رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: الحضرمي أحمد الطلبه 19 ديسمبر، 2018 0 تعليق

أوراق بحثية – حِفْظُ حُقوقِ المرأةِ في القرآن سورة النساء أنموذجًا (3)


استكمالاً لما بدأنا الحديث عنه في الحلقة الماضية عن حقوق المرأة في القرآن الكريم، وقلنا: إن القرآن جاء ليؤسِّس مجتمعًا متكاملًا منسجمًا، يسوده التديّن الصحيح المنضبط، ويسوسه الشرع الحكيم، وذكرنا تناول القرآن لقضية المرأة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والدينية، وكيف فصَّل القرآن حقوقها أيما تفصيل! واليوم نعرج على مسألة في غاية الأهمية، وقد تكررت في السورة، وهي تقرير الحق أثناء الخلاف في الحياة الزوجية وكيفية إدارة هذا الخلاف شرعا؛ فحين سمت الشريعة الحياة الزوجية ميثاقا غليظا؛ فإنها لم تترك أي خلاف يقع بين الزوجين دون تدخل شرعي إما بإعطاء حكم أو تشريع قضائي؛ وذلك ما سوف نفصله فيما يلي.

     لا شك أن الخلافات مظنة ضياع الحقوق والفجور في الخصومة والظلم، ويظهر ذلك حين تكون هذه الخلافات ناتجة عن معاشرة طويلة قد تؤدي إلى الْقِلَى؛ بسبب ما يتكرر فيها من أحداث قد تكون مقلقة لكل من الطرفين، ولأن الشريعة جعلت على المرأة حقوقا، منها: وجوب الطاعة لزوجها وحسن عشرته؛ فإن ذلك لم يمنع من وجود حلول للمشكلات الزوجية في حالة تضييع أحد من الطرفين لحق الآخر، أو أن الحياة بينهما لم تعد ممكنة، وعند النظر في الإجراءات المتبعة لنزع فتيل الخلاف بين الأسرة نجد الاهتمام الشديد بقضية الحقوق، والتأكيد على المحافظة عليها، وقد تناولت السورة هذه القضية في مقطعين منها:

التأكيد على الحقوق

     فالأول منهما أكدت فيه على الحقوق، ثم ذكرت بعد ذلك الإجراء اللازم بعد معرفة الحقوق، فقال -سبحانه- مؤكدًا لحقوق كل من الفريقين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (النساء: 35)، «وهذا حكم أحوال أخرى تعرض بين الزوجين، وهي أحوال الشقاق من مخاصمة ومغاضبة وعصيان، ونحو ذلك من أسباب الشقاق، أي: دون نشوز من المرأة» (1). وقد أجمع العلماء أن المخاطب بهذه الآية الحكام والأمراء(2).

الأقارب أطلب للإصلاح

     وحسبك بهذا اهتماما؛ وقوله: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} رجلا يصلح للحكم والإصلاح بينهما، {وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}؛ لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للإصلاح، ونفوس الزوجين أسكن إليهما؛ فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة، ويخلو كل حكم منهما بصاحبه ويفهم مراده، ولا يخفي حكَم عن حكَم شيئا إذا اجتمعا {إِن يُرِيدَا} أي: الحكمان {إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا} أي: الزوجين، أي: يقدرهما على ما هو الطاعة من إصلاح أو فراق، {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا} بكل شيء، {خَبِيرًا} بالبواطن كالظواهر، فيمضي على الزوجين ما اتفق الحكمان عليه(3).

غاية العدل

     فاختيار الشريعة للحكمين من أهل الأزواج في غاية العدل؛ وذلك أن كلا من الزوجين يركن إلى قريبه، ويعتقد حرصه على توفيته حقه، وهذا الحكم خاص بهذه القضية، وإلا فالقرابة في الحكم في غير هذه الخصومة تعد تهمة تسقط الحكم، وتردّ شهادة الشاهد، ولا شك أنه مع هذا الإجراء لا يمكن لأحد من الفريقين أن يدعي ضياع حقه؛ لأن الذي حكم به هو الحكم الذي ارتضاه من أهله، ويعلم حرصه على حقه ومعرفته بمراده، أما الآية الأخرى فقد حددت سبب الفرقة بين الزوجين ومبرره من طرف المرأة، وهو مجرد الخوف وغلبة الظن على ضياع الحق؛ فجعلت لها الحق في الخروج من ربقة الزوجية إذا لم تتمكن من الصلح؛ فقال -سبحانه-: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 128)، فعن خالد بن عرعرة قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول في قوله -عز وجل-: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا}، قال: «هو الرجل يكون عنده امرأتان، فتكون إحداهما قد عجزت، أو تكون دميمة، فيريد فراقها، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به، فإن رجعت سوى بينهما» (4).

أحكام الشريعة

      وقوله: {خافَتْ} بِمَعْنَى: تَوَقَّعَت(5)، وقوله: {نُشُوزًا} دوام النشوز، وقد جعلت الشريعة في هذه المسألة أحكاما، منها جواز المصالحة على مال في مقابل التنازل عن حقها في المبيت أو التنازل عنه تلقائيًّا أو الإيثار(6)، ثم مع هذا أكد على حقّها، وأنها مع مشقة العدل فيما يتعلق بين الأزواج في الأمور القلبية، فإن ذلك لا يجيز تضيع الحق: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (النساء: 129)، ثم ذكر أن الفراق أحد الحلول التي لا تغلق على أحد من الزوجين باب الخير، بل قد يكون فيها خير كثير: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلًا مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} (النساء: 130).

حقوق المرأة غير مهملة

     فيعلم مما سبق أن الحقوق الشرعية للمرأة غير مهملة، بل هي مقررة في كتاب محفوظ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد؛ ولذا فقد قررت في هذه السورة أصولها وكثير من فروعها، مما لو تتبع لخرجت منه مجلدات لا يفي القلم بعدها، ولا العقل بحصرها، والمراد من هذه الوقفات السريعة إرشاد القارئ إلى المعاني القريبة المقصودة للشارع، ومن أراد التوسع فعليه بكتب التفسير والأحكام، ففيها البغية، وإليها المنتهى في الاستيعاب، وقد تميزت أحكام القرآن في حفظ الحقوق عمومًا وحقوق المرأة خصوصًا بما تتميز به الأحكام المنزلة من رب العالمين، وهو الإتقان والحسن؛ فهي ليست ناتجة عن ردة فعل ذات طابع فكري أو مادي، ولا تستحضر المعاني استحضارا عاطفيًّا يخرج عن طور الحق، ويورد المهالك، بل هي من الحكيم الخبير الذي يشرع لعباده، وهو عالم بحالهم وما يطيقون، ويحكم بالأصلح الذي يجمع بين العدل والإحسان، ويزيل الخلاف.

المراجع

 (1) التحرير والتنوير (5/ 45).

(2) ينظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (7/ 425)، الاستذكار لابن عبد البر (6/ 173).

(3) ينظر: شرح الزرقاني على الموطأ (3/ 324).

(4) ينظر: تفسير مجاهد (ص: 294)، تفسير الطبري (9/ 260).

(5) ينظر: تفسير القرطبي (5/ 304).

(6) ينظر: المرجع السابق (5/ 305).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك