ما الذي نَرجُوه مِنْ قِيامنا؟ (2-2)
قيل للحسن البصري -رحمه الله-: ما بالُ المتهجدين بالليل، من أحسنِ الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خَلوا بالرحمن فألبسهم من نوره
وإذا كان قيامه في الثلث الأخير من الليل، كان ذلك أيضا في وقت استجابة الدعاء، والتعرض للنفحات الإلهية، ويكون سببا لإجابة دعائه، وإعطائه سؤله، وقت نزول الرب عز وجل إلى سماء الدنيا، كما في الحديث الصحيح، الذي رواه الشيخان وغيرهما: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينزلُ ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقولُ: مَنْ يدعُوني فأستجيب له، مَنْ يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له». هذا لفظ البخاري في باب الدعاء والصلاة من آخر الليل.
وفيه: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، وحصول الإجابة فيه.
فأصحابُ القيام مجابو الدعوة؛ إذا استنصروا الله نصرهم، وإذا استعاذوه أعاذهم؛ وإذا سألوه أعطاهم، وإذا استغفروه غفر لهم.
فلو سألتَ الله -تعالى- في ساعة الاستجابة، التوفيقَ في أمورك كلِّها، وقمتَ بين يدي ربِّك مستغفراً تائبا، سائلا إياه أن يوفِّقَك لما يحبه ويرضاه، لما ندمتَ أبدًا؛ فإنَّ الله -تعالى- مالكَ الدُّنيا والآخرة، المُعطي الباسط، وهو وليُّك وكافيك وحسبُك؛ فكيف تحزنُ أو كيف تقلق وإيَّاه قد دعوتَ؟ وعليه توكلتَ وأنبت؟! فهو مُجري السَّحاب، وهازم الأحزاب، ومذلِّل الصِّعاب، ومدبِّر الكون، ومقسِّم الأرزاق، سبحانه من إلهٍ عظيم قادر قوي كريم وهاب.
جوف الليل
وأيضا: قال صلى الله عليه وسلم : «أقربُ ما يكون الربُ من العبد، في جَوف الليل الآخر، فإنْ استطعت أنْ تكون ممن يذكر اللهَ في تلك الساعة، فكن» رواه الترمذي وابن خزيمة وصححه، من حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه .
طيب النفس
صاحب قيام الليل يصبح طيبَ النفس نشيطًا، يُعان على عمله سائر يومه؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «يَعقدُ الشيطانُ على قَافية رأسِ أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضربُ مكان كل عُقدةٍ: عليك ليلٌ طويل فارقد، فإنْ استيقظ فذكر الله انحلتْ عُقدة، فإن توضأ انحلتْ عقدة، فإن صلَّى انحلت عقدة، فأصبحَ نشيطًا طيبَ النَّفْس، وإلَّا أصبح خبيثَ النفس كسلان» متفق عليه.
النشاط والهمة
وصدق الصادقُ المصدوقُ، فترى أصحابَ القيام لا يبدو عليهم الكسلُ ولا الخمول؛ بل هم ذوو نشاطٍ وهمةٍ وعمل؛ بينما ترى أصحابَ النوم إلى الصباح، لا يكادون يمدُّون أيديهم أو يثنون أرجلهم أو يقومون من مكانهم، لفتورهم وكسلهم، وما ذاك النشاط لصاحب قيام الليل والصلاة، إلا عونٌ من الله -تعالى- للعبد؛ لصلاته ومناجاته وتقرُّبه إليه، حتى أصبح بصره وسمعه ويده ورجله.
إجابة الدعاء
تاسعا - ومن فضل القيام في الليل للصلاة والذِّكر، ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيء قدير، الحمدُ لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبرُ، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله , ثم قال: اللهم اغفر لي, أو دعا، اسْتجيبَ له، فإنّ توضَّأ وصلى، قُبلت صلاته» رواه البخاريُّ.
الثواب المضاعف
فأصحابُ القيام؛ فازوا بهذا الفضل الوارد بهذا الحديث، إذا قالوا هذا الذكر الوارد.
أنه يُحصّل لصاحبه الثواب المضاعف من الحسنات؛ فقليل القيام من الليل يُزيلُ عنه اسم الغفلة، ووسطه يكسوه اسمَ القنوت والطاعة، وكثيره يجلبُ له قناطير الأجر، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قامَ بعشرِ آياتٍ لم يُكتب من الغافلين، ومنْ قام بمائة آيةٍ كُتب من القانتين، ومنْ قام بألف آية كتب من المُقَنْطرين». رواه أبو داود (1398).
تثبيت القرآن
القيامُ بالليل بالقرآن، معينٌ على تثبيت القرآن في الصّدر؛ وعدم نسيانه، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ اللهصلى الله عليه وسلم : «وإذا قام صاحبُ القرآن، فقرأه باللَّيل والنهار ذكَره، وإذا لم يَقُم به نَسيه» رواه مسلم. ويقول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} (المزمل: 5-6). عن مجاهد: (أشد وطئًا) قال: مواطأة للقول، وأفرغ للقلب.
قال الحسنُ: أثبتُ في القراءة، وأقوى على القراءة. مختصر قيام الليل للمروزي.
زيادة الرزق
أنه سبب في زيادة الرزق للعبد ودوامه بأنواعه، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ} (طه: 132).
قال الإمام الطبري: (وأمُرْ) يا محمد (أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) يقول: واصطبر على القيام بها، وأدائها بحدودها أنت (لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا) يقول: لا نسألك مالاً، بل نكلفك عملاً ببدنك، نؤتيك عليه أجراً عظيما وثوابا جزيلا، يقول (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) نحن نُعطيك المال ونُكسبكه، ولا نَسألكه. انتهى وهذا الخطاب وإنْ كان للنبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه يدخل في عمومه جميع أمته.
وقال ابن كثير: {نحن نرزقُك} يعني إذا أقمت الصلاة، أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2-3).
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴿٥٦﴾مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴿٥٧﴾إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } الذاريات: 56- 58. ولهذا قال: {لا نسألك رزقاً نحنُ نرزقك} انتهى.
التفرغ للعبادة
وقد روى الترمذي وابن ماجة: من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى: يا ابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ صَدرك غِنى، وأسدّ فقرك، وإنْ لم تفعل ملأتُ صدرك شُغلاً، ولم أسدّ فقرك».
وروى ابن ماجة: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ جَعلَ الهمومَ همّاً واحداً همّ المَعاد، كفاه اللهُ همّ دنياه، ومنْ تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يُبال الله في أي أوديته هلك».
وروى أيضا: عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ كانت الدنيا همّه، فرّق اللهُ عليه أمره، وجعلَ فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومَن كانت الآخرةُ نيته، جمعَ له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدُّنيا وهي رَاغمة».
يكسوه نوراً
الثالث عشر - أنه يَكسو وجه صاحبه نُوراً، فإنّ الجزاءَ من جنس العمل، فإنهم لما قاموا في ظُلمة الليل يصلون ويتعبدون، جازاهم الله بأنْ نوّر وجوههم، قد قال سعيد بن المسيب رحمه الله: إنّ الرجل ليُصلي بالليل، فيجعل الله في وجهه نوراً يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يره قط فيقول: إني لأحبُ هذا الرجل.
وقيل للحسن البصري -رحمه الله-: ما بالُ المتهجدين بالليل، من أحسنِ الناس وجوهاً؟ فقال: لأنهم خَلوا بالرحمن فألبسهم من نوره. فالفوائد والثمرات المترتبة على قيام الليل كثيرة، مباركة عظيمة، قد ذكرنا منها ما تيسر، نسأل الله -تعالى- أنْ يجعلنا من الصائمين القائمين، القانتين الصالحين، إنه سميع قريبٌ مجيب الدعاء.
لاتوجد تعليقات