
شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: ما يَجْتَنبُ المُحْرِمُ مِنَ الّلبَاس
- يحرم على المُحْرمين من الرجال لبس القُمُص والعمائم والبرانس والسراويل ونحوها
- من فوائد الحديث بيان يُسر الشريعةِ الإسلاميَّةِ ورفْعها للحَرجِ عنِ المُكلَّفينَ
- يحرم على النساء والرجال المحرمين لبس الثّياب التي مسّها الورس أو الزّعفران
عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، ولَا الْعَمَائِمَ، ولَا السَّرَاوِيلَاتِ، ولَا الْبَرَانِسَ، وَلَا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ؛ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، ولَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا؛ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ»، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ، والْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ». يَعْنِي: المُحْرِمَ. في الباب حديثان، رواهما مسلم في أول كتاب الحج (2/834-835) باب: ما يباح للمُحرم بحجٍّ أو عُمرة، وما يُباح وبيان تحريم الطيب عليه.
في الحديثِ الأول: يَذكُرُ عبداللهِ بنُ عمَرَ بنِ الخطَّابِ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّ رجُلًا جاء إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسأَلُه عمَّا يَلبَسُ مِن الثِّيابِ في حالةِ الإحرامِ بالحجِّ أو العُمرةِ، فأجابَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذِكرِ ما يَحرُمُ لُبْسُه؛ وذلك لأنَّ المَمنوعَ مُنحصِرٌ، فأمْكَنَ التَّصريحُ به، وأمَّا المُباحُ فأكثَرُ مِن أنْ يَنحصِرَ، ولذا عَدَلَ عن ذِكرِه لذِكرِ المَحظورِ، وكأنَّه أراد أنْ يقولَ: اجتَنِبْ هذه الأشياءَ والْبَسْ ما سِواها.ما يلبس المُحْرم؟
فالسؤال ورد بصيغة: ما يلبس المُحْرم؟ وورد جوابه من أفصح الخلق - صلى الله عليه وسلم -: لا يلبس القمص إلخ الحديث. قال الحافظ في الفتح: قال النووي: قال العلماء: هذا الجواب منْ بديع الكلام وجَزله، لأنّ ما لا يلبس مُنْحصر، فحصر التصريح به، وأمّا الملبُوس الجائز؛ فغير مُنْحصر، فقال: لا يلبس كذا، أي: ويلبس ما سواه. انتهى. ثم قال الحافظ: وقال البيضاوي: وفيه إشارة إلى أن حقّ السؤال أنْ يكون عمّا لا يلبس، لأنّه الحُكمُ العارض في الإحْرام المحتاج لبيانه؛ إذْ الجواز ثابتُ الأصل بالاستصحاب، فكان الأليق بالسؤال عمّا لا يلبس. وقال غيره: هذا يشبه أسْلوب الحَكيم، ويقربُ منه قوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} الآية، (البقرة: 215). فعَدلَ عن جِنس المُنْفق، وهو المَسؤول عنه إلى ذكر المنفق عليه؛ لأنّه أهم. انتهى.المحظورات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذَكَرَ - صلى الله عليه وسلم - المَحظُوراتِ فقال: «لا تَلْبَسُوا القمصَ» وهو الثَّوبُ المُفصَّلُ على الجسمِ ذُو الأكمامِ، ويُلبَسُ مِنْ أعْلى، فيَدخُلُ في الذِّراعينِ ويُغطِّي الجسَدَ والعَورةَ. «ولَا السَّرَاوِيلَاتِ» جمْعُ سِروالٍ، وهو لِباسٌ يُغطِّي ما بيْن السُّرَّةِ والرُّكبتينِ غالبًا، ويُحيطُ بكلٍّ مِن الرِّجلينِ على حِدَةٍ، ويُلبَسُ مِن الأسفلِ، فيَدخُلُ مِن القدَمَينِ ويُغطِّي العورةَ وأعْلاها قَليلًا. «ولَا العَمَائِمَ» جمْعُ عِمامةٍ، وهي ما يُلَفُّ على الرَّأسِ. «ولَا البَرَانِسَ» جمْعُ بُرْنُسٍ، وهو الثَّوبُ الشاملُ للرَّأسِ والبدَنِ، فهو كلُّ ثَوبٍ رَأْسُه منه مُلتصِقٌ به. قوله: «إِلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ؛ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ» أي: ولا يَلبَسُ المُحرِمُ أيضاً الخُفَّين، وهو ما يُلبَسُ على القدَمِ ساتراً لها، ويُصنَعُ مِن الجِلدِ، بخِلافِ النَّعلِ، فهو غيرُ ساترٍ للقَدَمِ، فلا يُغطِّي ظَهْرَ القدَمِ تَماماً، قال - صلى الله عليه وسلم -: «إلَّا أنْ يَكونَ أحَدٌ ليسَتْ له نَعْلانِ، فلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، ولْيَقْطَعْ أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَينِ» فإذا أراد لُبْسَ الخُفَّينِ -لفَقْدِه النَّعلينِ- فلْيَقطَعِ الخُفَّينِ حتى يَكونَا أنْزَلَ مِن الكَعْبَين؛ ليَقرَبا بذلك مِن مُشابَهةِ النَّعلينِ، والكَعْبانِ هما العَظْمانِ الناتئانِ عندَ مَفصِلِ الساقِ والقدَمِ، وهذه الأمورُ المذكورةُ مَحظورةٌ بالنِّسبةِ للرِّجالِ دُونَ النِّساءِ.ما تشترك فيه المرأة مع الرجال
قال الحافظ في الفتح: أجْمعوا على أنّ المُراد به هنا الرجل، ولا يلتحق به المرأة في ذلك، قال ابن المنذر: أجْمعوا على أنّ للمَرأة لبس جميع ما ذُكر، وإنّما تشترك مع الرجال في مَنْع الثوب الذي مسّه الزّعْفران أو الورس اهـ، ثم قال الحافظ: وقال عياض: أجمعَ المسلمون على ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم، وأنه نبّه بالقميص والسّراويل على كلّ مُحيط، وبالعَمائم والبَرانس على كلّ ما يُغطّى الرأس به مَخيطًا أو غيره، وبالخفاف على كل ما يستر الرجل انتهى. هذا: ولو حَمَلَ شيئًا على رأسه لحاجته؛ لا لتغطيته فإنّه لا يضر، وكذلك لو انغمس في الماء، أو وضع يده على رأسه، فإنه لا يسمى لابسًا في شيء من ذلك وليس للمرأة ثياب مُعينة للإحْرام، بل تلبسُ ما شاءت مِنَ الّلباس، ما دام لا يصف ولا يشف، غير أنّه لا يجوز لها أنْ تنتقب، ولا أنْ تلبس القفازين. ثمَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولَا تَلْبَسُوا شيئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ ولَا الوَرْسُ» والزَّعفرانُ: نَباتٌ طَيِّبُ الرائحةِ يُستعمَلُ طِيبًا في الزَّمنِ السابقِ، ويُصبَغُ به. والورْسُ: نَباتٌ أصفَرُ طَيِّبُ الرائحةِ يَحتوي على مادَّةٍ يُصبَغُ بها الثِّيابُ. وهذا النَّهيُ شاملٌ للرِّجالِ والنِّساءِ.النهي عن لبس النقاب والقفازين
ثمَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، ولَا تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ» والنِّقَابُ: هو الخِمارُ الَّذي يُسْدَلُ على الوَجْهِ أو تَحتَ مَحاجِرِ العَينِ، فتَسْتُرَ به المرأةُ وَجْهَها، وتَفتَحَ لِعَيْنَيها بقَدْرِ ما تَنظُرُ منه. والقُفَّازُ: هو شَيءٌ تَلبَسُه النِّساءُ في أيديهِنَّ يُغطِّي الأصابعَ والكَفَّ والسَّاعدَ والمرادُ نَهْيُها عَن لُبْسِ النِّقابِ والقُفَّازِ، وأمَّا غيرُ النِّقابِ والقُفَّازِ مِمَّا يَسْتُرُ الوَجهَ واليدَينِ، مِن الخِمارِ ونَحوِه، فلِلمرأةِ أنْ تَستُرَ وجْهَها ويدَيْها به عِندَ حَضرةِ الرِّجالِ الأجانبِ أو مُحاذاتِهم؛ فقدْ رَوى الحاكمُ في مُستدرَكِه عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ -رَضيَ اللهُ عنها-: أنَّها كانتْ تُغطِّي وجْهَها في الإحرامِ، وقد جاء النَّصُّ بالنَّهيِ عن النِّقابِ والقُفَّازِ خاصَّةً، وليس عن تَغطيةِ الوجْهِ واليدَينِ.فوائد الحديث
- بيَّنَ اللهُ -عزَّوجلَّ- في كتابه، ورَسولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديثه، ما يَحِلُّ للمُحرِمِ فِعلُه، وما يَحرُمُ عليه، ونَقَلَ ذلك الصَّحابةُ الكرامُ -رَضيَ اللهُ عنهم أجمعينَ- ذلك للأمة.
- تحريم لبس القُمُص والعمائم والبرانس والسراويل ونحوها للمُحْرم من الرجال.
- تحريم لبس الأحْذية التي تُغطّي موضع الوضوء مِن الرِّجل، على المحرم من الرجال.
- تحريم لبس الثّياب التي مسّها الورس أو الزّعفران على المُحْرم من الرجال أو النساء.
- تحريم التطيّب لمَنْ كان مُحْرماً.
- إجابةُ السَّائِلِ بأكثرَ مِن سُؤالِه؛ إتمامًا للفائِدةِ.
الحديث الثاني
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ، والْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ». يَعْنِي: المُحْرِمَ، في هذا الحَديثِ يُخبِرُ عبداللهِ بنُ عبَّاسٍ -رَضيَ اللهُ عنهما- أنَّه سَمِعَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - يَخطُبُ وذلك في عَرَفاتٍ في حَجَّةِ الوداعِ في العامِ العاشرِ مِن الهِجرةِ، يقول: «السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ» والإزارُ هو قِطعةُ القُماشِ تُشَدُ على الوَسطِ، يُستَرُ بها ما بيْن السُّرَّةِ والرُّكبةِ، والسَّراويلُ: هي لِباسٌ مَخيطٌ يُغطِّي ما بيْن السُّرَّةِ والرُّكبتينِ غالبا. قوله: «والْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ» وفي اللفظ الأخر: «مَن لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ» والنَّعْلُ: هي التي تُلبَسُ في الرِّجلِ عندَ المَشْيِ، وكلُّ ما وُقِيَت به القَدَمُ مِن الأرضِ، والغالِبُ فيهِ أنَّه لا يَستُرُ القَدَمَ، والخُفُّ: هو ما يُلبَسُ في الرِّجلِ مِن جِلدٍ رَقيقٍ، ويكونُ ساتِراً للكَعْبينِ فأكثَرَ، ويَلبَسُه المُحرِمُ بعْدَ أنْ يَقْطَعَ أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ -وهما العَظْمانِ الناتئانِ عندَ مَفصِلِ الساقِ والقدَمِ- كما جاء في رِوايةِ ابنِ عمَرَ في الصَّحيحَينِ، فأباحَ - صلى الله عليه وسلم - لُبْسَ السَّراويلِ لمَن لمْ يَجِدْ إزارًا يَلبَسُه. أمَّا إنْ وَجَدَ الإزارَ أو النَّعلَ، فليس له لُبْسُهما.
لاتوجد تعليقات