
محاضرات منتدى تراث الرمضاني الخامس … أعلام وقدوات أثروا في تاريخ الأمة … الشيخ العلّامة: محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- المحاضرة 9
محاضرات منتدى تراث الرمضاني الخامس .. أعلام وقدوات أثروا في تاريخ الأمة .. الشيخ العلامة: محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -
ألقاها الشيخ: سعد البناق
تحت شعار: (أعلام وقدوات أثروا في تاريخ الأمة)، أطلق «قطاع العلاقات الإعلام والتدريب» بجمعية إحياء التراث الإسلامي (منتدى تراث الرمضاني الخامس) الذي بدأت فعالياته يوم الاثنين 3 رمضان 1446هـ، الموافق 3 مارس 2025م، واشتمل المنتدى لهذا العام على العديد من المحاضرات التي يلقيها مشايخ من داخل الكويت وخارجها، وذلك عبر البث المباشر (زووم), ويأتي منتدى هذا العام ليسلط الضوء على جهود العلماء والأئمة الأعلام في حفظ الدين ونشره، مع بيان أثرهم في توجيه الأمة نحو الصراط المستقيم، هؤلاء الأعلام الذين وقفوا سدًّا منيعًا في وجه التحريف والبدع، فبيّنوا للناس أصول الدين، ودعوا إلى التمسك بالكتاب والسنة، مجتهدين في تعليم الأحكام، وبيان الحلال والحرام، ونشر قيم الإسلام السمحة.
- لما توسم الشيخ السعدي النجابة وسرعة التحصيل العلمي في الشيخ ابن عثيمين شجّعه على التدريس وهو مازال طالبا في حلقته فبدأ التدريس عام 1370هـ
- بتوجيه من والده أقبل الشيخ ابن عثيمين على طلب العلم الشرعي فأقبل على دروس العلامة السعدي عالم عنيزة آنذاك فكان شيخ بن عثيمين ومعلمه الأول
- التقى الشيخ ابن عثيمين بالشيخ ابن باز في الرياض في الفترة من 1372هـ و1373هـ، وقرأ عليه في المسجد من صحيح البخاري ومن رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وانتفع به في علم الحديث والنظر في آراء فقهاء المذاهب والمقارنة بينها
- بعد وفاة العلامة السعدي اجتمع أهل عنيزة مع أميرها وعلمائها وقضاتها فاختاروا الشيخ العثيمين -رحمه الله- فتولى بعد الشيخ السعدي إمامة الجامع الكبير في عنيزة
- كان للشيخ ابن عثيمين أسلوب تعليمي فريد في جودته ونجاحه وكان يناقش طلبته ويتقبل أسئلتهم وكان يلقي دروسه بهمة عالية ونفسية مطمئنة واثقة مبتهجا بنشر العلم وتقريبه للناس
- للشيخ ابن عثيمين أعمال عديدة في ميادين الخير وأبواب البر ومجالات الإحسان إلى الناس والسعي في حوائجهم وإسداء النصيحة لهم بصدق وإخلاص
- كان من صفات الشيخ ابن عثيمين أنه يطبق السنة في جميع أحواله قدر استطاعته ومن ورعه أنه كان كثير التثبت فيما يُفتي ولا يستعجل في الفتيا
- يعد الشيخ ابن عثيمين من الراسخين في العلم الذين وهبهم الله تأصيلًا وملكةً عظيمةً في معرفة الدليل واتباعه واستنباط الأحكام والفوائد من الكتاب والسنة
- واصل الشيخ مسيرته التعليمية والدعوية بعد عودته من رحلة العلاج فلم يمنعه شدة المرض من الاهتمام بالتوجيه والتدريس في الحرم المكي حتى قبل وفاته بأيام
- تميز الشيخ ابن عثيمين بالحلم والصبر والجلد والجدية في طلب العلم وتعليمه وتنظيم وقته والحفاظ على كل لحظة من عمره، وكان بعيدًا عن التكلف وكان قمة في التواضع
ما أحوجنا اليوم إلى دراسة حياة القدوات من العلماء، ومواقفهم حتى نستفيد من هذه المواقف، ولقاؤنا اليوم سنقدم فيه نبذة مختصرة عن سيرة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- وهو العالم الجليل، والمربي الفاضل، والقدوة الصالحة، والطود الشامخ في العلم والزهد والصدق والإخلاص والتواضع والورع والفتوى. إنه شيخ التفسير والعقيدة والفقه والسيرة النبوية والأصول والنحو وسائر العلوم الشرعية، الداعي إلى الله على بصيرة، المشهود له بصدق العمل، ومواقف الخير والدعوة والإرشاد والإفتاء، الذي انتفع بعلمه المسلمون في شتى أنحاء العالم الإسلامي، وأجمعت القلوب على قبوله ومحبته وفضله وعلو مرتبته.
نسبه ومولده
الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-، هو الشيخ العالم المحقق الفقيه المفسر الورع الزاهد محمد بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبدالرحمن آل عثيمين وهو من الوهبة من بني تميم وهي القبيلة المشهورة المعروفة، وُلد -رحمه الله- تعالى في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة 1347هـ في مدينة عُنيزة إحدى محافظات القصيم في المملكة العربية السعودية.
نشأته العلمية
كان لنشأته -رحمه الله- أثر في حياته العلمية؛ حيث ألحقه والده -رحمه الله تعالى- ليتعلم القرآن عند جده لأمه، وهو الشيخ المعلم عبدالرحمن بن سليمان الدامغ -رحمه الله-، ثم تعلم الكتابة وشيئا من الحساب والنصوص الأدبية في مدرسة الأستاذ عبدالعزيز بن صالح الدامغ -رحمه الله-، وذلك قبل أن يلتحق بمدرسة المعلم علي بن عبدالله الشحيتان -رحمه الله-، حيث حفظ القرآن عنده عن ظهر قلب، وكان عمره لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره.
وبتوجيه من والده -رحمه الله- أقبل الشيخ محمد بن صالح العثيمين على طلب العلم الشرعي، وكان الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- وهو إمام المسجد الكبير في مدينة عنيزة، وعالم عنيزة، وهو أستاذ الشيخ محمد بن صالح العثيمين الأول؛ حيث كان يُدرس العلوم الشرعية والعربية في الجامع الكبير في عنيزة، وهذا دأب العلماء في ذاك الوقت، أنه إذا كان عنده طلبة كبار، فإنهم يُدرّسون من يأتي من الصغار، فإذا برزوا وارتفع شأنهم في العلم يُدرّسُهم هو -رحمه الله-.
وقد رتّب اثنين من طلبته الكبار لتدريس المبتدئين من الطلبة، فانضم الشيخ محمد بن صالح العثيمين إلى حلقة الشيخ محمد بن عبدالعزيز المطوع -رحمه الله- حتى أدرك من العلم في التوحيد والفقه والنحو ما أدرك، فالشيخ بدايةً درس على أحد طلبة الشيخ ثم بعد ذلك تعلّم التفسير والحديث والسيرة والتوحيد والفقه والأصول والفرائض ونحوها، وحفظ مختصرات المتون في هذه العلوم بعد ذلك على الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، ويذكرون أن الشيخ كانت طريقته طريقة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي أكثر، وتأثر بمنهجه وتأصيله وطريقة تدريسه واتباعه للدليل، وكان الشيخ السعدي متأثراً بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية ورسائله -رحمهما الله- وكذلك تلميذه ابن القيم، لدرجة أنهم كانوا يسمونه ابن قيم القصيم، ثم قرأ على الشيخ عبدالرحمن بن علي بن عودان -رحمه الله- قاضي عنيزة، قرأ عليه علم الفرائض، وكان الشيخ ابن عودان متميزًا في هذا العلم، كما قرأ على الشيخ عبدالرزاق عفيفي -رحمه الله- في النحو والبلاغة في أثناء وجود الشيخ عبدالرزاق عفيفي مدرساً في مدينة عنيزة.
جلوسه للتدريس
لما توسم الشيخ محمد بن ناصر السعدي النجابة وسرعة التحصيل العلمي في الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله- شجّعه على التدريس وهو مازال طالبا في حلقته، فبدأ التدريس عام 1370هـ حتى قبل أن يذهب إلى الرياض -رحمه الله تعالى-.
ذهابه إلى الرياض
ولما فتح المعهد العلمي في الرياض أشار الشيخ علي بن حمد الصالحي -رحمه الله- على الشيخ ابن عثيمين -وكان رفيقه- أن يلتحق بالمعهد العلمي، فاستأذن شيخه العلامة السعدي -رحمه الله-، وكان في عنيزة أن يذهب إلى الرياض، فأذن له، فالتحق بالمعهد العلمي وبقي به سنتين 1372هـ و1373هـ، وقد انتفع الشيخ -رحمه الله- خلال هاتين السنتين اللتين انتظم فيهما في المعهد -معهد الرياض-؛ حيث التقى بالعلماء الذين كانوا يُدرّسون فيه حينذاك ومنهم، العلامة المفسر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- صاحب كتاب أضواء البيان وهو معروف، والشيخ الفقيه عبدالعزيز بن راشد -رحمه الله-، والشيخ المحدث عبدالرحمن الإفريقي -رحمه الله-.
لقاؤه بالشيخ ابن باز -رحمه الله-
في أثناء وجوده بالرياض التقى بسماحة الشيخ العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز -رحمه الله- فقرأ عليه في المسجد من صحيح البخاري، ومن رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وانتفع به في علم الحديث، والنظر في آراء فقهاء المذاهب والمقارنة بينها، ويعد الشيخ عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله- شيخه الثاني بعد الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- فقد تأثر به تأثراً كبيراً حتى أنه كان لا يُقدّم عليه أحدا.
عودته إلى مدينة عنيزة
ثم عاد الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- إلى مدينة عنيزة سنة 1374 هجرية، وصار يَدرُس على شيخه العلامة السعدي صاحب التفسير المعروف والكتب والمصنفات المفيدة المعروفة، ويتابع دراسته انتسابا بكلية الشريعة التي أصبحت جزءا من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حتى نال الشهادة العالمية -رحمه الله-.
وفاة الشيخ السعدي -رحمه الله-
وفي سنة 1376هـ -أي بعد قدوم الشيخ من الرياض بسنتين- توفي شيخه العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي-رحمه الله-، فاجتمع أهل عنيزة مع أميرها وعلمائها وقضاتها على أن يختاروا أحد طلبة الشيخ أن يكون مكان الشيخ السعدي، فاختاروا الشيخ العثيمين -رحمه الله-، فتولى بعد الشيخ السعدي إمامة الجامع الكبير في عنيزة، وهذه مسؤولية عظيمة ولا سيما وأن عنيزة كانت مملوءة بالعلماء وطلبة العلم، وناس عندهم دين وطاعة وعبادة، فتولى بعده إمامة الجامع الكبير في عنيزة، وإمامة العيدين فيها والتدريس بمكتبة عنيزة، وكان الشيخ السعدي يُدرّس في المكتبة الوطنية التابعة للجامع، وهي التي أسسها شيخه الشيخ السعدي، وقد أسسها سنة 1359هـ.
تدريسه في المسجد الجامع
ولما كثر الطلبة - وصارت المكتبة لا تكفيهم - بدأ فضيلة الشيخ العثيمين -رحمه الله- يُدرّس في المسجد الجامع نفسه، ومن حضر حلقات الشيخ كان يرى أن الشيخ له مكان معروف في المسجد الجامع ويكون الطلبة حوله، واجتمع عليه الطلبة وتوافدوا عليه من المملكة العربية السعودية وغيرها من البلدان، حتى أنهم كانوا يبلغون المئات في بعض الدروس، وهؤلاء يدرسون دراسة تحصيلية جادة مثل نظام الجامعات والمدارس، وكان الشيخ يسأل وليس مجرد استماع، وهذا شيء مهم فقضية الاستماع شيء أما قضية الانتظام، والحرص على الانتهاء من الكتب دراسة تحصيلية جادة هذا مهم لطالب العلم، وظل على ذلك -رحمه الله- إمامًا وخطيبًا ومدرسًا بمسجد الجامع الكبير بعنيزة حتى توفاه الله -عزّوجل-.
