رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: فضيلة الشيخ الدكتور محمد علي فَركُوس 17 سبتمبر، 2012 0 تعليق

توجيهات نبوية (3) طرق انعقاد الإمامة الكبرى


ذكرنا في الحلقة السابقة أن سياسة الناس وفق شرع الله تعالى من أعظم الواجبات، وذكرنا الأدلة الدالة على ذلك، وسنتطرق في هذه الحلقة إلى حكم انعقاد الولاية العظمى بأساليب النظم المستوردة

      أمّا انعقاد الولاية أو الإمامة العظمى بأساليب النُّظُم المستوردة الفاقدة للشّرعيّة الدّينيّة، فبغضّ النّظر عن فساد هذه الأنظمة وحكمِ العمل بها، فإنّ منصب الإمامة أو الولاية يثبت بها ويجري مجرى طريق الغلبة والاستيلاء والقهر، وتنعقد إمامة الحاكم وإن لم يكن مستجمِعًا لشرائط الإمامة، ولو تمكّن لها دون اختيارٍ أو استخلافٍ ولا بيعةٍ، قال النّوويّ -رحمه الله-: «وأمّا الطّريق الثّالث فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام، فتصدّى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلافٍ ولا بيعةٍ، وقهر النّاس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافتُه لينتظم شملُ المسلمين، فإن لم يكن جامعًا للشّرائط بأنْ كان فاسقًا أو جاهلاً فوجهان، أصحُّهما: انعقادها لما ذكرناه، وإن كان عاصيًا بفعله»(21)، وعليه تلزم طاعتُه ولو حصل منه ظلمٌ وجَوْرٌ، ولا يطاع إلاّ في المعروف دون المعصية؛ لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ»(22)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»(23)، قال أبو الحسن الأشعريّ -وهو يعدّد ما أجمع عليه السلف من الأصول: «وأجمعوا على السّمع والطّاعة لأئمّة المسلمين وعلى أنّ كلّ من وَلِيَ شيئًا من أمورهم عن رضًا أو غلبةٍ وامتدّت طاعتُه من بَرٍّ وفاجرٍ لا يلزم الخروج عليهم بالسّيف، جار أو عدل»(24)، وقال الصّابونيّ: «ويرى أصحاب الحديث الجمعةَ والعيدين، وغيرَهما من الصّلوات خلف كلّ إمامٍ مسلمٍا بَرًّا كان أو فاجرًا. ويَرَوْنَ جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جَوَرَةً فَجَرَةً، ويَرَوْنَ الدّعاء لهم بالإصلاح والتّوفيق والصّلاح وبَسْطِ العدل في الرّعيّة، ولا يَرَوْنَ الخروج عليهم وإن رَأَوْا منهم العدول عن العدل إلى الجَوْرِ والحيف، ويَرَوْنَ قتال الفئة الباغية حتّى ترجع إلى طاعة الإمام العدل»(25)، وقال ابن تيميّة -رحمه الله-: «فأهل السّنّة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقًا، إنّما يطيعونهم في ضمن طاعة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، كما قال تعالى: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (النّساء: 59)»(26)، وقال -رحمه الله- أيضًا: «مذهب أهل الحديث تركُ الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصّبرُ على ظلمهم إلى أن يستريحَ بَرٌّ أو يُستراحَ من فاجرٍ»(27)، وقال النّوويّ –رحمه الله-: «لا تُنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلاّ أن تَرَوْا منهم منكرًا محقَّقًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأَنْكِروه عليهم وقولوا بالحقّ حيثما كنتم، وأمّا الخروج عليهم وقتالُهم فحرامٌ بإجماع المسلمين، وإن كانوا فَسَقَةً ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرتُه، وأجمع أهل السّنّة أنّه لا ينعزل السّلطان بالفسق»(28).

     أمّا إن تولّى الكافرُ الحُكْمَ: فإن توافّرت القدرة والاستطاعة على تنحيته وتبديله بمسلمٍ كفءٍ للإمامة مع أمن الوقوع في المفاسد وجبت إزالته إجماعًا؛ لأنّ الله تعالى قال: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59)، والكافر لا يُعدّ من المسلمين، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ»(29)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»(30)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لاَ، مَا صَلَّوْا»(31)، قال ابن حجر -رحمه الله-: «وملخَّصه أنّه ينعزل بالكفر إجماعًا؛ فيجب على كلّ مسلم القيام في ذلك: فمن قَوِيَ على ذلك فله الثّواب، ومن داهن فعليه الإثم»(32).

