سارعـوا بالتوبـة
يا مَن أسمعَتْه المواعِظُ إرشادًا ونُصحًا! هلا انتهيتَ وارعوَيْتَ، وبذِلتَ وبكَيتَ، وفتحتَ للخير عينيك، وقمتَ للهُدى مشيًا على قدَمَيْك، لتحصُلَ على غايةِ المُراد، وتسعَدَ كلَّ الإسعاد؛ فإن عصيتَ وآذَيتَ، وأعرضتَ وتولَّيتَ، حتى فاجأَكَ الأجلُ وقيل: مَيْت، فستعلمُ يوم الحِسابِ من عصيتَ، وستبكِي دمًا على قُبحِ ما جنَيتَ، {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} (الفجر: 23).
يا هاتِكَ الحُرُماتِ لا تفعل، يا واقِعًا في الفواحِشِ أما تستحِي وتخجَل؟! يا مُبارِزًا مولاك بالخطايا تمهَّل، يا مُقلِقًا نفسَه فيما يشتهِي ويُريد، الملِكُ يرى والمَلَكُ شهيد، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18).
يا مشغولًا قلبُهُ بلُبنَى وسُعدَى، يا مُستلِذَّ الرُّقادِ وهذه الرَّكائِبُ تُحدَى، أعلَى قلبِكَ حجابٌ أم غشَا، أم في عينِك كمَهٌ أم عَشَى، يا مَن أقعَدَه الحِرمان، يا مَن أركسَه العِصيان، كم أغلقتَ بابًا على قبيحٍ، كم عارَضتَ عن قومٍ نصيح، كم صلاةٍ تركتَها، ونظرةٍ أصبتَها، وحقوقٍ أضعتَها، ومناهِي أتيتَها، وشُرورٍ نشرتَها، أنسيتَ ساعةَ الاحتِضار حين يثقُلُ منك اللسان، وترتخِي اليَدَان، وتشخَصُ العينان، ويبكِي عليك الأهلُ والجِيران؟!
أنسيتَ ما يحصُلُ للمُحتضَر حال نزعِ رُوحِه، حين يشتدُّ كربُهُ ويظهرُ أنينُه، ويتغيَّرُ لونُه ويعرَقُ جبينُه، وتضربُ شِمالُهُ ويمينُه؟! «لا إله إلا الله، إن للموتِ سكَرَات».
أين من عاشَرناه كثيرًا وألِفنا؟ أين من مِلنَا إليه بالوِداد ولاطَفْنا؟ كم أغمَضْنا من أحبابِنا جَفْنا، كم عزيزٍ دفنَّاه وانصرَفنا، كم قريبٍ أضجعنَاه في اللَّحْدِ وما عطَفْنا! فهل رحِمَ الموتُ منا مريضًا لضعفِ حاله هل تركَ كاسِبًا لأجل أطفاله، هل أمهلَ ذا عِيالٍ من أجل عِيالِهِ؟!
أين من كانوا معَنا في سالِفِ الأيامِ والأعوام؟! أتاهم هاذمُ اللذَّات، وقاطِعُ الشهوات، ومُفرِّقُ الجماعات، فأخلَى منهم المساجِدَ والمشاهِد.
تراهم في بُطونِ الألحادِ سَرعَى، لا يجِدون لما هم فيه دفعًا، ولا يملِكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، ينتظِرون يومًا الأُممُ فيه إلى ربها تُدعَى، والخلائقُ تُحشَرُ إلى الموقفِ وتسعَى، والفرائِصُ ترعُدُ من هولِ ذلك اليومِ والعيونُ تذرِفُ دمعًا، والقلوبُ تتصدَّعُ من الحسابِ صَدعًا.
استدرِك -يا رعاك الله- من العُمرِ ذاهِبًا، ودعِ اللهوَ جانِبًا، وقُم في الدُّجَى نادِبًا، وقِف على البابِ تائِبًا؛ فالتوبُ مقبولٌ، وعفوُ الله مأمولٌ، وفضلُهُ مبذولٌ، {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} (الانشقاق:7-15)
إن الأيام تُطوَى، والأعمارُ تفنَى، والأبدانُ تَبلَى، والسعيدُ من طالَ عُمرهُ وحسُنَ عملُه، والشقيُّ من طالَ عُمرهُ وساءَ عملُه؛ فاتقوا اللهَ حقَّ تُقاتِه، وسارِعوا إلى مغفرته ومرضاتِه، ومن كانت عليه فريضةٌ فليقضِها، ومن كانت عليه كفَّارةٌ فليُؤدِّها، ومن كانت له مظلِمةٌ لأخيه من عِرضٍ أو شيءٍ فليتحلَّلْه منه اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا دِرهَم، إن كان له عملٌ صالحٌ أُخِذَ منه بقدرِ مظلِمَته، وإن لم يكن له حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبِهِ فحُمِل عليه.
و«ما حقُّ امرئٍ مُسلمٍ له شيءٌ يُوصِي به يَبيتُ ليلتين إلا ووصيَّتُه مكتوبةٌ عنده»، و«من أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويُدخَل الجنة، فلتأتِهِ منِيَّتُهُ وهو يُؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناسِ الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه».
والحمد لله رب العالمين
لاتوجد تعليقات