رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: صلاح فتحي هلل 16 فبراير، 2015 0 تعليق

أدلة خبر الآحاد بين المحدثين وغيرهم

الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صل اللهم وسلم وبارك عليه[، وارض اللهم عن آله وصحبه الغر الميامين، رضوان الله عليهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.

     فقد سبق الناس إلى تقسيم مرويات السنة إلى متواتر وآحاد، ثم قيل لهم: الآحاد يفيد الظن لا العلم أو التحقيق، وأنه بحاجة إلى الاستقواء بغيره، وأنه مردود غير مقبول في رواية الاعتقاد، واستمر مسلسل الزوابع المثارة في وجه خبر الآحداد وكأنه اليوم نشأ، أو اليوم فقط سمع به الناس، واستطال عليه من استطال، وتنكرت له أقلام، وولغت فيه ألسنة، تجرأت على رد أصول شرعية، وحقائق إسلامية، بحجج واهية لا تمت للبحث والحقيقة بصلة.

     وقد سودت في رد خبر الواحد أوراق، وأثيرت في طريقه شبهات عديدة، يأتي في صدارتها: رده لخلوه من القرائن المؤيدة لقبوله، المؤذنة بتصحيحه، وفرح بعضهم بهذه الحجة، وصارت تكأة له، يموت بها إذا لم تعجبه بعض الأحاديث، فيردها زاعما خلوها عن القرينة المؤذنة بقبولها وهي آحاد تعجز عن إثبات شيء بنفسها في نظره.

   ويموه هؤلاء المبتدعة المشككين ببعض أقوال أهل العلم من أئمة الدين والسنة، ظنا منهم أنها تؤيد مآربهم، وليس الأمر كذلك؛ مثل قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وأما المتواتر: فالصواب الذي عليه الجمهور أن المتواتر ليس له عدد محصور؛ بل إذا حصل العلم عن إخبار المخبرين كان الخبر متواترا، وكذلك الذي عليه الجمهور أن العلم يختلف باختلاف حال المخبرين به، فرب عدد قليل أفاد خبرهم العلم بما يوجب صدقهم، وأضعافهم لا يفيد خبرهم العلم؛ ولهذا كان الصحيح أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تفيد العلم، وعلى هذا فكثير من متون الصحيحين متواتر اللفظ عند أهل العلم بالحديث، وإن لم يعرف غيرهم أنه متواتر؛ وهذا كان أكثر متون (الصحيحين) مما يعلم علماء الحديث علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، تارة لتواتره عندهم، وتارة لتلقي الأمة له بالقبول.

     وخبر الواحد المتلقى بالقبول يوجب العلم عند جمهود العلماء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري؛ كالإسفرائيني، وابن فور؛، فإنه وإن كان في نفسه لا يفيد إلا الظن، لكن لما اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق، كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكم مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد، فإن ذلك الحكم يصير قطعيا عند الجمهور، وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي؛ لأن الإجماع معصوم، فأهل العلم بالأحكام الشرعية لا يجمعون على تحليل حرام ولا تحريم حلال، كذلك أهل العلم بالحديث لا يجمعون على التصديق بكذب ولا التكذيب بصدق، وتارة يكون علم أحدهم لقرائن تحتف بالأخبار توجب لهم العلم، ومن علم ما علموه حصل له من العلم ما حصل لهم»ا. هـ(1).

     وهذا تمويه من الشاكين المشككين، وذهول كبير عن منهج المحدثين أهل الحل والعقد في ميدان أسانيد السنة ورواياتها، ولا حجة لهم في مثل قول ابن تيمية لاختلاف المقاصد كما بينته في مكان آخر، وأغلب الأصوليين وبعض المنتسبين لأهل الحديث من المتأخرين يحاربون لإثبات أن الخبر المفيد للعلم هو الخبر الذي احتفت به القرينة المؤذنة بقبوله وتثبيته، ومايريدون إثباته في الحقيقة هو عين سلوك أئمة المحدثين وأساس منهجهم عند التحقيق، غير أن كثيرا من الأصوليين غربوا ثم نسبوا تغريبهم للمحدثين، ثم عادوا بعد رحلة طويلة من التيه في صحراء الاحتمالات والتأويلات؛ ففتحوا حربا أخرى لإثبات القول الذي يقول به المحدثون! وتبعهم في هذا عدد من متأخري العلماء المنتسبين للحديث.

     وبعبارة أخرى فقد ذهل هؤلاء الأصوليون ومن تبعهم عن منهج المحدثين الأصيل، فكان من عاقبة أمرهم أن خاضوا حربا وهمية بنيت على جهل بمنهج المحدثين، فأقاموا خلافا اجتهدوا فيه لإثبات قصر (العلم) على خبر الواحد المحتف بالقرينة دونما سواه؛ وهذا كما أسلفت غفلة عن منهج المحدثين القائم على استثمار القرائن المحيطة بالروايات للوصول إلى حقيقة الخبر، والوقوف على ماهيته وكنهه من حيث الثبوت وعدمه.

     وهو من جهة أخرى غفلة كبيرة عن شمولية الإسلام، وتركيبته التي ترفض النظر إليه بشكل جزئيا؛ ولهذا كان الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه من أسباب الخزي في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه وتعالى{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(البقرة: 85)، وقد قال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}(البقرة: 208)، ففي بعض وجوه تفسير هذه الآية الكريمة: أن المراد منها: ادخلوا في الإسلام كافة؛ وبهذا قال طائفة كبيرة من أهل التفسير، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - وغيره من أئمة التفسير، والمعنى: ادخلوا في شرائع الإسلام جميعا ولا تدعوا منها شيئاً، ولا تأخذوا ببعضها وتتركوا بعضها، فإن من دخل في بعض الشرائع وترك بعضا، فقد آمن ببعض الكتاب وترك بعضا.

     وهذا المعنى وإن كان ظاهرا في شرائع الدين، إلا أنه يشمل أيضا منهج الفهم والتلقي لأصول الإسلام وعلومه، واستنباط الأحكام من نصوصه؛ فيستلزم ذلك أيضا الدخول في الدين كافة، أي: النظر إليه كله بصورته الشمولية العامة، فإن من نظر إليه كله فهمه كله، ومن نظر إلى بعضه دون بعض وصل إليه من مراد الإسلام على قدر ما وصل إليه نظر الناظر؛ فمقل ومستكثر، وهذا أصل مفيد في طريقة النظر واستنباط الأحكام من نصوص الإسلام، وصرورة الجمع والإحاطة بنصوص الأبواب للوصول إلى الحكم الصحيح من وراء ذلك كله.

     وإذا طبقنا هذه النظرية الشمولية على ما نحن فيه؛ فسنرى مجرد الإسلام قرينة قوية على قبول خبر الواحد المسلم؛ لما تحتوي عليه عقيدة المسلم من تحريم الكذب، وتحري الصدق عامة، وفي نصوص الشريعة والتحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فأمن في المسلم هذا الجانب.

     ولهذا كان الأصل في المسلمين العدالة؛ لما شرعه لهم الإسلام من ضوابط وتشريعات تسمو بنفوسهم وأخلاقهم، وتكره لهم التورط في الموبقات، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ }(الحجرات: 7)، وقال تبارك وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل: 90).

     فالأصل في المسلم الإذعان والاستسلام للتشريعات الإسلامية، التي تأمر بكل خير، وتنهى عن كل شر؛ فالظن بهذا المسلم أن ينأى بنفسه عن التورط في النقائص، فضلا عن الكذب على الشريعة، وهذا معنى أن الأصل في المسلمين العدالة والصلاح.

     يقول العلامة المعلمي اليماني -رحمه الله-: «وقد صرح ابن حبان بأن المسلمين على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، نص على ذلك في (الثقات) وذكره ابن حجر في (لسان الميزان) جـ1، ص14 واستغربه، ولو تدبر لوجد كثيرا من الأئمة يبنون عليه، فإذا تتبع أحدهم أحاديث الراوي فوجدها مستقيمة تدل على صدق وضبط ولم يبلغه ما يوجب طعنا في دينه وثقه، وربما تجاوز بعضهم هذا كما سلف، وربما يبني بعضهم على هذا حتى في أهل عصره» ا.هـ(2).

     وقال القاضي أبو اليسر البزدوي (الحنفي): وأما الأخبار الأخر سوى المتواتر والمشهور: يجب قبولها والعمل بها إذا ترجح صدق المخبر على كذبه بدليل يدل عليه، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وبنوا عليه أحكاما كثيرة، وهي الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا سائر الأخبار على هذا، وهي الأخبار في المعاملات وبه قال بعض المعتزلة فيهم: هشام بن الحكم، وأبو علي الجبائي، وقال عامة المعتزلة: إن أخبار الآحاد لا تقبل عن النبي  صلى الله عليه وسلم ، ولا يجب العمل بها، مع إجماعهم أن أخبار الآحاد في الجملة مقبولة، فإن الشهادات مقبولة، وهي من جملة أخبار الآحاد، وكذا الأخبار من الآحاد في المعاملات مقبولة بالإجماع، مثل قول المرأة: حضت، وطهُرت، وانقضت عدتي برؤية ثلاث حيض، وبوضع السقط، وقول الرجل: إني طاهر، وإني جنب، وإني محدث، وإن هذا الشيء لي، وأنا وكيل فلان ببيع هذا المعين أو مضاربه(3) أو مثل هذا.

     والصحيح: ما ذهب إليه عامة العلماء؛ لأن الرسول  صلى الله عليه وسلم  مأمور بتبليغ ما أنزل إليه، ولا يقدر على التبليغ إلا بالآحاد، فيجب القبول والعمل بها كما في المعاملات؛ ولأن خبر الواحد يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، والصدق يجب قبوله، والكذب يجب رده، فلا يجوز الرد مطلقا لاحتمال الصدق، فإنه لا يجور رد الصدق، ولا يجوز قبوله مطلقا؛ لأنه رد، فوقعت الضرورة إلى العمل بالراجح منهما، فإن كان الصدق راجحا يجب قبوله، وإن كان الكذب راجحا يجب رده، ويقام الراجح مقام الحقيقة بطريق الضرورة، ولهذا قبلت في المعاملات وهي الشهادات وغيرها.

     وكذا الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا يقبلون أخبار الآحاد بأجمعهم؛ فإنه روي أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس فأتاهم آت فقال: إن القبلة حولت إلى الكعبة، فاستداروا كهيئتهم، فهذا دليل على أنهم قبلوا؛ حيث استداروا كهيئتهم. إلا أن بعضهم كان يشترط العدول، كما في الشهادات، وبعضهم لا يشترطون.

     ثم المرجح للصدق على الكذب: العقل والدين، وإن الدين يزجره عن الكذب شرعا، فإن الكذب حرام في جميع الأديان، وكذا العقل يمنعه عن الكذب حقيقة؛ لأنه يمنعه عما يشينه ويحقره؛ فإن الإنسان بعقله يروم تعظيم نفسه، فليس هذا منا قول بتحريم العقل شيئا، فالدين والعقل يرجح كل واحد منهما الصدق على الكذب؛ ولهذا كان أبوحنيفة يقول: «إنه يجب قبول قول من لم يظهر منه ما يرجح كذبه على صدقه؛ لأن العقل والدين يرجح كذبه على صدقه.

     إلى أن قال القاضي البزودي: «وأما من كان عادته الكذب كالنخاس والجابي: لا يقبل خبره، وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله؛ أنه قال: لا يقبل خبر العالم الذي يتصل بالسلطان؛ لأن من عادته الكذب. وهو صحيح. وخبر من يحتمل خبره الكذب وقد ترجح صدقه على كذبه حتى وجب قبوله ويكون هو والخبر الصدق في حق العمل سواء إلا أنه يوجب علم غالب الرأي والظن لا علم إحاطة ويقين، وهو نوع علم، على ما بينا(4). والذي يقرر ما بينا: قوله تعالى في حق المهاجرات من دار الحرب إلى دار السلام: {ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ} (الممتحنة:10)، فهذا الآية من أدل الدلائل أن قول الواحد إذا ترجح صدقه على كذبه يوقع العلم من وجه، ويجب قبوله والعمل به، كما يجب بالخبر المتواتر  الذي هو صدق محض، والله أعلم» أ هـ.

     ثم قال القاضي البزدوي في كلام له بعد ذلك بقليل: «حديث الواحد يجب قبوله والعمل به ما أمكن لأنه يحتمل أنه ثابت عن النبي  صلى الله عليه وسلم ، وقبول قوله والعمل به فرض، ورد قوله حرام، والله أعلم» أهـ (6). وعقد البزدوي فصلا في شرائط خبر الواحد، وقال في مطلعه: «وبعض أصحابنا قالوا: من شرط قبول خبر الواحد ألا يكون مخالفا لكتاب الله تعالى، ولا مخالفا للخبر المتواتر ولا المشهور، ولا للأصول الممهدة، فإنه إذا كان هكذا فالظاهر أنه كذب، ولما روينا عن النبي  صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة، في الحديث الذي يخالف كتاب الله تعالى. والصحيح: أن الخبر لا يجوز رده، ويجب العمل به ما أمكن، ومتى خالف كتاب الله -تعالى- أو الخبر المتواصل عمل(7) على وجه لا يخالف كتاب الله وعلى الخبر المتواتر» أهـ(8).

الهوامش:

1 - مجموع الفتاوى (18/40)، وطيب الذكر شيخ الإسلام في واد ومآرب المشككين في آخر، وإن تشابهت العبارات.

2 - التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، للعلامة المعلمي -رحمه الله- (1/256).

3- كذا هي في مطبوع «معرفة الحجج الشرعية» رسما وضبطا، وأحسب الصواب فيها: «أو مضاربته» يعني المضاربة بهذا المعين المذكور قبله، والله أعلم.

4- أي في كتابه (ص/30) كما أفاد محققه.

5- «معرفة الحج الشرعية» للقاضي الإمام أبي اليسر محمد بن محمد بن الحسين البزودي (توفي 493) (ص/123-130، تحقيق: عبدالقادر بن ياسين بن ناصر الخطيب، تقديم الدكتور: يعقوب بن عبدالوهاب الباحسين، الناشر: مؤسسة الرسالة ناشرون، الطبعة الأولى 1420، الموافق 2000م).

6- المصدر السابق (ص:134).

7- هكذا في مطبوع المصدر السابق، ولعل صوابه: «عمل به» والله أعلم.

8- المصدر السابق (ص:135).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك


X