بقي الشيخ -رحمه الله- مع تدريسه في المسجد الكبير، مدرسًا بالمعهد العلمي منذ سنة 1374 بعدما جاء من الرياض إلى سنة 1398هـ أي قرابة أربع وعشرين سنة، بعد ذلك انتقل إلى كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وظل أستاذا فيها حتى وفاته -رحمه الله-، هذا يدل على أن الشيخ كان يعتني بقضية التدريس والحرص عليه، وكان -كما يذكر طلبته- من أحرص الناس على الحضور، وكان يحضر مبكرا، وكان إذا لم يحضر يطلب منهم أن يخصموا عليه اليوم الذي لم يحضره! وهذا من ورعه -رحمه الله-.
أسلوبه في التدريس
كان للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أسلوب تعليمي فريد في جودته ونجاحه، وكان يناقش طلبته ويتقبل أسئلتهم، لم يكن يلقي فقط بل كان يسأل ويناقش، وكان يلقي الدروس والمحاضرات بهمة عالية ونفسية مطمئنة واثقة، مبتهجا بنشر العلم وتقريبه للناس، وهذا كان شيئا مميزا في الشيخ -رحمه الله-، لهذا أحبته القلوب وقبلت كلامه، وكان أسلوبه سهلا جدًا حتى أنه إذا درّس كتابا ثم فُرّغ هذا الكتاب وطُبع تجد من يُدرّس هذا الكتاب بعد الشيخ -رحمه الله- بعد اطلاعه على ما شرحه الشيخ من هذا الكتاب فيكون سهلا في تدريسه والاستفادة من العلوم التي كان يبثها -رحمه الله- وكان ذا علم وباع عظيم في التدريس والتعليم -رحمه الله-.
آثاره العلمية
أما عن آثاره العلمية فقد ظهرت جهوده العظيمة -رحمه الله- خلال أكثر من خمسين عامًا من العطاء والبذل في نشر العلم والتدريس والوعظ والإرشاد والتوجيه وإلقاء المحاضرات والدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى-، وقد اهتم -رحمه الله تعالى- بالتأليف وكذلك اهتم بقضية التسجيل، ومن عجائب ما أخذته إسنادًا عن أحد طلبته فكتب الشيخ -رحمه الله- أكثرها تسجيلات ثم فُرّغت إما عُرِضت عليه أو على مجموعة من طلبته وكتبوا له بعض الملاحظات، أو طبعت حتى بعد وفاته بعد تفريغها وتحريرها من كبار طلبته واللجنة العلمية في المؤسسة، -مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله-.
تسجيل دروس الشيخ
ومما رواه لي الشيخ عبدالوهاب الزياني -رحمه الله- وكان من تلاميذ الشيخ العثيمين -رحمه الله-، وكان الشيخ يثق فيه ويحبه، قال لي في أثناء زيارته للكويت، كان أحد طلبة الشيخ الكبار الذين سبقونا في الدراسة على الشيخ محبًا للعلم لكن كان عنده مشكلة في أنه لم يكن يقرأ ويكتب، وكان الطلبة يكتبون فاستأذن من الشيخ أن يقوم بتسجيل دروسه -وكانت هذه بداية اهتمام الشيخ بقضية التسجيل-، فأذن له الشيخ في تسجيل الدروس، فكان بعض الطلبة إذا فاته شيء من الدرس كان يرجع إلى هذا التسجيل، ثم بعد ذلك تم تفريغ هذه التسجيلات حتى يستفيد منه الطلبة، ولعل الشيخ في هذا الوقت ما كان يعلم بما فرّغه الطلبة بأنفسهم وأخذوا يتداولونه، فوقع الشيخ على مثل هذا التفريغ فقال: هذا لا يصلح، الكلام في الدرس غير التأليف وغير التحرير، وطلب من أكثر من واحد من طلبته الكبار متابعة هذا التحرير، ورفعه إليه إذا استشكل عليهم شيئ ثم بعد ذلك يُطبع.
خروج كثير من شروح الشيخ
ومن فضل الله على الشيخ أن هذا التسجيل كان سببًا في خروج كثير من شروح الشيخ؛ لأنها لم تكن أصلا تحريرًا، ولم يكن قد كتبها الشيخ، بل هي كانت أشرطة ثم فُرّغت ثم إما عُرِضت على الشيخ في حياته أو عرضت بعد ذلك على اللجنة العلمية في المؤسسة، ولهذا اهتم بالتأليف وتحرير الفتاوى والأجوبة التي تميزت بالتأصيل العلمي الرصين، وصدرت له العشرات من الكتب والرسائل والمحاضرات.
لقاءات وبرامج إذاعية
وكان للشيخ -رحمه الله- لقاءات وبرامج إذاعية ودروس علمية في الإذاعة وفي تفسير القرآن والشروح، وله شروح للحديث الشريف والسيرة النبوية والمتون، والمنظومات في العلوم الشرعية والأمور النحوية كذلك، وإنفاذًا للقواعد والضوابط والتوجيهات التي قررها فضيلته -رحمه الله- لنشر مؤلفاته ورسائله ودروسه ومحاضراته وخطبه وفتاواه ولقاءاته، تقوم مؤسسة الشيخ العثيمين الخيرية - وهي المؤسسة التي أنشئت بعد وفاة الشيخ- تقوم بطباعة كتب الشيخ ورسائله كلها لإخراج آثاره العلمية والعناية بها، ومن يذهب إلى المؤسسة يجد كثيرا من كتب الشيخ ورسائله وفتاواه.
الشيخ والأساليب الحديثة
ومما يذكر من تواصل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- عندما صار النقل الفضائي، كان لجمعية إحياء التراث فرع الجهراء جهاز لنقل الدروس، وقبل وفاة الشيخ أذكر أن الشيخ عبدالعزيز الهده -رحمه الله- ومجموعة من المشايخ أخبروا الشيخ أن هناك جهازا ينقل كلامه مباشرةً، قال: تسمعوني وأسمعكم، قالوا: نعم، قال: سبحان الله!ّ الشيخ فرح بهذا، ولعل بعض كتبه التي درّسها كانت تُنقل إلى بعض البلدان منها كتاب حلية طالب العلم للشيخ بكر أبو زيد درّسه وكان معه في البث مجموعة من الإخوة وطلبة العلم في البحرين، وكان يخصص لهم أسئلة -رحمه الله- تعالى، وهذا يدل على أن الشيخ كان يتابع ويهتم بقضية التدريس حتى عن طريق الأساليب الحديثة إذا كان ليس فيها محاذير شرعية.
أعماله وجهوده الأخرى
إلى جانب تلك الجهود المثمرة في مجالات التدريس والتأليف والإمامة والخطابة والإفتاء والدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى- كان لفضيلة الشيخ أعمال كثيرة موفقة منها:
- كان عضوًا في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، من عام (1407هـ) حتى وفاته.
- كان عضوًا في المجلس العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في العامين الدراسيين (1398-1400هـ).
- كان عضوًا في مجلس كلية الشريعة وأصول الدين، بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في القصيم، ورئيسًا لقسم العقيدة فيها.
- كان عضـوًا في لجنة التوعية في موسـم الحج، من عـام (1392هـ) حتى وفـاته -رحمه الله تعالى-؛ حيث كان يلقي دروسًا ومحاضرات في مكة والمشاعر، ويفتي في المسائل والأحكام الشرعية.
- ترأس جمعية تحفيظ القرآن الكريم الخيرية في عنيزة منذ تأسيسها عام (1405هـ) حتى وفاته.
- ألقى محاضرات عديدةً داخل المملكة العربية السعودية على فئات متنوعة من الناس، كما ألقى محاضرات عبر الهاتف على تجمعات ومراكز إسلامية في جهات مختلفة من العالم.
- كان من علماء المملكة الكبار الذين يجيبون عن أسئلة المستفسرين عن الأحكام والمسائل، عقيدةً وشريعةً وسلوكًا، وذلك عبر البرامج الإذاعية في المملكة العربية السعودية، وأشهرها برنامج (نور على الدرب) من إذاعة القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية.
- شارك في العديد من المؤتمرات التي عقدت في المملكة العربية السعودية.
أعمال عديدة في ميادين الخير
وللشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أعمال عديدة في ميادين الخير وأبواب البر ومجالات الإحسان إلى الناس، والسعي في حوائجهم وكتابة الوثائق والعقود بينهم، وإسداء النصيحة لهم بصدق وإخلاص، وكان -رحمه الله- يستمع إلى شكاوى الناس ويقضي حاجاتهم قدر استطاعته، وقد خصص لهذا العمل الخيري وقتاً محدودا في كل يوم لاستقبال هذه الأمور، وكان يدعم جمعيات البرّ وجمعيات تحفيظ القرآن، بل منّ الله عليه ووفقه لجميع أبواب البر والخير ونفع الناس، فكان شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين بحق مؤسسة خيرية اجتماعية؛ وذلك بفضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء -سبحانه وتعالى-.
صفات الشيخ وأخلاقه
تميز الشيخ -رحمه الله- بالحلم والصبر والجلد والجدية في طلب العلم وتعليمه وتنظيم وقته والحفاظ على كل لحظة من عمره، وكان بعيدا عن التكلف وكان قمة في التواضع، حتى أن طلبته يذكرون أنه كان يشاركهم في بعض الرحلات البرية، والذهاب إلى بعض المزارع، وكان قدوة عملية في العبادة والزهد والورع، وكان صاحب وجه بشوش وروح اجتماعية يخالط الناس ويؤثر فيهم ويدخل السرور إلى قلوبهم، وترى البِشر يتهلل من محياه -رحمه الله تعالى-، والسعادة تشرق من جبينه وهو يلقي دروسه ومحاضراته كأنه فرح بتعليمه للناس، وكان -رحمه الله- عطوفاً مع الشباب يستمع إليهم، ويناقشهم ويمنحهم الوعظ والتوجيه بكل لين وأدب.
تطبيقه للسُنَّة وتثبته من الفتوى
كان من صفات الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- أنه يطبق السنة في جميع أحواله قدر استطاعته، ومن ورعه أنه كان كثير التثبت فيما يُفتي، لا يستعجل في الفتيا بل كان يتثبت مع أنه عضو هيئة كبار العلماء، وحصّل وبلغ من العلم شأناً عظيماً، وكان لا يتسرع في الفتوى قبل أن يظهر له الدليل، فكان إذا أشكل عليه أمر من أمور الفتوى يقول انتظر حتى أتأمل المسألة، وكنا نسمعه يقول مرات في فتاواه: وأنا لم يتبين لي في هذه المسألة شيء، وإذا المسألة كان فيها خلاف يذكر الخلاف ثم يرجح من أقوال أهل العلم - وهذا من الأمانة العلمية- وحاله هذه حال شيخه الشيخ ابن باز كان يذكر الخلاف، وإذا ترجح عنده قول من هذه الأقوال يرجحه، وغير ذلك من العبارات التي توحي بورعه، وحرصه على التحرر الدقيق للمسائل الفقهية.
اهتمامه بالسلوك التربوي لطلابه
كان الشيخ ابن عثيمين- رحمه الله- يهتم بالسلوك التربوي والجانب الوعظي، فقد اعتنى بتوجيه الطلاب وإرشادهم إلى سلوك المنهج الجاد في طلب العلم وتحصيله، لهذا لاحظ طلبة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - سواء في المملكة أم في غير المملكة الذين درسوا عنده- تجد عندهم جدية في قضية التحصيل والتعليم والانتظام، مشكلة كثير من المشايخ وطلبة العلم أنه قد يبدأ ولكن سرعان ما ينتهي ولا ينتظم معه الطلبة للتقطع الذي يحصل، وعمل -رحمه الله- على استقطاب طلبة العلم والصبر على تعليمهم وتحمُّل أسئلتهم المتعددة والاهتمام بأمورهم -رحمه الله تعالى-.
لم تفتر عزيمته في نشر العلم
أصاب المرض شيخنا محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- وقَبِلَ قضاء الله بنفس صابرة راضية محتسبة، وقدّم للناس نموذجًا حيًا صالحًا يُقتدى به بتعامل المؤمن مع المرض المضني، فلم تفتر عزيمته -رحمه الله تعالى- في سبيل نشر العلم، حتى إنه في رحلته العلاجية- في آخر حياته إلى الولايات المتحدة الأمريكية قبل ستة أشهر من وفاته- ألحّ ملك المملكة العربية السعودية آنذاك على الشيخ أن يذهب إلى العلاج فذهب، وفي تلك الرحلة ومن ينظر إلى بعض المقاطع وبعض الدروس نظّم العديد من المحاضرات في المراكز الإسلامية في أمريكا، والتقى بمجموعة من المسلمين من الأمريكان وغيرهم، وأرشدهم وأَمّهُم في صلاة الجمعة -رحمه الله تعالى- مع انشغاله بمرضه وعلاجه، وكان يحمل همّ الأمة وقضاياها في مشارق الأرض ومغاربها -رحمه الله تعالى-.
وقد واصل مسيرته التعليمية والدعوية بعد عودته من رحلة العلاج، فلم يمنعه شدة المرض من الاهتمام بالتوجيه والتدريس في الحرم المكي حتى قبل وفاته بأيام فقد كان حريصًا على التعليم حتى قالوا - كما ذكر ولده وغيره-: إنهم وضعوا له غرفة كاملة فيها أجهزة طبية، وكان الشيخ يلقي الدروس وهو على هذه الأجهزة، إلى آخر رمضان عاشه -رحمه الله-، وكان يلقي الدروس، حتى يكاد صوته يتقطع -رحمه الله تعالى- من شدة المرض، وقد واصل -رحمه الله- مسيرته العلمية والدعوية بعد عودته من رحلته العلمية العلاجية، فلم يمنعه شدة المرض.
مكانة الشيخ ابن عثيمين العلمية
يعد فضيلة الشيخ -رحمه الله تعالى- من الراسخين في العلم الذين وهبهم الله -بمنّه وكرمه- تأصيلًا وملكةً عظيمةً في معرفة الدليل واتباعه، واستنباط الأحكام والفوائد من الكتاب والسنة، وسبر أغوار اللغة العربية معاني وإعرابًا وبلاغةً، ولما تحلى به من صفات العلماء الجليلة، وأخلاقهم الحميدة، والجمع بين العلم والعمل، أحبه الناس محبةً عظيمةً، وقدره الجميع كل التقدير، ورزقه الله القبول لديهم، واطمأنوا لاختياراته الفقهية، وأقبلوا على دروسه وفتاواه وآثاره العلمية، ينهلون من معين علمه، ويستفيدون من نصحه ومواعظه، وقد مُنح جائزة الملك فيصل -رحمه الله تعالى- العالمية لخدمة الإسلام عام (1414هـ).
وفاة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-
توفي الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله تعالى- في مدينة جدة، قبيل مغرب يوم الأربعاء، الخامس عشر من شهر شوال، عام (1421هـ)، وصلي عليه من الغد في المسجد الحرام بعد صلاة العصر، ثم شيعه آلاف المصلين والحشود العظيمة في مشاهد مؤثرة، ودفن في مقبرة العدل بمكة المكرمة، وبعد صلاة الجمعة من اليوم التالي صلي عليه صلاة الغائب في جميع مدن المملكة العربية السعودية.
لاتوجد تعليقات