثر رواه مسلم في الحج (2/897) باب: جواز التمتع، وفيه يُخبِرُ أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - أنَّ المُتعةُ في الحجِّ كانتْ لأصْحابِ محمَّدٍ خاصَّةً، يَعني: فسْخَ الحجِّ إلى العُمرةِ كان خاصًّا للصَّحابةِ فقط، وذلك أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد أمَرَ بها بعضَ أصْحابِه في حَجَّةِ الوَداعِ لمَن لمْ يسُقْ معَه الهَديَ، وكان أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه - من هؤلاء الَّذين فَسَخوا حَجَّهم إلى عُمرةٍ، أمَّا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والبعضُ الآخَرونَ منَ الصَّحابةِ ممَّن معَهمُ الهَديُ كانوا قارِنينَ، أي: جَمَعوا بينَ الحجِّ والعُمرةِ بإحْرامٍ واحدٍ.

وقولُه هذا مخالِفٌ لما ورَدَ في الأحاديثِ الصَّحيحةِ والثَّابِتةِ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ التَّمتُّعَ جائزٌ في أشهُرِ الحجِّ، وأنّه باقٍ إلى يوم القيامة كما سبق. وقيلَ: إنَّ قولَ أبي ذَرٍّ هذا يُحمَلُ على أنَّ الفَسخَ الواجبَ الَّذي يَتعيَّنُ، هو الَّذي كان لأصْحابِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وأمَّا غَيرُهم فإنَّه يَبْقى على الاسْتِحْبابِ.

انكسار القلب وخضوعه لله -تعالى

           يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله وهو يتحدث عن انكسار القلب وخضوعه لله تعالى-: «ليس شيء أحب إلى الله -تعالى- من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه -سبحانه-، والاستسلام له، فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر، والرحمة والرزق منه! وأحبُّ القلوب إلى الله -سبحانه- قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، وهذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله -تعالى- وترميه على طريق المحبة، فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق، وإن كانت سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس ورؤيتها «أي بالنسبة لحق الله» بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم نوع آخر، وفتح آخر، والسالك بهذه الطريق غريب عن الناس، وهم في واد وهو في واد، فالله المستعان وهو خير الغافرين».

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك