
أهم تيارات التكفير والعنف ودور الدعوة السلفية في مواجهتها (6) التوقف والتبين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:-
1) دلالة المصطلح:- هي مدرسة فكرية تنتسب للأستاذ عبد المجيد الشاذلي رحمه الله، وهو كما أسلفنا أحد خواص تلامذة سيد قطب رحمه الله، ويمكن عَدُّ كلٍّ من الشاذلي ومحمد قطب منظرين أساسيين لهذا الفكر، إلا أن عبد المجيد الشاذلي كان مقلاً في كتاباته، ولم يُنسب له سوى كتب عدة أبرزها: كتاب (حد الإسلام وحقيقة الإيمان)، أما محمد قطب فصاحب قلم سيال وفكر عميق، وله مؤلفات عديدة وضع فيها خلاصة أفكاره، كما ضمن فيها أفكار عبد المجيد الشاذلي ولكن بعبارات أدبية أقل عمقاً وأسهل تناولاً من الطرح الأصولي الذي قدمه عبد المجيد الشاذلي.
2) لمحة تعريفية عن الأستاذ عبد المجيد الشاذلي:-
ولد الأستاذ عبد المجيد بمحافظة الغربية عام 1938، وحصل على بكالوريوس العلوم قسم الكيمياء من جامعة الإسكندرية، انضم لجماعة الإخوان المسلمين في بداية الخمسينات، وتم اعتقاله على خلفية قضية تنظيم65 بما أنه كان أحد قادة الصف الثاني للتنظيم عن محافظة الإسكندرية وقضي في السجن عشر سنوات، وتم الإفراج عنه في عام 1975.
بعد خروجه من السجن أنشأ مع بعض إخوانه جماعة التوقف والتبين التي سماها (دعوة أهل السنة والجماعة على طريق إحياء الأمة) لتكون امتداداً للمدرسة القطبية وراعية لها، وقد اتخذت دعوته مساراً سرياً بعد اعتقاله عام 1981 مع عدد كبير من الإسلاميين على خلفية اغتيال السادات.
وقد لازم عبد المجيد سيد قطب وتتلمذ على كتبه، وكان يعد من أخص تلامذته بل يعده القطبيون هو المنظر الشرعي لفكر سيد قطب؛ ومما يدل على ذلك ما شهد به أحد رموز هذا الفكر في مصر وهو الشيخ رفاعي سرور؛ حيث يقول في ترجمته للشاذلي بعنوان (عبد المجيد الشاذلي.. تعريف منهجي في مواجهة المحاولة الجاهلية لإهدار الرموز الإسلامية المؤثرة بأعمالها والملهمة بسيرتها في الواقع والناس) – وهي منشورة على موقع (أهل السنة والجماعة على طريق إحياء الأمة)– على شبكة الإنترنت:-
«يمثل الشيخ عبد المجيد اتجاها منهجياً أساسياً في واقع الفكر الإسلامي المعاصر باعتباره المؤصل الفقهي والشرعي لفكر سيد قطب، حتى تكونت بجميع كتابات هذا الاتجاه وحدة موضوعية واحدة توزعت على كل العقول التي تحاول الوصول للحق كل بما يناسبه، ليكون هذا التأصيل هو المواجهة الفكرية الواقعية على الزعم القائل بأن كتابات سيد قطب مجرد كتابات أدبية؛ حيث لم يفهم القائلون بذلك أن سيد قطب كان يخاطب الناس بما يناسبهم ويؤثر فيهم، لتكون مهمة التأصيل الضرورية موكولة لكتابات التأصيل التي تعد كتابات الشيخ عبد المجيد نموذجا كاملا لها، فتكتمل كل الشروط الشرعية للاتجاه الفكري الصحيح للدعوة».
لاحظ هنا أن الشيخ سرور يتحدث عن اتجاه منهجي واحد له رابطة موضوعية واحدة وذات مصدر محدد حتى وإن اختلفت طرائق وأساليب الكتابة، وهو بذلك يؤكد على الوحدة المنهجية للتيار القطبي الذي ينتسب هو إليه والذي يعد الشاذلي أحد أهم منظريه، ثم يقول في نفس الترجمة:-
«والبعد الأساسي للتعريف المنهجي بالشيخ عبد المجيد الشاذلي هو تجربة 65؛ حيث كانت تلك التجربة هي البداية التاريخية للتصحيح الفكري والمنهجي للدعوة، كما كانت سنداً نفسياً لمن أتي بعدها؛ حيث علم شباب الدعوة الجدد بعد اكتشاف تنظيم 65أن هناك من استطاع الوقوف أمام عبد الناصر».
هذا الكلام من الشيخ رفاعي سرور يورط سيد قطب مباشرة، ويصعب المهمة على من يحاول تبرئة سيد قطب مما نُسب إليه، ومما فُهم من كلامه؛ لأننا هنا أمام مدرسة فكرية متكاملة يعضد بعضها بعضاً، وتتوزع فيها الأدوار حسب الإمكانيات والطاقات والظروف المحيطة.
ومما كان يميز شخصية الأستاذ عبد المجيد أنه كان شغوفاً بالقراءة، محباً لطلب العلم، وتحديداً علم الأصول الذي انكب على الكتب المتخصصة فيه ليقرأها بتركيز شديد، وقد كانت لهذه القراءات – فضلا عن كتابات سيد - أثر في تأصيله لبدعته التي أقام عليها الجماعة كما سيأتي بيان ذلك، ومؤلفات الشاذلي تكاد تنحصر في أربع كتب تقريباً؛ أولها وأشهرها كتاب (حد الإسلام وحقيقة الإيمان) وقد استغرق في كتابته سبع سنوات كاملة؛ حيث وضع فيه خلاصة فكره وحقيقة منهجه.
يوضح رفاعي سرور الأهمية الفكرية لهذا الكتاب عندهم حتى إنه قرنه بالمعالم فقال في الترجمة نفسها المذكورة:-
«وكان قد سبقها إلى الخر وج ـ أي رسالة حد الإسلام - كتاب (معالم في الطريق) للأستاذ سيد قطب فكانت أوراق (المعالم) و(الحد) كقطرات اللبن للرضيع، حتى أصبح شباب الدعوة الجدد يرددون عبارات هذه الكتابات بثقة ويقين، يتعجب لها كل من يسمعهم وهم يرددونها، ويهمسون من أين لهم هذا الكلام وهذا الفكر؟! ما هذا الاتجاه الذي يسعي بكل قوة للصدام مع كل النظم والسلطات الحاكمة ؟! من هؤلاء الشباب ؟! ما لهم لا يخافون ؟! ولم يكن الناس يعلمون أنهم يقرؤون (معالم في الطريق) و(حد الإسلام) ولذلك فهم لا يخافون».
ونحن بدورنا نتعجب كما تعجب الناس!!، نتعجب من هذه العقلية التي تفتخر بالصدام «مع كل النظم والسلطات الحاكمة» وتقدم شباب التيار الإسلامي وقوداً لهذا الصراع الدموي مستغلين حماستهم وعواطفهم الجياشة بدون حدود أو ضوابط، من يقرأ هذا الكلام يعرف الطرائق التي يستخدمها أصحاب هذا الفكر في التهييج والإثارة تحت مسمى الشجاعة والعزة وعدم الخوف، والوسائل قد تتغير ولكن يبقى المضمون ثابتاً؛ فالكتابات الحماسية التي كانت تثير الشباب قديماً هي هي الخطب الرنانة نفسها والشعارات الساخنة التي تم استخدامها من على المنصات وفي الميادين لتحميس الشباب ودفعهم لمواجهة الدبابات بصدورهم العارية زعماً منهم أن هذا من الجهاد ولأجل نيل الشهادة.
ثم ألف كتاب (البلاغ المبين) لمناقشة بعض المسائل المتعلقة بالكتاب الأول فضلا عن مسألة الولاء والبراء وعوارض الأهلية، ثم كتاب (وصية لقمان) وكتاب (الطريق إلى الجنة).
التوقف والتبين بعد الثورة:-
نشطت دعوة التوقف والتبين بعد الثورة كما هو الحال مع غالب التيارات التي استثمرت فترة الانفتاح العامة، وقد زادت من نشاطها إثر ترشح أحد رموز التيار القطبي للرئاسة وهو الأستاذ حازم أبو إسماعيل، وقد ظهر الشيخ عبد المجيد الشاذلي في المؤتمر الانتخابي الذي عقده أبو إسماعيل في مدينة الإسكندرية، والجدير بالذكر أن الأستاذ حازم لم يكن - في البداية - يُظهر منهجه أو انتماءه الفكري، بل كان حريصاً على الظهور بمظهر الداعية السلفي غير المنتمي تنظيمياً لكيان محدد بما يؤهله ليكون حاضناً للشباب الملتزم عموماً، إلا أنه بعد تبين عدم صلاحيته القانونية للدخول في سباق الرئاسة أظهر بعضاً مما يعتقده في مسألة «لزوم استخدام القوة لإسقاط الأنظمة التي لا تحكم بالشريعة» – وهي بالمناسبة أحد أهم سمات التيار القطبي - بدلاً من محاولة تقويمها وإصلاحها، ثم تكلم عن براءته من منهج الدعوة السلفية ممثلة في (حزب النور)، وقال: «أسأل الله أن ينجيني من منهج حزب النور في الدنيا والآخرة»، واشتد ظهور القيادات القطبية عموماً في عهد الدكتور محمد مرسي، وكان أفراد هذا الاتجاه أداة رئيسية في تصعيد الأوضاع على الأرض بعدما دخل الإخوان في صراع مع السلطة ومع المعارضة، وكان من ذلك أحداث العباسية التي دعا إليها «أبو إسماعيل» وتواجد فيها عبد المجيد الشاذلي وحسن أبو الأشبال ومحمد الظواهري، ثم كان التصعيد الأخطر من على (منصة رابعة) التي ظهر فيها عدد من هذه الرموز وكان منهم عبد المجيد الشاذلي أيضاً، هذه المواقف تبين لنا مدى التحالف القوي بين جماعة الإخوان تحت قيادتها القطبية وبين التيارات القطبية المستقلة تنظيمياً عن جماعة الإخوان.
3) المنطلقات والأصول الفكرية للجماعة:-
قدمنا في كلامنا السابق أن عبد المجيد الشاذلي كان زميلاً لشكري مصطفى في الأسرة الإخوانية الخاصة وقت أن كان كل منهما عضواً في جماعة الإخوان، وقد تأثر كل منهما بسيد قطب باعتباره أستاذهما الأول، وسيد كانت لديه فكرتان أساسيتان؛ الأولى: تخص الحكام، وهي ما عبر عنها باسم (الحاكمية)، والثانية تخص المجتمع، وهي ما عبر عنها باسم (جاهلية المجتمع)، وقد ظل المسار الفكري لهاتين القضيتين واضحاً في أذهان تلامذة سيد قطب إلا أن الأفهام قد تنوعت في عمق المضمون لكل قضية من هذه القضايا؛ ولأن كلام سيد كان كلاماً أدبياً مرسلاً وكانت تعوزه الأدلة الشرعية – كما أقر بذلك رفاعي سرور في معرض مدحه لكتابات الشاذلي – فانطلق كل واحد من هؤلاء باحثاً عن أدلة شرعية يستشهد بها للقضايا التي تشربها واعتنقها لكي يدعم بها كلامه، لا أن يختبر بها فهمه هل وافق الشرع أم لا؟
ومن هذا المنطلق قدم عبد المجيد الشاذلي أطروحته الفكرية في قالب أصولي عبر كتابه الذي سماه (حد الإسلام) الذي قسم فيه المجتمع إلى ثلاثة أقسام، ووضع حداً أدنى للإسلام لا يعذر صاحبه فيه بالجهل ولا تقبل فيه دعوى الجهل، وهذا الحد هو (الحكم، الولاية، النسك)، ومن مجرد العنوان تستطيع أن تلمح مدى تأثير علم الكلام والمنطق على تفكير الرجل للدرجة التي جعلته يختار هذا اللفظ المشكل من الناحية الأصولية المنطقية ليعبر به عن قضية عقدية مهمة وفي الوقت نفسه هي محسومة وواضحة في الشرع تمام الوضوح، فحد الإسلام – لو جاز لنا استعمال لفظ المؤلف نفسه – في الشرع ووفق منهج أهل السنة والجماعة هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، هذا هو الشرط الذي يدخل به العبد في الإسلام، ويظل كذلك ما دام لم يأت بناقض ينقض هذه الشهادة، فإذا أتى بناقض فإن كان هذا الناقض معلوماً من الدين بالضرورة كفر من ساعته وأصبح مرتداً مثل من يسب الله، أو يلقي المصحف في القاذورات وغيرها، أما إذا كان هذا الناقض غير معلوم من الدين بالضرورة عذر بجهله ولا يكفر حتى تقام عليه الحجة.
وكذلك قام محمد قطب بتفصيل قضية المجتمع الجاهلي وتقسيمه إلى ثلاثة أقسام (مسلمون بلا شبهة - كفار بلا شبهة - طبقة متميعة) وذكرها في عدد من كتبه، ولاسيما كتابيه (واقعنا المعاصر)، (مفاهيم ينبغي أن تصحح)، وصار التقسيم الثلاثي للمجتمع هو الفكر المعتمد لدى التيار القطبي عموما، اعتماداً على تنظير كل منهما كما يلي:-
القسم الأول: مسلمون بلا شبهة:-
هو الشخص الذي ينطق بالشهادتين وهو فاهم لمعناها عامل بمقتضاها، وقد حصر هذا الفهم في ثلاث قضايا رئيسية هي (الحكم – الولاية - النسك)، وفي الواقع فإن فهم تفاصيل هذه القضايا لا ينطبق على كثير من أفراد الجماعات الإسلامية فضلاً عن عموم الناس، بل أقول: إن تفاصيل هذه القضايا لا يحسنها كثير من المنتمين لهذه التيارات نفسها، ولو أعملنا عليهم هذه القاعدة لكفرنا معظمهم !!، فضلاً عن أن دراسة مثل هذه القضايا بتفاصيلها يستلزم شيئاً من الوقت ربما يستغرق سنوات، فهل الشخص الذي انضم إليهم حديثاً وهو يجهل هذه القضايا يكون في حكم الكافر حتى يتقنها أم أنهم سيتعاملون معه باعتبار ما سيكون ؟!
القسم الثاني: كفار بلا شبهة:-
الكافر بلا شبهة عندهم هو الكافر الأصلي الذي لم ينطق الشهادتين فضلا عن نطقها ولكن عنده خلل في قضية من القضايا الثلاث المشهورة (الحكم – الولاية - النسك)، فهذه القضايا الثلاث عندهم بمنزلة المعلوم من الدين بالضرورة، وهم لا يعذرون فيها بالجهل، وهذا مؤداه كما ذكرنا تكفير معظم المجتمع فعلاً، وهو قريب في النتيجة من جماعة شكري مصطفى إلا أن شكري لم يتعب نفسه كثيراً في تعقيدات أصولية وحكم على المجتمع كله بالردة، أما عبد المجيد الشاذلي فكما نرى ضيق دائرة التكفير شيئاً قليلاً عن طريق (فلتر) يظنه علمياً أو هكذا يبدو، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك.
القسم الثالث: طبقة متميعة لا يحكم لها بإسلام ولا بكفر بل يتوقف فيها:-
وهو الشخص الذي لم يُتحقق من كونه مسلماً بلا شبهة، وكذلك لم يتبين أنه كافر بلا شبهه مع أنه قد ينطق بالشهادتين أمامهم، وقد يرونه يصلي أو يصوم أو يحج، فيتوقف هؤلاء في الحكم عليه حتى يظهر لهم أمره، وظهور أمره عن طريق اختبار في المسائل الثلاث (الحكم – الولاية - النسك)، فإن اجتاز الاختبار صار مسلماً بلا شبهة، ويتم التعامل معه بوصفه مسلما، وإن رسب في الاختبار صار بذلك كافراً بلا شبهة وهو المتوقع من أغلب المجتمع، وهذا القسم في الواقع هو التحسين الذي أدخلة عبد المجيد الشاذلي على فكر شكري مصطفى، وهو تحسين صوري وشكلي فقط؛ لأنهم في الواقع يتعاملون مع أفراد القسم الثالث على أنهم كفار حتى يتبين لهم أمرهم ولكنهم لا يُظهرون هذا التكفير.
4) السمات العامة للجماعة:-
رغم أن بدعة جماعة التوقف والتبين أخف حدة من جماعة التكفير، إلا أنها في الحقيقة أشد خطراً؛ ذلك لأن تيارات التكفير الصريح بكل تنوعاتها تفشل غالباً في اجتذاب أنصار جدد، وتجد نفسها محاصرة مجتمعياً في كل النواحي؛ مما يجعلها إما تفر إلى الصحاري والجبال كما كان يطلب شكري من أتباعه أن يفعلوا ذلك، وإما أن يستخدموا التقية وهي عندهم من الكفر، وإما أن يزهدوا في هذا الفكر المنحرف وبعضهم يمن الله عليه بالهداية، وبعضهم الآخر ينشق تنظيمياً عن جماعته الأولى ثم يقوم بإجراء تحسينات فكرية في بعض مناهجها ومعتقداتها ووسائل تحركها، ثم يسمي نفسه باسم جديد، وهكذا في سلسلة من الانشقاقات والانشطارات لا تنتهي، {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور }(النور: 40)، أما جماعة التوقف والتبين فهي أولاً تتخفى تحت اسم شريف وهو (أهل السنة والجماعة)، وتستخدم لغة أهل العلم، بل تزعم أن القضية في أساسها ليست روحا عدائية أو انتقامية من المجتمع ومن أفراده، وإنما هي في إعراض الناس عن تعلم أنواع من العلم الشرعي الذي يرونه «ركناً في الإيمان» فضلا عن أنها لا تفر من المجتمع بل تحاول أن تتواجد فيه من أجل جذب شباب التيار الإسلامي إلى منهجها.
لاتوجد تعليقات