
محاضرات منتدى تراث الرمضاني الخامس – المحاضرة الأولى – خطوات نحو طريق القدوات
- القدوة ليست مجرد فكرة لكنها مشروع استراتيجي يعمل في الأمة بهدوء كالدماء داخل الجسد لا يشعر بها أحد
- الصحابة كانوا يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء أما نحن فعندنا الصحابة وعندنا الأنبياء فعظمة استمرارية هذه الأمة في وجود العدد الأكبر من القدوات
- إذا قدمت للأمة قدوة فقد قدمت للأمة مشروعا استراتيجيا لا يفنى مع الأيام فكن قدوة أو قدّم قدوة أو اصنع قدوة أو ساهم في بناء قدوة
- النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان مرتبطا ارتباطا عجيبا بقدوته إبراهيم عليه السلام لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ابنه إبراهيم
من أهم عوامل نهضة الأمم وجود القدوات الصالحة، وكثرة النماذج الطيبة، وإحياء تاريخ الأماجد من أبنائها وعلمائها، وتوجيه الشباب والناشئة وأبناء الأمة إلى اختيار أصحاب الهمم العالية واتخاذهم قدوة لهم؛ فإن التربية بالقدوة من أهم وسائلها، وقد ربى الله هذه الأمة على ذلك، ونبهها إلى هذا الأمر العظيم، وأمرها أن تتخذ لها قدوة، وأنها لن تجد أعظم من رسولها -صلوات الله وسلامه عليه- ليكون في مقدمة من تقتدي بهم، قال الله -تعالى-: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب)، ثم يأتي من بعده الصحابة -رضوان الله عليهم-، ثم التابعون وتابعوهم من العلماء الربانيين الذين سارو على دربهم ونهجوا نهجهم.
وحينما نتكلم عن الخطوات نحو الطريق للقدوات، لابد أن نتأمل بداية الدعوة في مكة، فإذا أردنا أن نضع تحليلا واقعيا، فسنقول: إنَّ الجبهة الداخلية قد حدث فيها خلل عظيم في حسابات البشر حين ماتت خديجة -رضي الله عنها- وأبو طالب، الذي كان يحمي النبي - صلى الله عليه وسلم - حماية كاملة؛ فأبو طالب يمثل الجبهة الخارجية، وخديجة -رضي الله عنها- تمثل الجبهة الداخلية، وبالرغم من أن الإسلام دين التفاؤل ودين البِشر أطلق على هذا العام عام الحزن.محنة جديدة
ثم تكتمل المحنة بعد ذهاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، ويعاني أشد المعاناة من هؤلاء القوم، وينزف من قدمه دما ومن قلبه ألما، فينزل ملك الجبال ويسأله في الحديث المعروف، وكأن أسباب الأرض قد أغلقت، ولكن -سبحان الله-! أبواب السماء لها شأن آخر، فعن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها قالتْ لرسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: «هل أتَى عليكَ يومٌ كانَ أشدَّ مِن يومِ أحدٍ؟ فقالَ: لقد لقيتُ مِن قومِكِ، وَكانَ أشدَّ ما لقيتُ منهُم يومَ العقبةِ؛ إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ ياليلَ بنِ عبدِ كلالٍ، فلَم يجبْني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأَنا مَهْمومٌ علَى وجهي، فلَم أستفِقْ إلَّا وأَنا بقرنِ الثَّعالبِ، فرفعتُ رأسي فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ -عليه السلام-، فَناداني فقالَ: يا محمَّدُ، إنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ-، قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وما ردُّوا عليكَ، وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شئتَ فيهِم، قالَ: فَناداني ملَكُ الجبالِ: فسلَّمَ عليَّ، ثمَّ قالَ: يا محمَّدُ: إنَّ اللَّهَ -عزَّوجلَّ- قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وأَنا ملَكُ الجبالِ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ، وبما شئتَ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ فعلتُ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا».القرآن يضع لنا المنهج والمسارات
لقد نزل القرآن الكريم ليضع لنا المنهاج والمسارات للتعامل مع هذه الأزمات، فبعد أن أغلقت أبواب الأرض إذ بأبواب السماء تفتح برحلة الإسراء والمعراج، وينزل القرآن الكريم ليسجل هذه الواقعة في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، قال -تعالى-: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله ليريه من آيات الله، إنه هو الرب -جل وعلا- سميع بصير، سميع يسمع ولا يخفى عليه مسموع فيما يحدث لك يا محمد، بصير فلا يخفى عليه مبصر يرى كل شيء -جل وعلا-، إنها التربية بأسماء الله الحسنى.تربية الرب -جل وعلا- للنبي - صلى الله عليه وسلم -
يا ترى ما التربية التي سيربي بها الرب -جل وعلا- نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرحلة؟ هل سيحدثه عن أصنام مكة؟ أم سيحدثه عما حدث في الطائف؟ أم سيحدثه عن موت خديجة؟ أو موت أبو طالب؟ أو مستقبل الدعوة؟ -سبحانه الله-! تأتي التربية بالقدوة {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} مع أعظم من يمشي على الأرض يقول الرب -جل وعلا- مباشرة: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا}، ثم قدوة أخرى، {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، إنها التربية بالقدوة في القرآن المكي، التربية بالقدوة مع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -. يا محمد مهما عانيت ما عانيت ها هو ذا موسى -عليه السلام- قدوتك وها هو ذا نوح -عليه السلام- قدوتك، هذا هو المسار، مسار القدوات من الأنبياء، من هؤلاء القوم الذين تحملوا كثيرا ما تحملوا.رحِمَ اللهُ أخي موسى
لذا النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الرؤوف الرحيم الراشد المتدبر، يتأمل في هذه النقطة -سبحانه الله-! وكأنه - صلى الله عليه وسلم - أمسك طرف الخيط، وهو الذي كان دائمًا ما يقول: «رحِمَ اللهُ أخي موسى، لقد أُوذِيَ بأكثَرَ مِن هذا فصبَرَ»، وإذ بالقدوة تكون هي المهدئ له والملطف له والمعين له في كل أحداث حياته، كلما أتى موقف ومحنة وبلاء يقول - صلى الله عليه وسلم -: «رحِمَ اللهُ أخي موسى، لقد أُوذِيَ بأكثَرَ مِن هذا فصبَرَ»، رغم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوذي في الله ولم يؤذ أحد، والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - عانى أشد ما عانى من قومه ورغم ذلك صبر، -سبحانه الله-! النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يأخذ القدوة مما حدث في سورة الإسراء في ذكر قدوتين في أول الآيات: نوح -عليه السلام- الذي صبر على قومه 950 سنة ألف سنة إلا خمسين عاما، وموسى -عليه السلام- الذي عانى أشد ما عانى من قومه، -سبحان الله-! حتى الصحابة أمسكوا هذا الخيط، عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: كنا في غزوة بدر نقول كنا أقل من أو نفس العدد الذي حارب مع طالوت من بني اسرائيل!البحث في قصة موسى -عليه السلام- وقومه
إننا نحتاج إلى باحث جاد يبحث في قصة موسى -عليه السلام- وأمته التي وضعت قدوة لأمتنا ويستخرج قيما عظمى من صالحي بني إسرائيل على لسان سيد الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، لقد ذُكر اسم موسى -عليه السلام- في كتاب الله -تعالى- أكثرَ من مائة وثلاثين مرة، بل قال السيوطي -رحمه الله-: «كاد القرآن أن يكون كله لموسى»، وتكررت قصته -عليه السلام- في القرآن كثيرًا ليستلهم منها المؤمنون العبر والعظات، ويتدبروا في أحداثها ومواقفِها، فهي قصة جمعت بين أحوال الظالمين والجبابرة، وأحوال الطغاة والأكاسرة، وبين أحوال المؤمنين الصادقين، وفتنة المبتلَين المظلومين. القرآن الكريم كاد أن يكون لبني إسرائيل بأسره، تلك الأمة التي كانت تتولى إدارة العالم قبلنا، قال -تعالى-: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} -سبحانه الله-! القيادة تنتقل من بني إسرائيل إلى هذه الأمة المباركة بعد أن أخلفوا الله ما وعدوه وكذبوا الرسل وقتلوا الأنبياء، فالرب -جل وعلا- يذكر لنا في القرآن الكريم تاريخ هذه الأمة التي كانت تقود البشرية بالكامل حتى لا نقع فيما وقعوا فيه، إنها التربية بالقدوة ليست للنبي - صلى الله عليه وسلم - فحسب بل هي تربية أيضًا للأمة بأسرها.مشروع قدوة بدأ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -
حقيقةً نحن أمام مشروع قدوة بدأ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - في المدينة وواصلنا إنتاج هذا المشروع في زمان وفاة أبي داود سنه 275 هجرية بالبصرة، مشروع القدوة بدأ بالمدينة وانتهى بالبصرة، مشروع القدوة هو مشروع كبير في الأمة يقول لك أنت لا تموت بموتك، مشروع القدوة يقول لك أنت لا تغلق صحيفة حسناتك بموتك، إنما تستمر بمشروع قدوة وكأن القدوة هي جمرة تشتعل ليشتعل كل من حولها نورا -سبحانه الله-! القدوة هي مشروع الأمة الاستراتيجي.ماذا تصنع القدوة؟
إن للقدوة تأثيرا عظيما في الأمة، ومما تصنعه القدوة في الأمة ما يلي: (1) سد الفجوة بين النظرية والتطبيق نحن ليس عندنا نظريات تذكر في المعامل وتذكر في الغرف المغلقة، لا، نحن عندنا قدوات تسير بين الناس، فتردم القدوة الفجوة بين النظرية والتطبيق، النظرية ليست لها أرجل تمشي بها، والقيمة ليست لها أرجل تمشي بها والمنهج ليس له أرجل يمشي به، ولكن القدوة تقوم بذلك؛ لذا السيدة عائشة -رضي الله عنها- حين نقلت هذا الدين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلت هذه النظرية إلى الواقع الميداني نقلته من الشعور إلى الشروع إلى المشروع، نقلته من التدبر إلى التدبير، نقلته من محراب الصلاة إلى محراب الحياة، نقلته من الصوامع إلى الجوامع إلى المصانع، نقلته إلى الواقع العملي في كلمة موفقة ذكرتها الصديقة بنت الصديق حين سئلت عن خلق النبي فقالت كلمة تكتب بماء العين: «كان خلقه القران»، أي أن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - القدوة كان واقعا عمليا بين الناس. (2) كسر حاجز العمل أمنيات بعض الناس أن يجمع في رمضان ما بين العمل والإنجاز وما بين العبادة ولا يستطيع، القدوة تفعل ذلك، -سبحانه الله-! لما رزق الصحابة بهذه الرحمة وهذه الرأفة على البشرية من أين أتوا بها؟ لما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعامل مع الناس، القدوة تكسر حاجز العمل. (3) القدوة تصنع الأمل في وسط اليأس تجد القدوة صانعة أمل، القدوة تصنع لك الأمل وتغرس الأمل في وسط صحراء اليأس، فالشخصية القدوة تصنع الطمأنينة وتبعث على الأمل؛ لأنها ببساطة تجعلك عقب كل محنة تنطق من قلبك هذه العبارة العامية البسيطة وأنت تبتسم في سعادة جلية: الدنيا باق فيها خير! (4) القدوة تنقل الخبرات في بعض الأحيان يظن الإنسان أن النصوص إذا نزلت إلى الواقع لا تواجه عقبات، وكأنه يقول ليس هناك شيطان! أول ما تقرر تطلب العلم ستواجه تحديات. أول ما تقرر تقوم الليل ستواجه تحديات، أول ما تقرر تربي ابنك ستواجه تحديات، أول ما تقرر تحفظ القرآن ستواجه تحديات، إذًا من الذي سيحل هذه التحديات التي نواجهها؟ القدوة هي التي تحلها، القدوة تقول لك هذا الطريق أنا مررت به من قبل، لذلك فنحن قدوتنا النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو مر في هذا الطريق، طريق الأنبياء، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر الطريق وأنت تسير في هذا الطريق، طريق مليء بالحيات والعقارب والهوام، والطريق مظلم جدًا، لكن خطوات النبي - صلى الله عليه وسلم - مضيئة لذا وأنت تسير يجب عليك أن تتبع خطواته بالضبط، القدوة ناقل عظيم للخبرات، إذا أردت أن تعرف عظمة القدوة فانظر إلى مشروع الأعداء لتحطيم القدوات، انظر إلى أي مدى يسعى الأعداء لتكسير وتحطيم القدوات، وتضخيم أي خطأ يقع فيه القدوة، وقد قالوا قديمًا: أقيلوا لذوي الهيئات عثراتهم، وحتى لا نقتل أسودنا فتأكلنا الكلاب.القدوة قائد ولو لم يخبره أحد
قال -تعالى- {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} -سبحانه الله-! قال قتادة: لكل قوم قائد فالقدوة قائد ولو لم يخبره أحد، هنا كلام لمصطفى صادق الرافعي، يقول -رحمه الله تعالى- (في صفحة 59) من وحي القلم يقول حين تكلم عن القدوة قال: «وكأنه مخلوق خاصة لإثبات أن غير المستطاع مستطاع. يقول: فإن لم يكن هناك المثل الأعلى الذي يعظم بنا ونعظم به، فسد الحس وفسدت الحياة، وكل الأديان الصحيحة والأخلاق الفاضلة إن هي إلا وسائل هذا المثل الأعلى للسمو بالحياة في آمالها وغايتها عن الحياة نفسها في وقائعها ومعانيها، والبلد الذي ليس فيه شيخ من أهل الدين الصحيح والنفس الكاملة والأخلاق الإلهية، هو في الجهل كالبلد الذي ليس فيه كتاب من الكتب ألبتة، وإن كان كل أهله علماء، وإن كان في كل محلة منه مدرسة، وفي كل دار من دوره خزانة كتب، فلا تغني هذه الكتب عن الرجال، فإنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل، ولكن الرجل الكامل صواب ينتهي إلى الروح، وهو في تأثيره على الناس أقوى من العلم؛ إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع وحياتها عاملة مرئية داعية إلى نفسها، ولو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها ووضعوا في ذلك مائة كتاب، ثم رأوا رجلا فاضلا بأصدق معاني الفضيلة وخالطوه وصحبوه، لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة وأجدى على الناس منها وأدل على الفضيلة من مائة كتاب ومن ألف كتاب، ولهذا يرسل الله النبي مع كل كتاب منزل ليعطي الكلمة قوة وجودها، ويخرج الحالة النفسية من المعنى المعقول، وينشئ الفضائل الإنسانية على طريقة النسل من إنسانها الكبير.دائمًا في القدوة متسع
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}، يا الله، دائمًا في القدوة متسع، حين يضيق عليك الواقع وحين تشتد وتعلو الأمواج وحين تنهار جبال الأزمات من حولك، اذهب إلى وادي القدوة هناك واذكر عبدنا داود ذا الأيد ذا القوة في العبادة والملك الذي جمع ما بين حسنة الدنيا والآخرة، لذا النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قلنا يمسك طرف الخيط فيقول: أفضل الصيام صيام أخي داوود، وأفضل القيام قيام أخي داوود، القرآن الكريم يبني أعظم البشر بهذه الطريقة وهي التربية بالقدوة.منهجية لفكرة القدوة
دعونا نضع منهجية سريعا لفكرة القدوة من خلال حروفها، فكلمة تتكون من أربعة أحرف القاف والدال والواو والتاء المربوطة.حرف القاف: قيادة
هذه أول كلمة لصناعة مسارات للقدوة، القدوة قيادة، الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- له كلمة عجيبة جدا في موضوع القدوة، قال: في شرح الشيخ ابن عثيمين قال {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا}، قال أمة بمعنى قدوة، وكان عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يعلق علىأإن إبراهيم -عليه السلام- كان أمة، فيقول إن معاذ كان أمة يعلم الناس الخير، وأنا أنصح بكتاب (جون ماكسويل 21 قانون لا يقبل الجدل في القيادة)، عرّف القيادة تعريفا عجيبا، قال: القيادة تعني التأثير، وقال: إن أعظم قانون في القيادة أن الناس يفعلون ما يرون بأعينهم، لذلك النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كان دائما هو القدوة، حلق فحلق الناس، وهذا ما قالته أم المؤمنين، -رضي الله عنها- القدوة قائد، والقيادة لها ثمن، القيادة لها مسؤوليات، القدوة أفعال، لذلك عتبة بن أبي سفيان - رضي الله عنه - قال: ليكن أول إصلاحك لولدك إصلاحك لنفسك فإن عيونهم معقودة بك، فالحسن عندهم ما صنعت والقبيح عندهم ما تركت، وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في قوله -جل وعلا- {واجعلنا للمتقين إماما} قال: فهذا الدعاء يتضمن ثلاثة أمور، العلم، والتقوى، والتأثير؛ لأن من لم يكن عالمًا لم يكن قدوة، ومن لم يكن متقيا لم يكن قدوة، ومن لم يكن مؤثرا لم يكن قدوة أيضاً، إذًا أول صفة من صفات القائد، التأثير، فالقدوة قائد والقائد قدوة.حرف الدال: ديمومة
حرف الدال دلالة لكلمة مهمة جدا وهي الديمومة، أن تكون دائم العمل، لذلك لما قالوا: {واجعلنا للمتقين إماما} قال النخعي في تفسير الثعالبي لم يطلبوا الرياسة بل أن يكونوا قدوة في الدين فيؤجروا ويؤجر من بعدهم، فالقائد حتى يكون قدوة لابد أن يستمر، لذلك كان السلف يقولون إذا أردت أن تقتدي فلتقتد بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. لماذا؟ من أجل المداومة.حرف الواو: وقت
حرف الواو وقت، فالقدوة تحتاج لوقت، لكي يغرس أحدهم أثر القدوة في الواقع يحتاج جيل عشرين أو خمسة وعشرين سنة! لذلك فالحفاظ على القدوات مشروع استراتيجي لا يقل عن صناعة القدوة نفسها، يبقى لدينا مشروعين صناعة القدوة والحفاظ عليها، أن تعد القدوات في كل جيل، القدوة تحتاج وقتا لكي تبرز {كزرع أخرج شطأه} فالزرع يأخذ وقتا لينبت، -سبحانه الله-! عندما أمر النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بقيام الليل في سورة المزمل {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا} كان بمفرده، الآية التي بعدها، نزلت بعد 13 سنة، جاء فيها {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض} مجموعة، بعد ذلك {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة} يعني هناك عدد يقوم الليل معك لأنك أثرت بالقدوة.قدوة العلماء في آرائهم الفقهية
لأجل ذلك كان العلماء يذكرون القدوة في آرائهم الفقهية لما تكلموا عن حكم الجهر بالبسملة قال أنس - رضي الله عنه -: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يسمعنا قراءه بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى بنا أبو بكر وعمر ولم نسمعها منهما، فاستدلوا بالأمور الفقهية بقدواتهم، قال رجل للإمام الشعبي -رحمه الله تعالى- إن فلانا عالم، قال ما رأيت عليه بهاء العلم، قيل وما بهاؤه؟ قال: السكينة إذا عَلِم لم يُعنف، وإذا عُلّم لم يأنف، القدوات لها مؤشرات معروفة لذلك فالقدوة تحتاج لوقت. روى إبراهيم بن مسلم عن خارجة بن مصعب قال صحبت ابن عون 24 سنة فلم أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة -طبعا كلنا يذنب لكن المقصد طول مدة الصحبة، وعبدالله بن المبارك إمام الأئمة قال: ما رأيت مصليا مثل ابن عون، ويقول غير واحد من أصحاب يونس بن عبيدالله إنه قال: إني لأعرف رجلاً منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون فما يقدر عليه، انظر إلى القدوة. ٤حرف التاء: التميز
حتى تكون قدوة لابد أن تكون متميزا في شيء، عبدالرحمن بن مهدي يقول: ما كان بالعراق أعلم بالسنة من ابن عون، وفي العبادة بكار بن محمد يقول: وكان له سُبع يقرؤه كل ليلة، وإذا لم يقرأْه أتمه بالنهار، وكان يغدو على ناقته إلى الشام، فإذا سار إلى الشام ركب الخيل، وقد كان قد برز روميا فقتله، أي أنه لا يتوقف عن عبادته في كل الأوقات، تريد أن تكون قدوة حتى تؤجر عليك بهذا التميز، مصداقًا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».ركز طاقتك في بؤرة
الكاتب (بيل برايتسون) قال كلمة جميلة، قال: ركز طاقتك في بؤرة، وهذا رزق أنك تركز في شيء، أن تكون صاحب شيء، أن تكون مشغولا بشيء، محمد رشيد رضا -رحمه الله- كان يقول وذلك سنة 1354: إذا يسر الله -تعالى- لكتاب المغني من يطبعه فأنا أموت آمنا على الفقه الإسلامي ألا يموت، وقد تكفل الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بطباعته من ماله الخاص، ومقدمة كتاب المغني وخاتمته من أهم مقدمات كتب الحنابلة في الفقه بل في الفقه الإسلامي عامة، وطبع في 15 مجلدا، إذًا فالتميز يصنع قدوات ولو لم يخبرهم أحد بذلك.المنهجية فيها مسارات للقدوات المميزة
المنهجية فيها مسارات للقدوات المميزة التي سنسمع عنها في بقية هذا الملتقى المميز، كل هؤلاء القدوات سنسقط عليهم هذا الأمر السيدة خديجة -رضي الله عنها-، وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ ابن باز، والشيخ وابن عثيمين، والشيخ الألباني، والشيخ عبدالعزيز الرشيد، -رحمهم الله جميعًا، كل هؤلاء ستجدهم مؤثرين، داوموا على العمل، أخذوا وقتاً، تميزوا، أنا عندما أرى إنتاج الشيخ ابن عثيمين أقول إن هذا الرجل صنع على عين العلم والربانية.ارتباط النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدوته إبراهيم -عليه السلام-
النبي محمد صلى الله عليه كان مرتبط ارتباط عجيب بقدوته إبراهيم -عليه السلام- لدرجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى ابنه إبراهيم، من بر الأب أن يسمي الابن باسم الأب.، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث سمى عبدالله، لكن في الإسلام سمى إبراهيم، النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لما قال له أحدهم يا خير البرية قال له: ذاك إبراهيم، والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قال إن أشبه الناس بإبراهيم صاحبكم، وقال الله في القرآن الكريم «إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوك وهذا النبي».القدوة ليست مجرد فكرة
القدوة تقابل القدوة، القدوة ليست مجرد فكرة، لكنها مشروع استراتيجي يعمل في الأمة بهدوء، كالدماء داخل الجسد لا يشعر بها أحد، كان التتر يدمرون الأمة ويقتلون رجالها ويسبون نساءها ويدمرون كل شيء في معالمها، وكانت هناك مشاريع لا يعلم بها أحد، الملك الصالح في مصر يبني رجالا سيتصدون لهم بعد ذلك، فقدم للأمة قطز، وقدم للأمة بيبرس، القدوة هي المشاريع التي لا تتأثر بالمؤامرات، قدوة تبنى بين الناس في تربة الخمول وتربة الحب والخوف والرجاء، ثم يتفاجأ بها الأعداء، شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، كما قال أحدهم: لقد غرست في الأمة غرسا لن يخلعه إلا الدجال، وهكذا القدوات بيننا، إذا قدمت للأمة قدوة فقد قدمت للأمة مشروعا استراتيجيا لا يفنى ولا يبيد مع الأيام، كن قدوة أو قدّم قدوة أو اصنع قدوة أو ساهم في بناء قدوة.القدوة مشروع الأمة الاستراتيجي
القدوة مشروع الأمه الاستراتيجي، قال الله -تعالى-: {واجعلنا للمتقين إماما} يُقتدى بنا لنؤجر، نقتدي بمن قبلنا فيؤجرون ويَقتدي بنا مَن بعدنا فنؤجر، -سبحانه الله-! أذكر أثرا نفيسا ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، هذا الأثر استغرق 275 سنة لكي تعرف الأمة كيف كانت تتغير، وكيف كانت تسير الأحداث داخل الأمة، مشروع الأمة الاستراتيجي، مشروع الأمة الكبير، هناك نص يحتاج إلى دراسة، يحتاج إلى بحث، قال الذهبي -رحمه الله تعالى-: «تفقه أَبُو دَاوُد بِأَحْمَد بن حنبل ولازمه مُدَّة، وَكَانَ يُشَبَّهُ بِهِ كَمَا كَانَ أَحْمد يشبه بشيخه وَكِيع وَكَانَ وَكِيع يشبه بشيخه سُفْيَان وَكَانَ سُفْيَان يشبه بشيخه مَنْصُور وَكَانَ مَنْصُور يشبه بشيخه إِبْرَاهِيم وَكَانَ إِبْرَاهِيم يشبه بشيخه عَلْقَمَة وَكَانَ عَلْقَمَة يشبه بشيخه عبدالله بن مَسْعُود - رضي الله عنه -، وروى أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة أَنه كَانَ يشبه عبدالله بن مَسْعُود بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هَدْيه ودله «انتهى من «طبقات الشافعية» (2/ 296).قدوة الصحابة
الصحابة لم يكن لهم صحابة يقتدون بهم سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله من الأنبياء فكانوا هم الصحابة أما نحن فعندنا الصحابة وعندنا الأنبياء فعظمت استمراريه هذه الأمة في وجود العدد الأكبر من القدوات، الرافعي يقول: أن العدوى هي سر القدوة الخفي، قالوا: من عجيب حكمة الله أن الأمراض الشديدة تعمل بالعدوى فيمن قاربها أو لمسها، وأما القدوة الشديدة تعمل كذلك بالعدوى فيمن اتصل بها أو بصاحبها، لهذا يخلق الله الصالحين ويجعل التقوى فيهم إصابة كإصابة المرض تصرف عنه شهوات الدنيا كما يصرف المرض عنها، وتكسر النفس كما يكسر هذا ذاك، وإذا عدوا الناس هذا الرجل الذي عداهم بقوته العجيبة فقلما يصلحون للقوة، وكأن أهل القدوة هم أهل العدوى الطيبة بين الناس، أهل العدوى المميزة بين الناس.
لاتوجد تعليقات