     فإن عجزوا عن إزالته وإقامة البديل، أو لا تنتظم أمور السّياسة والحكم بإزالته في الحال خشيةَ الاضطراب والفوضى وسوء المآل؛ فالواجب الصّبر عليه وهم معذورون؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التّغابن: 16)، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فَإذا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(33)، وهذا أحقّ موقفًا من الخروج عليه؛ لأنّ «دَرْءَ المَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ المَصَالِحِ»؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195)، وتُلْحَق هذه الصّورة بالمرحلة المكّيّة التي كان عليها النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه قبل الهجرة، فقد كانوا تحت ولاية الكفّار، وقد أُمروا فيها بالدّعوة إلى الله تعالى وكفّ الأيدي عن القتال والصّبر حتّى يفتح الله عليهم أمرهم ويفرّج كربهم وهو خير الفاتحين والمفرّجين، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (النساء: 77).

     هذا، وجديرٌ بالتّنبيه أنّه إذا تعدّد الأئمّة والسّلاطين فالطّاعة في المعروف إنّما تجب لكلّ واحدٍ منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي تنفذ فيه أوامره ونواهيه، وضمن هذا السّياق يقول الشّوكانيّ -رحمه الله-: «وأمّا بعد انتشار الإسلام واتّساع رقعته وتباعُد أطرافه، فمعلومٌ أنّه قد صار في كلّ قطرٍ أو أقطارٍ الولايةُ إلى إمامٍ أو سلطانٍ، وفي القطر الآخَرِ أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمرٌ ولا نهيٌ في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدُّد الأئمّة والسّلاطين، ويجب الطّاعة لكلِّ واحدٍ منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يُقتل إذا لم يتبْ، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعتُه ولا الدّخول تحت ولايته لتباعُد الأقطار.

     فاعرفْ هذا فإنّه المناسب للقواعد الشّرعيّة، والمطابق لما تدلّ عليه الأدلّة، ودَعْ عنك ما يقال في مخالفته؛ فإنّ الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلاميّة في أوّل الإسلام وما هي عليه الآن أوضَحُ من شمس النّهار، ومن أنكر هذا فهو مباهتٌ لا يستحقّ أن يخاطب بالحجّة لأنّه لا يعقلها»(34).

     والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين وسلّم تسليمًا.

الهوامش

21- «روضة الطالبين» للنووي (10/ 46).

22- أخرجه البخاري في «الأحكام»، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7145)، ومسلم في «الإمارة» (1840)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

23- أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 131)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصحّحه أحمد شاكر في تحقيقه ل«مسند أحمد» (2/ 248، والألباني في «صحيح الجامع» (7520).

24- «رسالة إلى أهل الثغر» للأشعري (296).

25- «عقيدة السلف» للصابوني (92).

26- «منهاج السنّة» لابن تيميّة (2/ 76).

27- «مجموع الفتاوى» لابن تيميّة (4/ 444).

28- «شرح النووي على مسلم» (12/ 229). ويمكن مراجعة المصادر التالية: «الاعتقاد» للبيهقي (242-246)، «اعتقاد أئمة الحديث» للإسماعيلي (75-76)، «الشريعة» للآجرّي (38-41)، «مقالات الإسلاميّين» للأشعري (1/ 348)، «الإبانة» للأشعري (61)، «الشرح والإبانة» لابن بطّة (276-278)، «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزّ (2/ 540-544)، «العقيدة الواسطية» مع شرحها للهرّاس (257-259).

29- أخرجه مسلم في «الإمارة» رقم (1855)، من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.

30- أخرجه البخاري في «الفتن» باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا» (7056)، ومسلم في «الإمارة» رقم (1709)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

31- أخرجه مسلم في «الإمارة» رقم (1854)، من حديث أمّ سلمة رضي الله عنها.

32- «فتح الباري» لابن حجر (13/ 123).

33- أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنّة»، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (728)، ومسلم في «الحج» رقم (1337)، واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

34- «السيل الجرّار» للشوكاني (4/ 512).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك