
مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف
ما زال حديثنا موصولاً عن قصة شباب الكهف، هؤلاء الفتية الذين لم يكن بينهم سابق معرفة أو صداقة، ولكنَّ الرابطة التي جمعتهم هي رابطة الإيمان والعقيدة، وبغض الشرك وأهله، وقد ذكرنا بعضًا من مشاهد هذه القصة، وذكرنا منهم مشهدين، المشهد الأول: الطليعة الواعدة، والمشهد الثاني: في جوف الكهف، واليوم نتكلم عن المشهد الثالث وهو: البعث بعد النوم، وفيه عدد من الرسائل وهي: الترفُّع عن الجدل، وسفير الجماعة، وأرسل حكيمًا ولا توصه، ومنهجية التلطف، والغيب المخبوء.
المشهد كما عرضه القرآن
قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}، في هذا الجزء مِن القصة يحكي القرآن مشهد الفتية بعد ما قاموا من نومتهم، ودار بينهم حديث مقتضب حول المدة التي مكثوا فيها داخل الكهف، وكعادة النائم فإنه مهما يغيب في النوم؛ فإنه يتوقع أن يكون نام جزءًا من اليوم، أو اليوم كله على أقصى تقدير.
فقدان مقومات للحياة
قام الفتية من نومتهم فلم يجدوا داخل الكهف أيَّ مقوماتٍ للحياة؛ فليس معهم طعام ولا شراب، وليس أمامهم وسيلة يحصلون منها على ما يحتاجونه من الطعام سوى الرجوع إلى المدينة التي خرجوا منها فارين بدينهم، ومِن ثَمَّ انتدبوا منهم رجلًا لكي يرسلوه إلى المدينة ليشتري لهم الطعام، وقد أوصوه بوصيةٍ جامعةٍ اختصرها القرآن في قوله: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}، وذكروا عِلَّة هذه الوصية، وهي أن قومهم متى شعروا بهم أو علموا مكانهم فلن يتركوهم حتى يعودوا إلى الكفر الذي هم عليه، أو يكون مصيرهم القتل.
1- الترفُّع عن الجدل
قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}، الترفُّع عن الجدل يجب أن يكون صفةً لازمةً للدعاة إلى الله؛ لأن الجدل يحرق الأوقات بلا طائل، كما أنه يُنهِك صاحبه، ويستنفد قواه العقلية والنفسية، وأقبح أنواع الجدل: تلك المناقشات التي تغيب عنها البيِّنات والحقائق، ويكثر فيها الادّعاء بلا علم، وتنشأ جرّاء ذلك الأحقاد والضغائن؛ لذا يأتي التنبيه على ذلك في قول الله -تعالى-: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا}.
الأدب في هذا المقام
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا؛ فإنه -تعالى- أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعَّف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدلَّ على صحته؛ إذ لو كان باطلًا لرَدَّه كما ردَّهما، ثم أرشد إلى أن الاطِّلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا: «قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم»، فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا} أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك؛ فإنهم لا يعلمون مِن ذلك إلا رجْمَ الغيب، فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف، أن تُستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن يُنبَّه على الصحيح منها، ويُبطَل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم».
2- سفير الجماعة
قال الله -تعالى-: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ}، ما أجمل الروح الأخوية التي تسود هذا الفريق من الشباب! فبعد أن توقَّفُوا لبُرْهة أمام مدة نومهم، انتقلوا بعدها مباشرة إلى تدبير أمور حياتهم، والنظر في شؤونهم، وكان أشد هذه الشؤون إلحاحًا هو احتياجهم إلى الطعام والشراب لكي يواصلوا العمل، وتقوى أبدانهم على البذل والعطاء، فإنَّ الفريق الذي يكثر فيه الكلام، ويشيع فيه الخلاف، يقل فيه العمل ويدبُّ إليه الفشل.
قوة هذا الفريق
وتلمح من السياق معنى آخر من معاني قوة هذا الفريق من الشباب، وهو المرونة والسلاسة والتواضع، فلم يختلفوا فيمن يذهب لشراء الطعام، فالكل في هذا الأمر سواء، فمن يقع عليه الاختيار يقوم بالمهمة دون جدل أو نقاش، ورغم أن المهمة ثقيلةٌ ومحفوفةٌ بالمخاطر؛ إلا أنَّ ذلك الأمر لم يُعره أحد منهم اهتمامًا، بل كان الامتثال وسرعة التنفيذ سمة مَن سيؤدي العمل، وهذا السلوك خير تطبيق لقول النبي -صلى الله عليه وسلم -: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ».
والظاهر مِن السياق كذلك: أنَّهم قد أمَّروا عليهم أحدهم، ولا يخفى أن شريعتنا جاءت بهذا التوجيه النبويّ الراقي، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ»، وفي قولهم: «أَحَدَكُمْ»: دليل على قدرة أي أحد منهم على القيام بالمهمة، وهذا من علامات قوة الفريق؛ حيث يعطي هذا الأمر إمكانية توفر بدائل متكافئة للمهمة الواحدة، وهذا يؤدي إلى استمرارية العمل، وعدم توقفه على فردٍ بعينه.
3- أرسل حكيمًا ولا توصه
قال الله -تعالى-: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}، الأعمال الجماعية الناجحة لابد أن تعتمد على التفويض بوصفه مبدأ مهما من مبادئ العمل، والملاحظ هنا: أن الفتية اعتمدوا هذه الطريقة في التكليف؛ حيث وضَّحوا للشخص المكلف بأداء المهمة ما المطلوب منه عموما، وهو أنهم يريدون طعامًا زكيًّا، وتركوا له تقدير الكمّية، وتحديد الأنواع، وغيرها مِن الأمور الفرعية.
صناعة الرجال وتربية القادة
إن هذه الطريقة في العمل هي التي تصنع الرجال وتربي القادة، والقائد الذي لا يستخدم التفويض في إدارته للفريق يُقَزِّم من قدراتهم، ويُحِدّ من كفاءتهم، والمؤلم في ذلك أنَّه سوف يفتقدهم في المواقف المهمة التي يحتاج فيها إلى مَن يقوم مقامه، فينظر يمينًا ويسارًا فلا يجد إلا شخصيات مهتزة، لم تعتد أن تأخذ قرارًا أو تتحمل مسؤولية.
حرصهم على الرزق الحلال
وفي تأكيدهم على أن يكون طعامهم من «أَزْكَى» الطعام: دليل على حرصهم وتحريهم لطلب الرزق الحلال، وهذا أثر من آثار إيمانهم بالله وطاعتهم له، فالمعاملات والسلوك لا تنفصل عن العقائد والعبادات، فلا يليق بهم أن يكونوا في باب المعاملات مفرطين متهاونين، بينما في باب الدعوة أو العلم متقدمون، فالسلوك مرآة الفكر، والعمل ترجمة وتعبير عما في القلب.
4- منهجية التلطف
قال -تعالى-: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا}، اللطف هو التعامل بخفاء، وفي مثل حال أصحاب الكهف لا بد أن يستعينوا على قضاء حاجتهم بالكتمان؛ حتى لا يُفتضح أمرهم ويُردُّوا إلى قومهم، فالكتمان مطلوبٌ في هذا الموضع، وهو من الحذر الواجب، ومن الأخذ بالأسباب، وليس من الشجاعة أن يعلن قلةٌ من الضعفاء أمرَهم أمام جيشٍ مِن الأقوياء، وليس مِن الجبن أن يكونوا مختفين عن أعين الظالمين، كما قال -سبحانه وتعالى- عن موسى -عليه السلام-: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} (القصص:21).
الكتمان وتحقيق المصالح
فالإنسان إذا كان في خطرٍ فينبغي له أن يكون متلطفًا وألَّا يُظهر نفسه حتى لا يَكشف أعداؤه أمره، وفي الكتمان من المصالح ما لا يُحصى كثرة إذا استُعمِل في موضعه، وتأمَّل وصية النبي -صلى الله عليه وسلم - لحذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - عندما أرسله ليستكشف خبر المشركين في غزوة الخندق فقال له: «اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، يقول حذيفة:» فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا فِي كَبِدِ الْقَوْسِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -: «وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأَصَبْتُهُ، وهذا الفعل من حذيفة - رضي الله عنه - خير تطبيقٍ لمنهجية التلطف.
5- الغيب المخبوء
قال الله -تعالى-: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}، أي: أنهم إن ظهروا عليهم فهم بين أمرين: إمَّا الرجم بالحجارة، فيقتلونهم أشنع قتلةٍ، لحنقهم عليهم وعلى دينهم، وإمَّا أن يفتنوهم عن دينهم، ويردُّوهم في مِلَّتهم، وفي هذه الحال، لا يفلحون أبدًا، بل يخسرون في دينهم ودنياهم، وقد كان هذا هو مَبْلغُ علم الفتية في ذلك الوقت، ولكنَّهم لا يعلمون أن مَن يتحدثون عنهم أصبحوا أثرًا بعد عين، فلا الناس هم الناس، ولا المدينة هي المدينة، فلم يعد للظالمين ذكر ولا لمُلِكهم أثر، وهذا الأمر فيه درسٌ تربويٌ عظيم نتعلم منه كيف يكون تأدبنا مع الله، وكيف يكون اعترافُنا بضعفنا وعجزنا وقلة حيلتنا، ونتعلم كيف ينخلع الإنسان من حولِه وقوته ليكون في كنف الله ورعايته، فيشهد بقلبه قبل أن ينطق لسانه أنه: «لا حول ولا قوة إلا بالله».
فوائد من المشهد
- الترفُّع عن الجدل يجب أن يكون صفةً لازمةً للدعاة إلى الله؛ لأن الجدل يحرق الأوقات بلا طائل، كما أنه يُنهِك صاحبه ويستنفد قواه العقلية والنفسية، وأقبح أنواع الجدل تلك المناقشات التي تغيب عنها البيِّنات والحقائق، ويكثر فيها الادّعاء بلا علمٍ، وتنشأ جرّاء ذلك الأحقاد والضغائن.
- الفريق الذي يكثر فيه الكلام، ويشيع فيه الخلاف، يقل فيه العمل ويدبُّ إليه الفشل.
- إن اعتماد مبدأ التفويض المنضبط في الأعمال الجماعية هو الذي يصنع الرجال ويربي القادة، والقائد الذي لا يستخدم التفويض في إدارته للفريق يُقَزِّم من قدراتهم، ويُحِدّ من كفاءتهم، والمؤلم في ذلك أنَّه سوف يفتقدهم في المواقف المهمة التي يحتاج فيها إلى مَن يقوم مقامه، فينظر يمينًا ويسارًا فلا يجد إلا شخصيات مهتزة، لم تعتدْ أن تأخذ قرارًا أو تتحمل مسؤولية.
لاتوجد تعليقات