رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي 28 مايو، 2025 0 تعليق

شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: البَعثُ بالهَدْي وتَقْليدها وهُو حلال

  • حرَصَ الصَّحابةُ رضي الله عنهم كلَّ الحرصِ على مُوافَقةِ هَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أقوالِه وأفعالِه
  • الأصل التأسّي بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم كافة حتى تثبت الخُصُوصيّة

عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عبدالرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: أَنَّ عبداللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا، حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الحَاجِّ، حَتَّى يُنْحَرَ الْهَدْيُ، وَقَدْ بَعَثْتُ بِهَدْيِي، فَاكْتُبِي إِلَيَّ بِأَمْرِكِ. قَالَتْ عَمْرَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - شَيْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ، حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ. وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمَاً، فَقَلَّدَهَا.. الحديثان رواهما مسلم في الحج (2/959) باب: استحباب بعث الهدي إلى الحَرَم لمن لا يُريد الذهاب بنفسه، واسْتحباب تقليده وفتل القلائد، وأنّ باعثه لا يصير مُحْرماً، ولا يَحرم عليه شيء بذلك، ورواه البخاري في الحج (1700) باب: مَنْ قلّد القَلائد بيده.

  •  قوله: ابْن زِيَاد، صوابه: زياد، وهو ابن أبي سفيان، وكان يُلقَّبُ: زِيادَ بنَ أبيهِ، وهكذا وقع على الصّواب في صحيح البخاري، والموطأ وسنن أبي داود، كما نبّه عليه أبو علي النسائي والمازري والقاضي عياض وغيرهم، ولأنّ ابن زياد لمْ يُدرك عائشة -رضي الله عنها-.

فَتْوى ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-

        وفي هذا الحديثِ: أخبَرَتْ عَمْرةُ بِنتُ عبدالرَّحمنِ أنَّ زِيادَ بنَ أبي سُفيانَ كَتَبَ إلى عائِشةَ -رضي الله عنها-: إنَّ عبداللهِ بنَ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- كان يُفتي: بأنَّ مَن أَهْدى هدْيًا- مِن الإبلِ أو البَقرِ، أو الغنَمِ أو المَعْزِ- للبيتِ الحَرامِ، فبَعَثَ به لِيُذبَحَ في الحجِّ، ولكنَّه لم يَتلبَّسْ بالنُّسُكِ، ولم يُسافِرْ للحجِّ، بلْ بقِيَ في مَوطنِه، فإنَّه يَحرُمُ عليه ما يَحرُمُ على الحاجِّ؟ فلا يَقرَبُ الطِّيبَ ولا النِّساءَ، ولا غيرَ ذلك مِن مَحظوراتِ الإحرامِ، ويَظَلُّ على ذلك حتَّى يُنْحَرَ هَدْيُه.

       فلمَّا سَمِعَتْ أمُّ المؤمنينَ عائِشةُ -رضي الله عنها- فَتْوى ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، ردَّتْ هذه الفتْوى بأنَّها مُخالِفةٌ لِما فَعَلَه رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فقدْ كانتْ تَصنَعُ القلائدَ- وهي الأطواقُ- الَّتي كانت تُوضَعُ في رِقابِ هدْيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - التي كان سيُرسِلُها، وهو غيرُ حاجٍّ وغيرُ مُتلبِّسٍ بالنُّسكِ، ثُمَّ وضَعَها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - بيَدِه الشَّريفةِ على الهدْيِ، وبعَثَ بها مع أبي بَكرٍ - رضي الله عنه - إلى الحجِّ، سَنةَ تِسعٍ مِن الهِجرةِ لَمَّا حَجَّ بالناسِ، ولمْ يَلتزِمِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - بما يَلتزِمْ به المُحرِمُ، ولم يَحرُمْ عليه شَيءٌ أحلَّه اللهُ لغيرِ المُحرِمِ بحَجٍّ أو عُمرةٍ.

«ثمّ بعَثَ بها معَ أبي»

       وفي رواية البخاري قالت: «ثمّ بعَثَ بها معَ أبي» تُريد بذلك أباها أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -، واستفيد من ذلك: وقت البَعث، وأنّه كان في سنة تسع عام حجّ أبي بكر بالناس، وروى مالك في «الموطأ»: عن ربيعة بن عبدالله بن الهدير: أنّه رأى رجُلاً مُتجرّداً بالعراق، فسأل عنه، فقالوا: إنّه أمر بهديه أنْ يقلّد، قال ربيعة: فلقيت عبدالله بن الزبير فذكرت له ذلك، فقال: «بِدْعةٌ وربّ الكعبة». ورواه ابن أبي شيبة.

       قال ابن التين: خالفَ ابنُ عباس في هذا جميع الفقهاء، واحتجت عائشة بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما روته في ذلك يَجبُ أنْ ُيصار إليه، ولعلّ ابن عباس رَجَع عنه، فتعقّبه الحافظ بقوله: وفيه قصورٌ شديدٌ، فإنّ ابن عباس لمْ ينفرد بذلك، بل ثبتَ ذلك عن جماعةٍ مِنَ الصحابة.

         وقال ابن المنذر: قال عمر، وعلي، وقيس بن سعد، وابن عمر، وابن عباس، والنخعي، وعطاء، وابن سيرين وآخرون: مَنْ أرسلَ الهدي وأقام، حَرُم عليه ما يحرم على المُحْرم، وقال ابن مسعود وعائشة وأنس، وابن الزبير وآخرون: لا يصير بذلك مُحْرماً، وإلى ذلك صار فقهاء الأمْصَار.

اسْتقرّار الأمر على خلاف ما قال ابن عباس

         وجاء عن الزهري ما يدلّ على أن الأمر اسْتقرّ على خلاف ما قال ابن عباس، ففي البيهقي: عنه قال: أول مَنْ كشَفَ العَمَى عن الناس، وبيّنَ لهم السُّنّة في ذلك عائشة. فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها، قال: فلما بلغ الناس قول عائشة، أخذوا به، وتركوا فتوى ابن عباس، وبه قال الجمهور: لا يصير بتقليد الهَدي وإهْدائه مُحْرماً، ولا يجبُ عليه شيء.

         قال الحافظ ابن حجر: وله حالان: إمّا أنْ يَسوقَ الهَدْي، ويَقصد النُّسك، فإنّما يُقلّدها ويُشْعرها عند إحْرامه، وإمّا أنْ يَسوقه ويُقيم، فيُقلّدها مِنْ مكانه. وهو مقتضى حديث الباب. انتهى.

         وقال ابن التين: يحتمل أنْ يكونَ قولُ عائشة: «ثُمّ قلّدها بيدِه» بَياناً لحِفظها للأمر ومعرفتها به، ويحتمل أنْ تكونَ أرادتْ أنّه - صلى الله عليه وسلم - تَناولَ ذلك بنفسِه، وعَلمَ وقتَ التّقليد، ومع ذلك فلمْ يَمتنع مِنْ شَيءٍ يَمتنع منه المُحْرِم، لئلا يَظنّ أحَدٌ أنه اسْتباح ذلك قبل أنْ يعلم بتقليد الهدي.

الحديث الثاني

عنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً إِلَى الْبَيْتِ غَنَمَاً، فَقَلَّدَهَا.

        في هذا الحديثِ تُخبِرُ عائشةُ -رضي الله عنها-: «أنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - أهْدَى مرَّةً غَنمًا» أي: في مَرَّة مِن مرَّاتِ إرْسالِه - صلى الله عليه وسلم - للهَديِ إلى الحرم، كانتْ غَنماً، وهو يدلُّ على جواز إهداء الغَنم إلى الحرم، ولا يلزم أنْ تكون مِنَ الإبل.

       وما أهداه رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليس هو هدْيَ الإحْرَام، ولهذا أقام حلالًا بعدَ إرسالِه، ولم يُنقَلْ أنّه أهدَى غنماً في إحْرامِه، ولا مانع مِن إهداء مَنْ أحرمَ بالغنمِ. قولها: «وقلَّدها» أي: جَعَل في عُنُقِها قِلادةً، يُستدلُّ بها على أنَّها مِن ذَبائحِ الهَديِ.

من فوائد الحديثين

  •  الهَديُ اسمٌ لما يُهدى ويُذبَحُ في الحَرمِ، مِنَ الإبلِ والبقرِ والغَنمِ والمَعِزِ، وهو مِن الشَّعائرِ المُعظَّمةِ، وقد وضَّح النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم - أحكامَها، ونقَلَ الصَّحابةُ الكِرامُ سُنَّتَه في ذلك.
  •  مَشروعيَّةُ إرسالِ الهدْيِ إلى الحرَمِ ممَّن لم يَذهَبْ لأداءِ الحجِّ أو العُمرةِ.
  •  تناول الكبير الشيء بنفسِه، وإنْ كان له مَنْ يكفيه، إذا كان ممّا يهتم به، ولا سيما ما كان مِنْ إقامة الشّرائع وأمور الديانة.
  •  وفيه تعقب العُلماء على بعضهم، ورد الاجتهاد بالنّص.
  •  وأنّ الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - التأسّي به، حتى تثبت الخُصُوصيّة.
  •  حرَصَ الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- كلَّ الحرصِ، على مُوافَقةِ هَدْيِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم - في جَميعِ أقوالِه وأفعالِه، وكان يُراجِعُ بعضُهم بَعضاً في ذلك.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك