
نقد العقلية السلفية المعاصرة- خطاب هدفه الهدم وليس الإصلاح
صار من مألوف ما تلقاه عيني في وسائل التواصل المختلفة نقد ما يسمونه بـ(العقلية السلفية المعاصرة).. وكلما قرأت كتابةً هنا أو هناك بتُّ أحاول الربط بين أنحاء ذلك النقد وأنواعه رجاءَ أن تتمثَّل لي صورة معبرة عن تلك العقلية المنقودة، ولكني دائما أقف حائرًا لا أهتدي إلى ما أريد.
ثم إني أجد من بين تلك الكتابات الناقدة لـ (العقلية السلفية المعاصرة) جامعًا لافتًا، وهو شدة الخطاب إلى الحد الذي يبلغ به الناقدُ رتبة الإسفاف والابتذال، بل سوءَ الخلق في كثير من مضامينه.. وصار التشنج والتوتر والانفعال من أبرز أمارات ذلك الخطاب حتى لكأنما تحس من بين أحرف تلك الكتابات نفوسًا تتشفَّى وقلوبًا حانقة.
وليس هذا في جانب معرفي دون آخر، بل ترى ذلك في كل قضية وفي أي محفل؛ حيث يحضر هذا الخطاب الناقد بهذا الروح الصدامية تجاه (العقلية السلفية المعاصرة).
حين يُعلَّقُ على شذوذ فقهي ترى في هذا الخطاب نحوًا من: «هذا ما أفرزته لنا العقلية السلفية المعاصرة»، وحين يُعلَّق على اضطراب عقدي يقال: «هذا من جملة آثار ضلال العقلية السلفية المعاصرة وضيق عطنها وانسداد أفقها».. وربما يضاف إلى ذلك الثناء على بعض أهل البدع زيادةً في النكاية، وأن الضلال السلفي قد بلغ من السوء مبلغًا لم يبلغه أولئك المبتدعة الفضلاء.
وحين يُعلَّق على رذيلة أخلاقية يقال: «هذا من أبرز ما ورثته العقلية السلفية المعاصرة للأمة».. وربما يضاف إلى ذلك أن الأثر السلفي السيء في الأمة في باب الأخلاق والسلوك ربما تعدى ما بلغه العلمانيون الشرفاء، وحين يُعلَّق على فساد سياسي يقال: «هذه إحدى جنايات العقلية السلفية المعاصرة وفساد ذمم أصحابها»، وهلم جرًّا.
التعاطي مع الملف السياسي
ولما أراد بعضهم تحليل سبب الانزلاقات المنهجية للحركات الإسلامية في تعاطيها مع الملف السياسي ردَّ ذلك إلى عدم انضباط تلك الحركات بمناهج الأئمة وعدم ترسيخ ذلك في أدبياتها التي تربي عليها من انتسب إليها، و(العقلية السلفية المعاصرة) هي من زعزعت ذلك الانضباط في زعمهم. ولما أُقِرَّت في بعض الدول الإسلامية قوانين على خلاف ما أجمعت عليه الأمة يُردُّ الأمرُ بداهةً إلى السلفيين الذين أفسدوا الفقه وأزروا بالفقهاء، بمثل هذا العمق تُفسَّر مختلف القضايا والمتغيرات الفكرية والسياسية لدى هذا الخطاب!
خطاب متسلط
ثم إن هذا الخطاب مع تسليطه سهامَه على (العقلية السلفية المعاصرة) إلا أنه يسعى جاهدًا في الحفاظ على سلفيته، فيتدثَّر بمرجعيات سلفية ليروِّج خطابَه بجاهها ويثبت بها سلفيته (الأصيلة!) في مقابل (العقلية السلفية المعاصرة) التي انتسب أصحابها للسلف زورًا، بينما الواقع أن هؤلاء المعاصرين تنكبوا سبيل الأئمة وحادوا بالأمة عن محجة السلف.
يلهجون باتباع الأئمة الأربعة
من أجل ذلك ترى أصحاب هذا الخطاب يلهجون باتباع الأئمة الأربعة وابن تيمية مثلا، مع تذييل ذلك بأن الأئمة الأربعة لم يتبعهم أحد سواهم، كما أن ابن تيمية لم يفهمه أحد سواهم، وأما (العقلية السلفية المعاصرة) -في زعمهم- فيرون الأئمة الأربعة رجالًا كغيرهم، ويزرون بأتباعهم ومذاهبهم، ويقدمون المعاصرين والخالفين عليهم، وأما حالهم مع ابن تيمية فهم يقدسونه لكنهم جهالٌ لا يفهمونه.
تعميم الألفاظ
هذا، وإذا أردنا وضع مقاربةٍ لذلك النقد نستطلع من خلالها حدود (العقلية السلفية المعاصرة) التي سلطوا عليها نقدهم وسهامهم فلن نجد ما نستطيع من خلاله معرفة حقيقة الأمر، فهم يدأبون في شحن خطابهم بكل ألفاظ العموم، ويفرون من تحديد أشخاص، زعمًا أن ما يدّعونه ليس نشازًا في الطيف السلفي العام، بل هو ظاهرة منتشرة، وما كان خلافها فهو النشاز، ولا يخالفون طريقتهم التعميمية هذه إلا في حالات نادرة يسمون فيها بعض من ينتقدونهم، وأولئك الذين يسمونهم ستجدهم مسترذَلين عند عامة السلفيين، ولكنهم مع ذلك يستغلون أي شاهد لنقدهم التائه.
المنتسبون إلى السلفية ألوانٌ شتى
هم يدركون أن المنتسبين إلى السلفية ألوانٌ شتى، وطرائق قددًا، لكنهم لا يلتفتون لشيء من ذلك، فإذا صدر من طيفٍ ما يستحق الثناء خصُّوه بهم، وإذا صدر ما يستحق الذم وسعوا دائرته.
وإن يغِب عني شيءٌ من معالم ذلك الخطاب النقدي فلن يغيب عني ما قدمته من تسلح هذا الخطاب بمعجم شتائميٍّ حاضر في معظم كتاباته، وهذا المعجم هو بضاعته الرائجة وتجارته الرابحة التي يصطاد بها أشباهَه.
وبجانب ذلك المعجم الشتائمي تجد سيلًا من الاتهامات التي تُرمى بها (العقلية السلفية المعاصرة) وأصحابها، فترى السلفيين المعاصرين في هذا الخطاب أشبهَ بعصابات الشوارع؛ فهم سبب دمار البلاد وخراب البيوت وضلال الناس بسبب فتاويهم ومقالاتهم وعجرفتهم، السلفية عندهم تفسد دنيا الناس؛ فتفرق بين المرء وزوجه وبين الابن وأبيه، وتفسد دينهم حين ترسخ في عباداتهم مبتدعات ما أنزل الله بها من سلطان، وأنت إذا قرأت مركَّب (العقلية السلفية المعاصرة) فلا أظنك إلا واجدًا ما وصفت، أو فوق ما وصفت.
ما الذي أريد أن أقوله؟
خطاب عائم تائه
إن هذا الخطاب عائمٌ في نقده، تائهٌ في وجهته، وهو يجد حياتَه في حالة التيه هذه، حتى إذا ما عورض بشيء قال أربابه: نحن نرى ما لا ترون، فدعونا على الثغر الذي لا تشرفون عليه ولا تدركون ما فيه!
وبذلك يستطيلون على الخلق زاعمين أنهم على ثغر إصلاحي عظيم لا يحسن الخوض فيه غيرهم، ثم إنهم ربما التمسوا من الناس حفظ هذه الفضيلة له؛ حيث تقدموا يوم أحجم غيرهم، وكلما قيل لهم كفوا عن هذه اللغة الحانقة (قالوا إنما نحن مصلحون).
خطاب هدفه الهدم
لا تطمعْ في خطاب نقدي كهذا أن يكون سببًا لاستصلاح سلفي واحد؛ لأن هذا الخطاب دأب على الهدم، وليس من همه استصلاح أحد، ولا يمكن أن يكون من هم الخطابات المتشفية استصلاح أحد، ولما كان طريق الإصلاح عسيرًا، يحتاج إلى تربية راشدة وطول مكث وأناة!، وهؤلاء لا يصبرون على شيء من ذلك؛ لأنهم يرون صنيعهم النقدي من فروض الكفايات القائمة التي لا بد من تأديتها، فهم يحاولون طيَّ طريق الإصلاح الطويل بمراكب الشتائم، ولكن هيهات.
لا تورِّثك علمًا ولا تجر إليك فضيلة
إن هذه الخطابات التي تستلذ نقد (العقلية السلفية المعاصرة) على غير هدًى من الرأي ولا سدادٍ من القصد، لا تورِّثك علمًا ولا تجر إليك فضيلة، ولكنها -بما نراه من مضامينها- تصرفك عن طريق العلم إلى رذيلة الشتم.
وانظر إلى حالك وما يعتلج في وجدانك وأنت تقرأ هذه الخطابات، أفتراها تنزعك إلى خير، أو تراها تمتلؤك غيظًا وحنقًا على عباد الله؟
واعلم أن الحق لا يُنصَر إلا بالحق، والعلم لا يُبَث إلا بالعلم، فإذا رأيتَ حقا يستنصر بباطل ففرَّ منه فليس بحق، وإذا رأيتَ علمًا يُساق بسوء خلق فاطرحه فليس بعلم.
يأتي بعكس مقصوده
إن هذا النقد يأتي دائما بعكس مقصوده، فبدل أن يكون سببًا للإصلاح يكون سببًا للفساد؛ لأن هذا النقد ناجح جدا في خلق العداوات وبث الفرقة بين المسلمين وتزهيد العامة في دعاتهم ومشايخهم؛ لأن النقد التائه يأخذه كل أحد وينزله على كل أحد، وما أقرب أن يرتد النقد على الناقد وينقلب السحر على الساحر!
السلفية ليست تيارا ولا فصيلا
إن السلفية ليست تيارا ولا فصيلا، ولكنها منهجٌ انتسب إليه طوائف شتى، من خلفيات معرفية متنوعة وأقطار وبيئات مختلفة، ثم إن هذه الطوائف على أنحاءَ في القرب والبعد من جوهر المنهج ومحكماته، ولا بد أن يكون في بعض أدبيات تلك الطوائف ما تحيد به عن المحجة، وهذا يستدعي مراجعة دائمة تُعرَض فيها الأدبيات على محكمات المنهج ليسدِّد سيرَها ويقوِّم مُنآدَها.. ولكن هذا النقد العائم المنفلت يمثل حجر عثرة في طريق الإصلاح؛ لما يقع من خلل في أدبيات المنتسبين إلى السلفية، فبدل أن تُحفَظ الحسنة وتنمى وتُدفَع السيئة وتزال يأتي هذا النقد ليخلق توترًا لدى السلفيين، ويصنع نفورًا من أي نقد يُطرَح، فتَجني هذه الخطابات الشتائمية على الخطابات الإصلاحية، وتوضع معًا في قالب نقدي واحد ينفر منه الجميع.
المشاريع العلمية البنائية الجادة
وإن يكن من وصية أبعث بها لإخواني فهو ألا يُستَجرُّوا لهذه الخطابات، ولا يحرصوا على تتبعها ولو بالنقد، فإن الزَّبد يضمحل، والرهان على إخلاص الوقت للمشاريع العلمية البنائية الجادة.. ويا ضيعة العمر إن أُريقِ في مجادلات لا أول لها ولا آخر، ولا مبتدأ لها ولا متعقَّب، كل ذلك على حساب إصلاح النفس وتهذيبها بالعلم والعمل.
وبعدُ، فهذه إطلالةٌ على واقع نقدي بائس لطائفة أخطأت الطريق، وإن كنتُ سأشركهم في شيء ننتقد فيه معًا (العقلية السلفية المعاصرة) فهو أن السلفية المعاصرة لم تضع ضمانات كافية تقي أبناءها من هذا السفال النقدي الذي نراه في كتابات بعضهم كلما شبَّ عن طوق السلفية، ورأى بين أطماره أثارةً من علمها فاستعذب أن يبخس الناس أشياءَهم، والله على كل شيء شهيد.
لاتوجد تعليقات