شرح كتاب الحج من صحيح مسلم .. باب: دُخُول النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- مكة غير مُحْرِم يومَ الفََتح
- جواز لباس الأسود في الخطبة، وإن كان الأبيض أفضل منه، كما ثبت في الحديث الصحيح: «خير ثيابكم البياض»
- الصَّحابةُ رضي الله عنهم كانوا يَرقُبون أحوالَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ليَتعلَّموا منه ولا سيما في المُلِمَّاتِ كالحربِ والغزْوِات
عَنْ جَابِرِ بْنِ عبداللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ مَكَّةَ- وقَالَ قُتَيْبَةُ: دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ- وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، بِغَيْرِ إِحْرَامٍ. (1358/451)، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ؛ وَعَلَى رَأْسِهِ مِغْفَرٌ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ». الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/990) باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.
في الحَديثِ الأول يُخبِرُ الصَّحابيُّ الجَليلُ جابرُ بنُ عبداللهِ -رضي الله عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- دَخلَ مَكَّةَ يومَ الفَتحِ، الَّذي وقَعَ في العامِ الثَّامنِ مِن الهجرةِ، وَكان يَلبَسَ في ذلكَ اليومِ على رأسِه عِمامةً سَوداءً، فلَم يَكُنْ حينئِذٍ مُحرِماً بمَلابسَ الإحرامِ في هَذا اليومِ؛ لأنَّه لم يُرِدْ نُسكًا، بلْ أراد فتْحَ مكَّةَ. وفي الحديث الثاني: عن أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه -: «أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم- دخَلَ عامَ الفتحِ وعلى رأسِه المِغفَرُ». فيَحتمِلُ أنْ يكونَ المِغفَرُ فوقَ العِمامةِ؛ وِقايةً لرَأْسِه المكرَّمِ مِن صَدَأِ الحديدِ، أو كانت العِمامةُ فوقَ المِغفَرِ، أو كان أوَّلَ دُخولِه على رَأسِه المِغفَرُ، ثمَّ أزالَهُ ولَبِسَ العِمامةَ بعْدَ ذلك، فحَكى كلٌّ منهما ما رآهُ. قال القاضي عياض -رحمه الله-: قوله: «بغير إحْرام» والأظهر أنّه دَخل عليه السلام مكة غير مُحْرِم، وقد جاء في حديث يحيى وقتيبة: «ولم يكن مُحْرِماً». انتهى.قوله: «بغير إحرام»
فقوله: «بغير إحرام» هذا صريح في كون النّبي - صلى الله عليه وسلم- دخل مكة يوم الفتح هو وأصحابه غير مُحْرِمين، فدلَّ على جواز دُخولها بغير إحْرام لمن لا يريد حجًّا، ولا عُمْرة، قال أبو الوليد الباجي -رحمه الله-: «دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه الْمِغفر» يقتضي أحد أمرين: إما أنْ يكونَ غير مُحْرِم، فلذلك غطَّى رأسه بالمغفر، وهو الأظهر؛ لأنّه لم يروِ أحدٌ أنّه تَحلّلَ مِنْ إحْرام. وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: «وإنّما أُحِلّتْ لي سَاعة مِنْ نَهار»، فعلى أنّ دُخُول مكة على غير إحْرام؛ خاصٌّ بالنّبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا قال مالك: ولمْ يكنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يومئذٍ مُحْرماً، وقد كان يحتمل أنْ يكون غَطّى رأسه لأذى اضْطرّه إلى ذلك، وافتدى، لو ثَبتَ أنّه دَخلَ مكة مُحْرماً، ودخول مكة على ثلاثة أضرب:- الضرب الأول: أنْ يُريد دُخُولها للنُّسك في حَجّ أو عُمْرة؛ فهذا لا يجوز أنْ يَدْخلها إلا مُحْرماً، فإنْ تَجاوز المِيقات غير مُحْرم، ثُمّ أحْرمَ؛ فعليه دمٌ.
- والضرب الثاني: أنْ يَدخلها غيرَ مُريدٍ للنُّسُك، وإنّما يَدخُلها لحَاجةٍ تَتكرّر، كالحَطّابين وأصْحاب الفواكه؛ فهؤلاء يجوز لهُم دُخُولها غير مُحْرمين؛ لأنّ الضّرورة كانت تلحقهم بالإحْرام، متى احتاجوا إلى دُخُولها، لتكرّر ذلك.
- والضرب الثالث: أنْ يَدخلها لحاجتِه، وهي ممّا لا تَتكرّر؛ فهذا لا يجوزُ له أنْ يَدْخلها إلا مُحْرماً؛ لأنّه لا ضَررَ عليه في إحْرامه، وإنْ دَخَلها غير مُحْرم؛ فهل عليه دمٌ أو لا؟ الظاهر -مِنَ المَذهب المالكي- أنّه لا شيء عليه، وقد أساء. «المنتقى شرح الموطأ» (3/ 80).
قوله: «دخلَ مكة بغير إحْرام»
وقال النووي -رحمه الله-: قوله: «دخلَ مكة بغير إحْرام» هذا دليلٌ لمن يقول بجواز دُخُول مكة بغير إحْرام لمنْ لمْ يُردْ نُسكاً، سواء كان دُخُوله لحاجةٍ تكَرَّر، كالحطّاب والحشّاش والسقّاء والصيّاد وغيرهم، أمْ لمْ تتكرّر كالتاجر والزائر وغيرهما، سواء كان آمناً أو خائفاً، وهذا أصحّ القولين للشافعي، وبه يفتي أصْحابه، والقول الثاني: لا يجوز دخولها بغير إحْرام؛ إنْ كانت حاجته لا تكرّر، إلا أنْ يكون مقاتلًا أو خائفًا مِنْ قتال، أو خائفًا مِنْ ظالمٍ لو ظهر. وقال ابن بطال -رحمه الله-: قال ابن القصّار: اختلف قول مالك والشافعي في جواز دخول مكة بغير إحرام، لمَن لمْ يُرِدْ الحج والعُمرة؛ فقالا مرَّةً: لا يجوز دخولها إلا بإحْرَام؛ لاختصاصها ومباينتها جميع البلدان، إلا الحطَّابين، ومَنْ قَرُب منْها مثل جدة والطائف وعسفان؛ لكثرة تَردّدهم عليها، وبه قال أبو حنيفة والليث، وقالا مَرَّةً أخرى: دُخُولها بإحْرام استحباب لا واجب. انتهى. وإلى هذا القول ذهب البخاري، وله احتج بقوله -عليه السلام-: «ولكلّ آتٍ أتى عليهنّ، ممّنْ أرادَ الحَجّ والعُمرة» فدلّ هذا أنّ مَن لمْ يُرد الحج والعمرة؛ فليست ميقاتًا له، واستدل أيضًا: بدخوله - صلى الله عليه وسلم- عام الفتح وعلى رأسه المغفر، وهو غير مُحرم، وبهذا احتجّ ابن شهاب، ولم يره خصوصًا للرسول - صلى الله عليه وسلم-، وأجاز دخول مكة بغير إحرام، وهو قول أهل الظاهر. وقال المازري -رحمه الله-: قال بعض أصحابنا: لا يدخل مكة إلا بإحْرام؛ إلا لمثل إمامٍ في جيشه للضرورة، وقائل هذا اتبع هذا الحديث على وجهه، واختلف قول مالك: هل دُخول مكة بإحرامٍ واجبٍ أو مُسْتحب؟ وأسقط ذلك مالك عمَّن يكثر تردُّده إليها، كالحطَّابين وأصحاب الفواكه. وقال ابن حجر -رحمه الله-: أمّا مَنْ قال مِنَ الشافعية كابن القاص: دخول مكة بغير إحْرام منْ خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ففيه نظر؛ لأنّ الخُصُوصيّة لا تثبت إلا بدليل.جواز دُخُول مكة للقتال
وقال ابن القيم -رحمه الله-: وفيها- أي الأحاديث-: جواز دُخُول مكة للقتال المُباح بغير إحْرام، كما دخل رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - والمُسْلمون، وهذا لا خلافَ فيه، ولا خلافَ أنّه لا يدخلها مَنْ أرادَ الحج أو العمرة إلا بإحْرام، واختلف فيما سِوى ذلك، إذا لمْ يكنْ الدُّخول لحاجةٍ متكررة، كالحشَّاش والحطاب على ثلاثة أقوال:- أحدها: لا يجوز دُخُولها إلا بإحْرام، وهذا مذهب ابن عباس، وأحمد في ظاهر مذهبه، والشافعي في أحد قوليه.
- والثاني: أنه كالحشّاش والحَطّاب فيدخلها بغير إحْرام، وهذا القول الآخر للشافعي، ورواية عن أحمد.
- والثالث: إنْ كان داخل المَواقيت؛ جاز دخوله بغير إحرام، وإنْ كان خارج المواقيت لمْ يدخل إلا بإحْرام، وهذا مذهب أبي حنيفة.
فقه الحديث
وقال ابن عبدالبر -رحمه الله-: في هذا الحديث من الفقه: دخول مكة بغير إحرام، وبالسلاح، وإظهار السلاح فيها، ولكن هذا عند جميع العلماء منسوخ ومخصوص بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السّماوات والأرض، لمْ تحلَّ لأحدٍ قبلي، ولا تحلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحِلَّت لي ساعةً منْ نهار» يعني: يوم الفتح. التمهيد (4/ 147). وقال أيضًا: ليس هذا عندي- يعني حديث: «دخل مكة وعلى رأسه عمامة سوداء»- بمعارض لحديث ابن شهاب «يعني حديث: «دخل مكة وعلى رأسه المغْفر»؛ لأنه قد يمكن أن يكون على رأسه عمامة سوداء وعليها المغفر، فلا يتعارض الحديثان. التمهيد (4/ 157). وقال القاضي عياض -رحمه الله-: فيحتمل أنّ العمامة كانت تحت المِغْفر؛ صيانةً لرأسه منْ برد المِغْفر وخُشُونته، فلما نزع المِغفر ظهرت العمامة التي ذكر مَن ذكر أنّه دخل مكة وهي على رأسه، على ما ذكرناه. وقال أيضًا: ووجه الجمع بينهما: أنَّ أول دخوله كان وعلى رأسه المغفر، وبعد ذلك كانت عليه العمامة؛ بدليل حديث عمر وابن حريث عن أبيه، وذكره مسلم: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم- خطب الناس، وعليه عمامة سوداء»؛ ولأنَّ خطبته عليه السلام إنما كانت بعد غلبته على مكة، وعند باب الكعبة، ويحتمل أنَّ جابرًا الذي ذكر أنه دخل مكة وعليه عمامة، ولم يتعرض الذي دعته إليه ضرورة الحرب، فلا يستدلّ به على أنه دخلها حلالًا، ويعرض لما رآه عليه بعد نزعه المغْفر من العمامة بعد زوال عذر الخوف، ووضع أوزار الحرب. «إكمال المعلم» (4/476). وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله-: قول جابر: إنّه - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء؛ ليس مناقضاً لقوله: إنّه دخل ذلك اليوم وعليه المغفر؛ لإمكان أنْ تكون العمامة تحت المغفر؛ وقايةً مِن صدأ الحديد وشعثه، أو يكون نزع المغفر عند انقياد أهل مكة، ولبس العمامة، والله تعالى أعلم.جواز لباس الأسود في الخطبة
وأيضًا قال النووي -رحمه الله-: فيه: جواز لباس الثّياب السُّود، وفي الرواية الأخرى: «خطبَ النّاسَ وعليه عِمامةٌ سَوداء». فيه: جواز لباس الأسود في الخطبة، وإن كان الأبيض أفضل منه، كما ثبت في الحديث الصحيح: «خير ثيابكم البياض»، وأمّا لباس الخطباء السواد في حال الخطبة فجائز، ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا، وإنما لبس العمامة السّوداء في هذا الحديث بيانًا للجواز، والله أعلم. «شرح صحيح مسلم» (9/ 133). وقال الغزالي -رحمه الله-: ومَنْ قال: إنّه مكروه وبدعة -أي: لبس السواد للخطيب- أراد به أنه لمْ يكن معهوداً في العصر الأول، ولكن إذا لمْ يَرد فيه نَهي؛ فلا ينبغي أن يُسمّى بدعة ومكروهاً، ولكنه تركٌ للأَحَبِّ». «إحياء علوم الدين» (2/ 336). وقال المُلاّ علي القاري -رحمه الله-: هذا وفي الجملة جاز لبس السواد في العمامة وغيرها، وأنَّ الأفضل البياض؛ نظراً إلى أكثر أحواله - صلى الله عليه وسلم - فعلاً وأمراً، وأغرب الشافعية في قولهم: لبس الخطيب السواد بدعة فليتركه، ويلبس الأبيض، إلا إنْ أُكرِه بخصوصه، كما كان يفعله العباسيون. وفي الحديث: أنّ الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- كانوا يَرقُبون أحوالَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم- ليَتعلَّموا منه، ولا سيما في المُلِمَّاتِ، كالحربِ والغزْوِ، ونَقَلوا كل ذلك لمَن بعْدَهم، ووَصَفوا هيْئتَه ومَلابسَه وجميعَ أحوالِه.
لاتوجد تعليقات