رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 10 مارس، 2025 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: التّغْلِيس بصَلاة الصُّبْح بالمُزْدلفة

  • في الحديث مَشروعيَّةُ الدَّفْعِ مِن المُزدلِفةِ إلى مِنًى بعْدَ مُنتصَفِ اللَّيلِ للضَّعَفةِ خَشيةَ الزِّحامِ كما قال اللهُ تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
  • ظَهَرَ جَلِيًّا في مَناسِكِ الحجِّ مِن التَّيسيرِ على الناسِ ورَفْعِ المَشقَّةِ عنهم ورَحمتِه سبحانه خُصوصًا بالضُّعفاءِ والنِّساءِ قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
 

عَنْ عبداللَّهِ بن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةً إِلَّا لِمِيقَاتِهَا، إِلَّا صَلَاتَيْنِ: صَلَاةَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ بِجَمْع،ٍ وصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا، الحديث أخرجه مسلم في الحج (2/938) باب: استحباب زيادة التغليس بصلاة الصبح يوم النّحر بالمزدلفة، والمبالغة فيه بعد تحقّق طُلوع الفجر، وأخرجه البخاري في (كتاب الحَج) حديث (1682) باب: متّى يُصلّي الفَجْر بجَمع».

       قوله: «ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى صلاة إلا لمِيقاتها، إلا صلاتين: صلاةَ المَغرب والعِشاء بجَمع، وصلّى الفَجرَ يومئذٍ قبلَ مِيقاتها» معناه: أنّه صلى المغرب في وقت العشاء بجَمع، وهي المُزْدلفة، وصَلّى الفجر يومئذ قبلَ ميقاتها، أي: المُعْتاد، ولكنْ بعد تحقّق طلوع الفجر.

قوله: «قبلَ وَقْتها»

       فقوله: «قبلَ وَقْتها» المُراد: قبلَ وَقْتها المُعتاد، لا قبلَ طُلوع الفَجر، لأنّ ذلك ليسَ بجائزٍ بإجْماع المسلمين، فيَتعَيّن تأويله على ما ذكرناه، وقد ثبتَ في صحيح البُخاري في هذا الحديث: أنّ ابنَ مَسْعود صلّى الفَجْر حينَ طَلَعَ الفَجْر بالمُزْدلفة، ثمّ قال: «إنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى الفَجْر هذه السّاعة»، وفي رواية: «فلمّا طَلَعَ الفَجْر قال: «إنّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يُصلّي هذه السّاعة، إلا هذه الصّلاة في هذا المَكان منْ هذا اليوم». قيل: كان يُبكِّرُ مِنْ أجْلِ أنْ يَتَّسِعَ الوقتُ للذِّكرِ والدُّعاءِ، لأنَّ ما بيْن صَلاةِ الفجْرِ ودفْعِ الناسِ إلى مِنىً، مَحلُّ ذِكرٍ ودُعاءٍ. وأيضًا: لِيتَّسِعَ الوقتُ لِما بيْن أيْدِيهم مِنْ أعْمالِ يومِ النّْحْرِ مِنَ المَناسِكِ.

اسْتحباب الصّلاة في أوّل الوقت

       قال النووي: «وفي هذه الرّوايات كلّها حُجّةٌ لأبي حنيفة في اسْتِحباب الصّلاة في آخر الوقت في غير هذا اليوم، ومَذْهبنا ومذهب الجُمهور: اسْتحباب الصّلاة في أوّل الوقت في كلّ الأيام، ولكنْ في هذا اليوم أشدّ اسْتِحباباً، وقد سبق في كتاب الصلاة إيضاح المسألة بدلائلها، وتُسنُّ زيادة التّبْكير في هذا اليوم. قال: وأجابَ أصحابنا عن هذه الروايات بأنّ معناها: أنّه - صلى الله عليه وسلم - كان في غير هذا اليوم، يتأخّرُ عن أوّل طُلوع الفَجر لَحْظة، إلى أنْ يأتيه بلالٌ، وفي هذا اليوم لمْ يَتأخّر، لكثرة المَناسك فيه، فيَحتاج إلى المُبالغة في التّبكير، ليَتّسع الوقتُ لفِعل المناسك. والله أعلم». والجوابُ لأصْحاب أبي حنيفة أيضاً عن هذا الحديث: أنّه مَفْهُوم، وهم لا يقولون به، ونحنُ نقولُ بالمفهوم، ولكنْ إذا عارضه مَنْطُوقٌ، قدّمناه على المفْهُوم، قد تظاهرت الأحاديثُ الصّحيحة بجواز الجَمْع، ثم هو مَتْروك الظّاهر بالإجْماع في صَلاتي الظّهر والعصر بعرفات. وفي البخاري: عن عبدالرحمنِ بنِ يزيدَ قالَ: خرجْنا مع عبداللهِ - رضي الله عنه - إلى مكةَ، ثمّ قَدِمنا جمعًا فصلى الصلاتينِ: كُلُّ صلاةٍ وحدها بأذانٍ وإقامةٍ، والعشاءُ بينهما، ثمّ صَلّى الفجرَ حين طلعَ الفجرُ- قائلٌ يقولُ طلعَ الفجرُ، وقائلٌ يقولُ لم يطلعِ الفجرُ- ثمّ قالَ: إنّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «إنّ هاتين الصّلاتينِ حُوّلتا عن وقتِهما في هذا المكانِ: المَغربَ والعشاءَ، فلا يَقدَمُ الناسُ جمعاً حتّى يُعْتِمُوا، وصلاةُ الفجرِ هذه الساعةُ». ثمّ وقفَ حتّى أسفرَ، ثمّ قالَ- أي عبدالله-: لو أن أميرَ المؤمنين أفاضَ الآن أصابَ السنةَ. فما أدري: أقولُه كان أسرعَ، أم دفعُ عثمانَ - رضي الله عنه -، فلم يزلْ يلبي حتى رمى جمرةَ العقبةِ يومَ النحرِ.

فوائد الحديث

1- مُبادَرةُ الحاجِّ بصَلاتي المغرِبِ والعِشاءِ جَمعا، أوَّلَ قُدومِه المُزدلِفةَ. 2- وفيه: التَّبكيرُ بالفجْرِ في أوَّلِ وَقتِه صَبيحةَ يومِ النَّحرِ. 3- قد ظَهَرَ جَلِيًّا في مَناسِكِ الحجِّ مِن التَّيسيرِ على الناسِ، ورَفْعِ المَشقَّةِ عنهم، ورَحمتِه -سبحانه- خُصوصًا بالضُّعفاءِ والنِّساءِ، ما قال اللهُ -تعالى- فيه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185). وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78).

باب: الإفاضَة مِنْ جَمْع بليلٍ للمرأة الثقيلة

        عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ تَدْفَعُ قَبْلَهُ، وقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وكَانَتْ امْرَأَةً ثَبِطَةً- يَقُولُ الْقَاسِمُ: والثَّبِطَةُ الثَّقِيلَةُ- قَالَ: فَأَذِنَ لَهَا فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ، وحَبَسَنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، ولَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ، فَأَكُونَ أَدْفَعُ بِإِذْنِهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/939) باب: اسْتِحباب تقديم دَفع الضّعفة منَ النّساء وغيرهنّ منْ مُزْدلفة إلى مِنى في أواخر الليالي قبلَ زَحمة الناس، واسْتحباب المُكث لغيرهم حتى يُصلّوا الصُّبح بمُزْدلفة.

        في هذا الحديثِ تروي أمُّ المؤمنينَ عائِشةُ -رضي الله عنها- أنَّ أمَّ المؤمنينَ سَودةَ بنتَ زَمْعةَ -رضي الله عنها- كانَت ضَخمةً، أي: سَمينةً ثَقيلةَ الحركةِ، فاستَأذَنَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تَنزِلَ مِن مُزْدَلِفَةَ آخرَ اللَّيلِ، وتَذهَبَ إلى مِنًى لِتَرمِيَ الجمْرةَ قبلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، أي: شِدَّةِ زِحامِ النَّاسِ؛ لأنَّ بَعضَهم يَحطِمُ بَعضًا مِن الزِّحامِ، فأَذِنَ - صلى الله عليه وسلم - لها بالنُّزولِ في آخِرِ اللَّيلِ، فنَزَلَت قبْلَ الفَجرِ.

المزدلفة

         والمُزدلِفةُ كما سبق اسمٌ للمكانِ الذي يَنزِلُ فيه الحجيجُ بعْدَ الإفاضةِ مِنْ عَرَفاتٍ، ويَبيتونَ فيه لَيلةَ العاشرِ مِن ذي الحِجَّةِ، وفيه المَشعَرُ الحرامُ، وتُسمَّى جَمْعاً، وتَبعُدُ عن عَرَفةَ حوالي (12 كم)، وهي بجِوارِ مَشعَرِ مِنًى، ومِنًى: وادٍ قُربَ الحَرَمِ المَكِّيِّ، يَنزِلُه الحُجَّاجُ لِيَبيتوا فيه يَومَ التَّرويةِ، وأيَّامَ التَّشريقِ، ويَرْموا فيه الجِمارَ. قوله: «قبل حَطَمة الناس» بفتح الحاء أي: زحمتهم. قوله: «وكانت امْرأةً ثبطة» هي بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة وإسكانها، وفسّره في الحديث بأنّها: الثقيلة، أي: ثقيلة الحركة بطيئة، مِنَ التثبيط وهو التعويق. ثمَّ قالتْ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضي الله عنها-: وأقمْنَا حتَّى أصبَحْنا نَحنُ سائرَ أهلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ دَفَعْنا مِن المُزدلِفةِ إلى مِنًى مع رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عندَ الإسفارِ، وهو ظُهورُ ضَوءِ النَّهارِ. فلمَّا رَأَت عائشة -رضي الله عنها- شِدَّةَ الزِّحامِ، تَمنَّت لو كانَت فَعَلَت كما فَعَلَت سَوْدَةُ -رضي الله عنها-، ولو أنَّها استأذَنَت مِثلَها لَسُرِرَتْ كَثيراً، ولَفَرِحَتْ فَرَحاً عَظيماً أكثَرَ مِن فَرَحِها بأيِّ شَيءٍ يُفرَحُ به، بالتَّخلُّصِ مِن ذلك التَّعبِ الَّذي عانَتْه مِن شِدَّةِ الزِّحامِ.  

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك