رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: د. محمد إبراهيم منصور 12 سبتمبر، 2019 0 تعليق

معركة الوعي الحضاري (2)


الوعي الحضاري هو إدراك المنتمين لتلك الحضارة أن لحضارتهم ماضٍيا مشرفٍا، واليقين أن لها مستقبلًا مشرقًا، وإدراك أن واقعهم الحاضر واقع مؤلم؛ لبعده عن مقومات الإحياء الحضاري، وفي الوقت نفسه إدراك أن الانتقال مِن هذا الواقع المؤلم إلى ذلك المستقبل المشرق لابد له مِن أسبابٍ، وأن كل شخص منتمٍ لهذه الحضارة هو أحد هذه الأسباب، ويلزمه بذل ما يمكن بذله في سبيل ذلك الإحياء، واليوم نستكمل الحديث عن معالم الوعي الحضاري.

المعلم الثاني

     مِن معالم الوعي الحضاري: العلم أنه وإنْ ضعف الحَمَلة للمنهج وتلاشى الأثر الحاضر للأمة عبر تقلبات الظروف التي تمر بها الأمة؛ فإن الحضارات لا تموت، بل تبقي متوارثة مِن خلال بذرتها النقية حتى تجد مَن يحملها ويغرسها في عقول الأجيال وقلوبها؛ فتستعيد نفسها مرة أخرى وبطريقة مذهلة إذا وجدت مَن يرفع بها رأسه، والبذرة النقية للحضارة الإسلامية هي إحياء العمل بالوحيين: (الكتاب والسنة)، بمعيار فهم أعلم الناس بالكتاب والسنة سلف الأمة.

     قال الله -تعالى-: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (النور:55)، والدين المرضي هو الدين الكامل بالفهم الأول، قال الله -تعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3)؛ «فما لم يكن يوم هذه الآية مِن الدين فليس اليوم مِن الدين»، كما قال الإمام مالك -رحمه الله-، وقال مالك أيضًا: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها».

     وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بعدي فسيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ؛ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وقال الله -تعالى-: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} (البقرة:137)، وقال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} الكتاب والسنة {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي: سلف الأمة {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء:115).

     قال السعدي -رحمه الله- في تفسيره: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} أي: ومَن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده فيما جاء به {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم وأعمالهم».

إحياء الوعي

     فلإيقاظ الوعي الحضاري وإحيائه لابد مِن بيان هذا الأمر، وأن الإحياء الحقيقي الذي وعد الله به له منطلق واحد، وهو البذرة النقية التي إذا غُرست في قلوب الأحيال أنبتت شجرة الإحياء، التي لا تلبث أن تزدهر وتترعرع وتثمر ثمارها المنشودة -إن شاء الله-، وأي تشكيك في المرجعية للوحيين: (الكتاب والسنة)، أو في معيار فهم نصوصهما، إنما المقصود به تغييب الوعي الحضاري لتضل الأجيال عن طريقها وهدفها المنشود.

المعلم الثالث

     إدراك أن الواقع أليم: وأن سبب هذا الواقع الأليم هو بعده عن المقومات الصحيحة للإحياء الحضاري، وأهمها: أن الإحياء لأي حضارة لا يكون إلا مِن خلال البذرة النقية لها، التي تغرس في عقول جيل وقلبه، يحملها ويعمل بها، والبذرة النقية للحضارة الإسلامية هي الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة -كما تقدَّم.

ومحاولة تفسير أسباب التخلف الحضاري بمعزلٍ عن هذا السبب الأول، إنما يصب في صالح التضليل وتغييب الوعي؛ لأن هذا هو السبب الرئيس للتخلف عن ركب الحضارة؛ فالحضارة والقوة على إحيائها، لها جناحان، ولاسيما ما يتعلق بأمة الإسلام:

- الجناح الأول: الجناح الشرعي المتمثل في غرس البذرة النقية، وإحياء العمل بها في الأجيال المتتالية.

- الجناح الثاني: الجناح المادي وهو الأخذ بأسباب القوة المادية بضوابط الشريعة أيضًا.

حينها ستكون القوة المادية عامل تقدم ورخاء للعالم، وليست أداة إفناء! كما هي الآن في يد الحضارة الغربية التي تسببتْ في قتل مئات الملايين في الحروب العالمية، وغيرها.

المعلم الرابع

     الثقة واليقين أن لتلك الحضارة مستقبلًا مشرقًا وعودة مرة أخرى لإنارة الدنيا: مهما شكك أعداء هذه الحضارة وأذنابهم والمخدوعون بهم؛ لأن هذا هو وعد الله، ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (النور:55-57).

المعلم الخامس

من معالم  الوعي الحضاري: العلم أن هذا الانتقال سيكون بأسبابه المشروعة المأمور بها، وليس بالتواكل الصوفي أو الإرجائي، وإنما هو بالأخذ بالأسباب المشروعة المستطاعة.

المعلم السادس

     من معالم الوعي الحضاري: أن أول هذه الأسباب هو بذرتها النقية، يحملها كيان ليغرسها في عقول الأجيال وقلوبها حتى يتهيأ الجيل الذي يستحق أن يتم الإحياء على يديه، وأول خطوة مِن هذه الأسباب هي: «أنتَ أنت ولو كنت وحدك»؛ فمَن أدرك هذه الأمور الستة، وكان عنده استعداد للعمل بها؛ فذلك عنده الوعي الحضاري، الذي إن وُجد هذا الوعي وتمكَّن مِن قلوب أبناء هذه الأمة وعقولها، وعمل الجميع من خلال عوامل الإحياء الحضاري، التي ذكرتُ بعضها في المقال السابق المشار إليه؛ فإن عودة الريادة الحضارية ستكون أسرع مِن التصورات كلها.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك