رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 12 أغسطس، 2024 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: مَنْ أحْرَمَ بالحَجّ ومَعَه الهَدْي

  • التَّمتُّعُ في الحَجِّ هو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ ثمَّ يَحِلَّ منها ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه
  • أبطَلَ النبيُّ صلى  الله عليه وسلم  عادةً مِنْ عاداتِ الجاهليَّةِ التي كانتْ تُحرِّمُ العُمرةَ في أشهُرِ الحجِّ وأقَرَّ شَريعةَ الإسْلامِ وما فيها مِن التَّوسعةِ في أُمورِ الحجِّ والعُمرةِ
 

عن مُوسَى بْنِ نَافِعٍ قَالَ: قَدِمْتُ مَكَّةَ مُتَمَتِّعاً بِعُمْرَةٍ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ النَّاسُ: تَصِيرُ حَجَّتُكَ الْآنَ مَكِّيَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عبداللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أنَّهُ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى  الله عليه وسلم - عَامَ سَاقَ الهَدْيَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى  الله عليه وسلم -: «أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، وبَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وقَصِّرُوا وأَقِيمُوا حَلَالًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، فَأَهِلُّوا بِالحَجِّ، واجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً». قَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً، وقَدْ سَمَّيْنَا الحَجَّ؟ قَالَ: «افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ، فَإِنِّي لَوْلَا أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ، لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ، حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ»، فَفَعَلُوا.الحديث رواه مسلم في الحج (2/884-885) باب: بيان وُجُوه الإحرام، وأنّه يجوز إفرادُ الحَج والتّمتع والقران، وجواز إدْخال الحجّ على العمرة، ومتّى يحلّ القارن من نُسكه.

         مُوسى بنُ نافع هو التّابعي أبو شهاب الحنّاط الأسَدي، الهُذَلى الكوفى الأكبر، وليسَ بأبي شهاب الأصْغر عبدربه بن نافع، روى عن عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد، روى عنه يحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس ومحمد بن عبيد وأبو نُعيم، صدوق، أخرجَ له البخاري ومسلم. في هذا الحديثِ يَرْوي التابعيُّ موسى بْنُ نافعٍ أنَّه قَدِمَ إلى مكَّةَ مُتَمَتِّعًا بعُمْرةٍ، وأهَلَّ بذلك، فوَصَل مكَّةَ ودَخَلها قَبْلَ يومِ التَّرْوِيَةِ -وهو اليومُ الثَّامِنُ مِن ذي الحِجَّةِ- بثَلَاثةِ أيَّامٍ، وسُمِّيَ يومُ التَّرويةِ بذلك، لأنَّ الحُجَّاجَ كانوا يَرْتَوُونَ فيه مِن الماءِ لِما بعْدَه، أي: يَستَقُون ويَسْقُون إبِلَهم فيه، استِعدادًا للوُقوفِ يومَ عرَفةَ، فَقالَ له بعضُ الناسِ مِن أهْلِ مَكَّةَ: تَصِيرُ الآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً، حيثُ تَفوتُك فَضيلةُ الإحْرامِ مِنَ المِيقاتِ، فتُشْبِهُ في ذلك حَجَّةَ أهلِ مكَّةَ، اللذين لا يُحْرِمون مِنْ مِيقاتٍ مُعيَّنٍ، بلْ يُحرِمون للحجِّ مِن مَكانِهم، فذَهَبَ أبو شِهابٍ إلى التابعيِّ الجليل الفقيه عَطاءِ بنِ أبي رَباحٍ لِيَسأَلَه في ذلك ويَسْتفتيهِ، فحَدَّثَه أنَّ جَابِرَ بنَ عبدالله -رَضيَ اللهُ عنهما- أخْبَرَهُ: أنَّه حجَّ مع النبيِّ - صلى  الله عليه وسلم - يومَ ساقَ البُدْنَ معَه، مِن المدينةِ إلى مَكَّةَ في حَجَّةِ الوَداعِ، في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهجرةِ، والبُدْنُ يُقصَدُ بها الهَدْيُ، والهدْيُ: اسمٌ لِما يُهدَى ويُذبَحُ في الحرَمِ مِن الإبلِ والبقَرِ والغنَمِ والمَعْزِ.

قَصْدُ النِّيَّةِ في الإحْرامِ

          قال: وقد أهَلُّوا بالحَجِّ مُفرَدًا، أي: أَحْرَموا مُفْرِدينَ بالحَجِّ، والمُرادُ بالإهْلالِ هنا: قَصْدُ النِّيَّةِ في الإحْرامِ، وهو في الأصلِ رفْعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، فأمَرَهم النبيُّ - صلى  الله عليه وسلم - عِندَ قُدومِهم إلى مَكَّةَ، أنْ يَحِلُّوا مِنْ إحرامِهِم، فيَفسَخوا الحَجَّ إلى العُمرةِ، ويَتحلَّلوا مِن عُمرَتِهم بالطَّوافِ والسَّعيِ والتَّقصيرِ، ثمَّ يُقيموا بها حَلالًا، يَحِلُّ لهُم كُلُّ شَيءٍ، حتَّى مُعاشَرةُ النِّساءِ، حتَّى إذا كانَ يومُ التَّرويةِ، وهو اليومُ الثامِنُ مِن ذي الحِجَّةِ، فعلَيهم أنْ يُهِلُّوا، أي: يُحْرِموا بالحَجِّ، ويَتَوجَّهوا إلى عَرَفَةَ، ويَجعَلوا الأفعال الَّتي قَدِموا بها تَمتُّعًا بالعُمرةِ.

التَّمتُّعُ في الحَجِّ

والتَّمتُّعُ في الحَجِّ: هو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالعُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ، ثمَّ يَحِلَّ منها، ثم يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه، فإذا قدِمَ مكَّةَ في أشْهُرِ الحجِّ واعتَمَر وانْتَهى مِن عُمرتِه، فله أنْ يَتحلَّلَ مِن إحْرامِه، ويَتمتَّعَ بكلِّ ما هو حَلالٌ حتَّى تبدَأَ مَناسِكُ الحجِّ.

سؤال الصَّحابةُ للنبيَّ - صلى  الله عليه وسلم 

         فسَأَل الصَّحابةُ النبيَّ - صلى  الله عليه وسلم -: كيفَ يَجعَلون نُسكَهم الأوَّلَ عُمرةً ومُتْعَةً بها وهم قدْ أحْرَموا بنِيةِ الحَجَّ؟ فأمَرَهم أنْ يَفعَلوا ما أمَرَهم به، وأخْبَرَهم أنَّه لَولا أنَّه - صلى  الله عليه وسلم - ساقَ الهَديَ، لفَعَلَ مِثلَ الَّذي أمَرَهُم به، وفَسَخَ الحَجَّ إلى عُمرةِ، ولكِن ذلك لا يَحِلُّ له، ولا يَحِلُّ له فِعلُ شَيءٍ مِن مَحظوراتِ الإحْرامِ، حتَّى يَصِلَ الهدْيُ إلى المَكانِ الَّذي يُنحَرُ فيه بِمِنًى يومَ النَّحرِ، في العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، فاستجابَ الصحابةُ -رَضيَ اللهُ عنهم- لأمْرِ النبيِّ - صلى  الله عليه وسلم - على الفورِ، وفعَلوا ما أمَرَهم به، وبذلك أبطَلَ النبيُّ - صلى  الله عليه وسلم - عادةً مِنْ عاداتِ الجاهليَّةِ، التي كانتْ تُحرِّمُ العُمرةَ في أشهُرِ الحجِّ، وأقَرَّ شَريعةَ الإسْلامِ وما فيها مِن التَّوسعةِ في أُمورِ الحجِّ والعُمرةِ.

اخْتَلَاف العُلَمَاء فِي هَذَا الفَسْخِ

       وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي هَذَا الفَسْخِ: هَلْ هُوَ خَاصٌّ لِلصَّحَابَةِ تِلْكَ السَّنَةِ خَاصَّةً؟ أَمْ هو بَاقٍ لَهُمْ ولِغَيْرِهِمْ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ وطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَيْسَ خَاصًّا، بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى يَومِ القِيَامةِ، فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ، ولَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ، أَنْ يَقْلِبَ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً، ويَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِها. وقَالَ مالِكٌ والشَّافِعِيُّ وأَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا يَجُوزُ بَعْدَها؟ وإِنَّمَا أُمِرُوا بِهِ تِلْكَ السَّنَةَ، لِيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ.
  • والراجح هو الأوّل: فقد ثبَتَ في صَحيحِ البُخاريِّ: لَمَّا أمَر رسولُ اللهِ - صلى  الله عليه وسلم - أصحابَه بالمُتْعةِ -أي التَّمتُّع-، قال جابرُ بنُ عبداللهِ -رَضيَ اللهُ عنهما-: وأنَّ سُراقةَ بنَ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ لقِيَ النبيَّ - صلى  الله عليه وسلم - وهو بالعَقَبةِ، وهو يَرميها، فقال: ألَكُم هذه خاصَّةً يا رسولَ اللهِ؟ قال: «لا، بلْ للأبدِ».
  • وفِي رواية قال: أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَقَالَ: «لِأَبَدِ أَبَدٍ».
  • فَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّ العُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ جَائِزَةٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وكَذَلِكَ القِرَانُ، وأَنَّ فَسْخَ الحَجِّ إِلَى العُمْرَةِ غير مُخْتَصٌّ بِتِلْكَ السَّنَةِ، بل للأبد، واللَّهُ أَعْلَم.
 

فوائد الحديث

 
  • مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشْهُرِ الحجِّ.
  • وفيه: طاعةُ الصَّحابةِ لرَسولِ اللهِ - صلى  الله عليه وسلم - في كلّ ما يأمرهم به.
 

من أصول منهج السلف ومعالمه

         من معالِمِ منهج السلف وأصوله لُزومُ اتباعِ الكتابِ العزيزِ والسُّنَّة الصحيحة الثابتة، والحَذَرُ من اتباع الهَوَى والبِدَع، لقولِه - صلى  الله عليه وسلم -: «فإنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الراشِدين المهديِّين من بعدِي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور! فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة». لُزومِ الجماعة، والسَّمع والطاعةِ بالمعروف في المنشَطِ والمكرَه، على حدِّ قولِه -عزَّ شأنُه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء: 59). لا تعصُّب إلا للحقِّ وما جاء في كتاب الله وكلامِ رسولِه - صلى  الله عليه وسلم -، وعدمُ التعصُّب يقترِنُ بعدمِ ادِّعاءِ العِصمةِ لأحدٍ كائِنًا من كان من عُلماء الدين وأئمَّتِه من الصحابةِ ومن بعدَهم، فضلاً عن غيرِهم. فلا عِصمةَ إلا لرسولِ الله - صلى  الله عليه وسلم - فيما يُبلِّغُ عن ربِّه -عز وجل-، ومن هنا؛ فإنهم لا يمنَعون من الخلافِ فيما يسُوغُ فيه الخِلاف، بناءً على فهمِ النصِّ وتقدير المصالحِ والمفاسِد، وتحقيق الغايات والمقاصِد، إذا صدرَ الاجتهادُ من أهلِه في محلِّه. بقولِه - صلى  الله عليه وسلم -: «الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة، الدينُ النَّصيحة». قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: «لله، ولكتابِه، ولرسولِه، ولأئمة المُسلمين وعامَّتِهم». أخرجه مسلم في صحيحه من حديث تميمٍ الدارِيِّ - رضي الله عنه - نصيحةٌ في حفظ الحقِّ والمكانةِ، والبُعد عن التَّشنيعِ والتَّشهير، أو سُلُوك مسالِكَ تُؤدِّي إلى التفرُّق والشَّحناء. مصدرُ التلقِّي هو الوحيُ، ويعرِضُون عقولَهم وفهُومَهم وآراءَهم على الكتاب والسُّنَّة؛ فما وافقَها قبِلُوه، وما خالَفَها أعرَضُوا عنه، ونصُّ الشارِعِ هو الأصلُ، تنقادُ إليه النفوسُ، وتعتمِدُ عليه، تتبَعُه ولا يتبَعُها، «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يكون هواهُ تبَعًا لما جِئتُ به».  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك