رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: جهاد العايش 7 نوفمبر، 2016 0 تعليق

الأربعون الفلسطينية الْحَديثُ الثالث والْعِشْرُون (1) فَضُلُ الْهِجْرةِ إِلَى بِلادِ الشَّامِ

 

الأرض المباركة فلسطين مهاجر إبراهيم وقبلة الأنبياء ومأوى الطائفة المنصورة على مر العصور

 

 

كتاب الأحاديث الأربعون الفلسطينية، وثيقة نبوية تؤكّد ارتباط الأرض المقدسة فلسطين برسالة التوحيد عبر الأزمان كلها أولها وأوسطها وآخرها ، إنها أحاديث المصطفى[ التي تشد العالمين إلى أرض فلسطين، إنها زبدة أحاديث سيد المرسلين حول فلسطين وأهلها, صحيحة صريحة تبعث فينا الأمل والجرأة في الحق، وصدق اليقين، ولقد لقي متن  كتاب: (الأحاديث الأربعون الفلسطينية) قبولا واسعا فقد تدافع كثيرون إلى ترجمته إلى لغاتهم؛ فاستحق أن يكون لهذا المتن شرح يليق به، وها نحن أولاء نشرح هذه الأحاديث في هذه السلسلة المباركة، واليوم مع شرح الحديث الثالث والعشرون:

     عن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال :سمعت رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول‏: «سَتَكُونُ», وفي رواية: «إنها», هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ, وفي رواية عن ابن عمر: «سيهاجر أهل الأرض هجرة بعد هجرة؛ فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْض ‏أَلْزَمُهُمْ ‏‏مُهَاجَرَ‏ ‏إِبْرَاهِيمَ, وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا, ‏تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ, تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ, وَتَحْشُرُهُمْ النَّارُ»، وفي رواية: «تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا, وَتَأْكُلُ مَنْ تَخَلَّفَ, مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِير».

 مناسبة الحديث

      عن عُلَيِّ بن رباح قال: خرجت حاجًّا، فقال لي سليمان بن عنز قاضي مصر: أبلغ أبا هريرة  مني السلام، وأعلمه أني قد استغفرت الغداة له ولأمه؛ فلقيته فأبلغته، قال: وأنا قد استغفرت له، ثم قال: كيف تركتم أمّ حَنوٍ؟ يعني -مصر- قال: فذكرت له من رفاهيتها  وعيشها قال: أما إنها أول الأرض خرابًا، ثم أرمينية، قلت: سمعت  ذلك من رسول الله؟ قال: لا ولكن حدثني  عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله يقول: وذكر الحديث.

شرح الحديث

     الأرض المباركة فلسطين إنها مهاجر إبراهيم وقبلة الأنبياء ومأوى الطائفة المنصورة على مر العصور، ولأجلها وأهلها دبج شيخ الإسلام ابن تيمية كلماته, فقال: «فيها المسجد الأقصى، وفيها مبعث أنبياء بني إسرائيل، وإليها هجرة إبراهيم، وإليها مسرى نبينا ومنها معراجه، وبها ملكه وعمود دينه وكتابه وطائفة منصورة من أمته، وإليها المحشر والمعاد كما أن من مكة المبدأ. فمكة أم القرى من تحتها دحيت الأرض والشام إليها يحشر الناس».

     قوله: سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ: وفي رواية: إنها: الضمير للقصة، أي بعد هجرة حقت ووجبت وهي الهجرة الأولى من مكة إلى المدينة، قال ملا علي القاري في شرحه للحديث : «ستكون هجرة إلى الشام بعد هجرة كانت إلى المدينة، قال التوربشتي: وذلك حين تكثر الفتن، ويقل القائمون بأمر الله في البلاد، ويستولي الكفرة الطغاة، على بلاد الإسلام، ويبقى الشام تسومها العساكر الإسلامية منصورة على من ناوأهم ظاهرين على الحق حتى يقاتلوا الدجال؛ فالمهاجر إليها حينئذ فارٌ بدينه ملتجئ إليها لإصلاح آخرته، يكثر سواد عباد الله الصالحين القائمين بأمر الله -تعالى-, قال الخطابي: «فالهجرة الثابتة هي الهجرة إلى الشام يرغب فيها خيار الناس».

وهي هجرة واجبة للوازمها، بعد الهجرة التي كانت من مكة إلى المدينة، لاستيلاء الكفار على بلاد الإسلام، واختلال أمر الدين فيها، بعد أن تكون هي الملاذ الآمن، والله أعلم .

وقد فهم هذه المعاني الصحابي الجليل أبو ذر لما سأله النبي فقال له: «كيف بك إذا أخرجوك من المدينة؟ قال: آتي الأرض المقدسة، قال: فكيف بك إذا أخرجوك منها؟ قال: آخذ سيفي فأضرب به، قال: فلا، ولكن اسمع وأطع، وإن كان عبدًا أسود».

      قوله: فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ: و (الفاء) في قوله: «فخيار الناس» تفصيل للمجمل، كأنه قيل: سيحدث للناس مفارقة من الأوطان، وكل إنسان يفارق وطنه إلى آخر ويهجره هجرة بعد هجرة؛ فخيارهم من يهاجر أو يرغب إلى مهاجر إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وهو الشام، فيه مضاف مقدر، أي: هجرة خيار الناس، أو المعنى: خيار الناس المهاجر.

     ‏قوله: أَلْزَمُهُمْ ‏مُهَاجَرَ‏ ‏إِبْرَاهِيمَ: بِفَتح الجيم، وهو موضع المهاجرة، يريد به الشام ؛ لأن إبراهيم -عليه السلام- لما هاجر من أرضه وبلده العراق مضى إلى الشام وأقام بها . فقال الله -تعالى- بحقه وابن أخيه لوط :{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء:71)، قال ابن جريج أي إبراهيم وابن أخيه لوطًا,من أَرض العراق إِلى أَرض الشَّام.

      قال قتادة : «كانا بأرض العراق فأُنْجيا إِلى أرض الشَّام، وكان يقال للشّام: عمادُ دار الهِجرة، وما نقص من الأرض زيد في الشام، وما نقص من الشام زيد في فَلَسطين، وكان يقال: هي أَرض المحشَر والمنشر، وبها مَجمَعُ النَّاس، وبها يَنزل عيسى ابن مَريم، وبها يُهلك اللهُ مسيح الضّلالة الكذَّاب الدَّجال.

     قال الطبري في تفسير الآية: هي أرض الشام، فارق -صلوات الله عليه- قومه ودينهم وهاجر إلى الشام، ثم قال: وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك؛ لأنه لا خلاف بين جميع أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام، وبها كان مقامه أيام حياته، وإن كان قد كان قدم مكة وبنى بها البيت، وأسكنها إسماعيل ابنه مع أمه هاجر، غير أنه لم يقم بها، ولم يتخذها وطنًا لنفسه ولا لوط، والله إنما أخبر عن إبراهيم ولوط أنه أنجاهما إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.

     وبهذا نخلص إلى أن مهاجر إبراهيم -عليه السلام- كان إلى الشام، وقيل: إن إبراهيم هاجر إلى الخليل في فلسطين . فكانت مهاجر أنبياء الله جميعًا حيهم وميتهم  مثل يوسف -عليه السلام- الذي طلب من بني إسرائيل أن يأخذوه معهم إلى الأرض المقدسة، كما كان معنا في حديث عجوز بني إسرائيل، وبه قال  ضَمرةَ بن ربيعة، قال: سَمعتُ أَنَّه لم يُبعث نبيّ إِلّا من الشَّام، فإِن لم يكن منها أُسري به إِليها.

     قوله : وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا ‏‏تَلْفِظُهُمْ :أي في آخر الزمان، وينتقل من الأراضي التي يستولي عليها الكفرة خيار أهلها ، ويبقى خساس تخلفوا عن المهاجرين جُبْنًا عن القتال، وحرصًا وتهالكًا على ما كان لهم فيها من ضياع ومواشٍ ونحوهما من متاع الدنيا،فهم لخِسَّةِ نفوسهم وضعف دينهم كالشيء المسترذل المستقذر عنه، وكأن الأرض تستنكف عنهم فتقذفهم، والله -سبحانه- يكرههم فيبعدهم من مظانّ رحمته ومحلِّ كرامته، إبعاد من يستقذر الشيء وينفر عنه طبعه، فلذلك منعهم من الخروج ، وثبطهم قعودًا عند أعداء الدين.  

 تَلْفِظُهُمْ: بكسر الفاء أي: تَقذِفُهم وتَرميهم. وقد لفظ الشيء يَلفِظه لفظا: إذا رماه. لَفَظ الشيء من فمه رماه، وذلك الشيء المرمي (لُفاظة).

قوله: أَرْضُوهُمْ : جمع أرض، أي تقذفهم «أرضوهم»: وليس لهم فيها قرار من أرض إلى أرض لاستنكافها عنهم .

قوله:تَقْذَرُهُمْ :بفتح الذال المعجمة أي تكرههم. القَذَر: ضد النظافة.وتَقْذَرُهم نَفْسُ الله -عزوجل- : أي يكره خروجهم إلى الشام ومقامهم بها، فلايُوَفّقهم لذلك، كقوله تعالى: {كره الله انبعاثم فثبطهم}، وفي النهاية: يقال قذرت الشيء أقْذَرُه، إذا كرهته واجتنبته.

قوله: نَفْسُ اللَّهِ :بِسُكُون الفاء أي ذاته -تعالى- تكرههم، وقال عنها الإمام أحمد بن حنبل: إنها «من الصفات التي يجب الإيمان بها دون تأول أو إنكار من غير تشبيه ولا تمثيل».

 قال الخطابي: تأويله أن الله يكره خروجهم إليها ومقامهم بها؛ فلا يوفقهم لذلك فصاروا بالرد وعدم القبول في معنى الشيء الذي تقذره نفس الإنسان.

غير أن البيضاوي يرى أنها من التمثيلات المركَّبة التي لا يطلب لمفرداته ممثَّلًا وممثَّلًا به، مثل: قامت الحرب على ساق.

     قوله: وَتَحْشُرُهُمْ النَّارُ،مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ: تحشرهم: حشر الناس جمعهم، ومنه (يوم الحشر) وقال عكرمة في قوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت}، وحشرها موتها و(المحشر) بكسر الشين موضع الحشر، تحشرهم النار: قيل: إنها نار الفتنة أي ليست نارًا حقيقية التي هي نتيجة أفعالهم  القبيحة .

      أي تجمعهم وتسوقهم النار فيفرون هؤلاء والشرار مخافة النار مع البهائم من القردة والخنازير والنار لا تفارقهم بحال، وليس هذا حشر يوم القيامة وإلا قيل تحشر شرار أهلها إلى النار ولا يقال تحشرهم النار، ولقوله في بعض الروايات تقيل معهم، فإنه يدل على أن النار ليست حقيقة بل نار الفتنة، وهذه القيلولة والبيتوتة هي المرادة في قوله ستكون هجرة بعد هجرة إلى قوله تحشرهم النار مع القردة تبيت معهم إذا باتوا. والله أعلم. قلت: إن الأصل في الكلام الحقيقة ولا داعي لصرف الكلام عن ظاهره, وما المانع أن تكون نار حقيقية  تبيت معهم؛ حيث باتوا وكل ذلك بأمر الله وقدرته. قوله: مع القردة والخنازير: لتخلقهم بأخلاقها في استيلاء المكر عليهم  والشهوات الحيوانية على نفوسهم. وخلاصة ما جاء به هذا الحديث تحذيرًا وترغيبًا وتبشيرًا.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك


X