
كرر انتقاداته لمصر والسعودية والسودان ودافع عن الشواذ والبهائيين والفرق المشبوهة- تقرير الحريات الدينية الأمريكي عصا واشنطن لابتزاز العالم
لا يجد أي مراقب فارقًا ذا قيمة بين التقرير الأول الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية للحريات الدينية عام 1998م وبين التقرير الأخير الذي أعلنت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، فمن يلاحظ قوائم الدول الموضوعة في القائمة السوداء يجدها لا تتغير فتضم كوريا الشمالية والصين وميانمار والسودان وكوبا وإيران وإريتريا وأوزبكستان وباكستان وغيرها؛ حيث دائمًا ما توجه واشنطن انتقادات لاذعة لسجل هذه الدول في مجال الحريات الدينية وتشجب عدم احترامها لحقوق الأقليات وتبني بعضها موقفًا صارمًا من بعض الطوائف المختلفة مع الأغلبية الساحقة داخل هذه البلدان في مجال العقيدة الدينية.
وكالعادة لم يختلف تقرير عام 2009م كثيرًا عن التقارير السابقة حيث كرر هذه الانتقادات للدول نفسها، بل قد يكون أضاف إليها بعض الدول التي ينسجم مسارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي مع النسق الأمريكي ولا يستجيب للمطالب الأمريكية فيما يخص وضع مؤسساتها الدينية ومناهجها التعليمية.
وقد حاز عدد من الدول العربية نصيبا وافرا من الانتقادات وعلى رأسها مصر والمملكة العربية السعودية والسودان؛ حيث وجه التقرير انتقادات لاذعة لسجل مصر في هذا المجال منها وجود تمييز فردي وجماعي ضد الأقباط والبهائيين وتلكؤ الدولة في إصدار قانون بناء موحد لدور العبادة وحرمان هذه الفئات من الترقي لمناصب قيادية في جميع مؤسسات الدولة، فضلاً عن رصده للمضايقات الشديدة التي يتعرض لها الشيعة والقرآنيون والمتحولون عن الإسلام وأبرزها رفض منحهم وثائق هوية وإصدار شهادات زواج لهم وغيرها.
سيناريو مكرر
ولعل ما طال مصر من انتقادات تكرر بوضوح مع المملكة العربية السعودية؛ حيث حمل التقرير على السعودية تبنيها نهجًا إسلاميًا وصفه بالمتشدد ورعايتها للتعليم الديني وإنفاقها مليارات الدولارات عليه في وقت لا يسهم هذا النوع من التعليم إلا في تخريج أصحاب رؤى متطرفة، فضلاً عن تكرار المزاعم المستمرة باضطهاد الأقلية الشيعية في المملكة وإقصائها عن المشاركة في الحياة العامة والمناصب السياسية.
وإذا كان التقرير قد وجه انتقادات لسجل بعض الدول العربية والآسيوية في مجال الحريات الدينية فإن اللافت في نسخة هذا العام هو توجيه انتقادات لاذعة لعدد من الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا وسويسرا؛ حيث اختص الأولى بتورطها في ممارسات تمييزية ضد الجاليات المسلمة المقيمة بها وعلى رأسها فرضها حظرًا على ارتداء النقاب في المؤسسات العامة وتغريم من تخالف هذا الحظر بمبالغ كبيرة وهو ما يخالف أبسط مبادئ الحريات الدينية.
ووجه التقرير انتقادات لسويسرا على خلفية إصدار برلمانها قانونًا يحظر بناء مآذن فوق المساجد، معتبرًا أن إقرار هذا القانون تم في أجواء اتسمت بالطابع اليميني المعادي للجالية المسلمة والوجود الأمني داخل الاتحاد السويسري بشكل عام.
الحرب على الإرهاب
وحمل التقرير عودة توجيه الانتقادات لدول مثل باكستان وأوزبكستان وتركمانستان رغم أنها كانت بمنأى عن الانتقادات طوال السنوات السابقة في مجال الحريات الدينية، وهو ما يشير إلى أن توتر علاقات واشنطن السياسية مع هذه البلدان وتراجع معدلات دعمها لما يطلق عليه الحرب على الإرهاب حسب وجهة النظر الأمريكية قد أعاد هذه الدول للقائمة السوداء وهو ما يؤكد أن المصالح الأمريكية تلعب الدور الأهم في صياغة هذا التقرير وليس أي دوافع أو غيرة على الحرية الدينية.
غير أن التقرير حمل جديدًا من جهة محاولة التدخل في المناهج التعليمية ولاسيما في الدول الإسلامية، حيث خصها بضرورة إدخـــال تعديـــلات شـــــديدة على مناهجهــا
التعليمية تضفي نوعا من الحرية على الممارسات الدينية وتكرس حرية كل فرد في اختيار عقيدته وهو ما اعتبره مراقبون مسعى لإزالة أي نصوص تعليمية تحرم الردة عن الإسلام، ولفتح الباب على مصراعيه للخروج عن الدين الحنيف، بل العمل على تحويل العقيدة الدينية للمسلمين إلى مسخ مشوه.
افتقاد المصداقية
وليس أدل على افتقاد هذا التقرير لأي مصداقية من تجاهله مثلاً لمظاهر التمييز والتوسع في دائرة الاشتباه التي يعانيها مسلمو الولايات المتحدة الأمريكية وإحالة العديد منهم للمحاكمة لمجرد الاشتباه في احتمال تورطهم في أعمال عنف، فضلاً عن غضه الطرف عن التجاوزات التي حدثت في معسكر اعتقال جوانتانامو ومن قبله جميع أحداث العنف الطائفي في العراق، بل إن هناك قضية مهمة جدًا تتعلق بحرية الأقباط في اعتناق الإسلام في مصر وقيام الكنيسة الأرثوذكسية باحتجاز عشرات من اللائي اعتنقن الإسلام مثل وفاء قسطنطين وماري عبد الله وكاميليا شحاتة مما يؤكد أن واشنطن غير معنية من قريب أو بعيد بقضية الحرية الدينية وإنما كل همها استخدام الحرية الدينية كحصان طروادة لابتزاز دول العالم وإجبارها على تقديم تنازلات في ملفات عديدة دون أن تضع في اعتبارها مدى مخالفة هذه التنازلات لاعتبارات الأمن القومي أو المنظومة القيمية لهذه البلدان.
فئات مشبوهة
بل إن واشنطن دائمًا ما تركز في تقريرها على ضرورة الحفاظ على حرية المثليين جنسيًا والشواذ والأقليات والمرتدين عن الدين والفئات المنبوذة في المجتمعات الإسلامية مثل منكري السنة والبهائيين وأصحاب الفرق الضالة والمضلة وذلك لضمان ولاء هذه الفئات لها والعمل كطابور خامس لها في هذه البلدان دون أن تضع في اعتبارها أن الدفاع عن هؤلاء ما هو إلا مسعى لتخريب عقائد وتذويب هوية من يعتنقون عقائد مخالفة.
والأدهى من ذلك أن التقرير لم يلتفت إلى سيطرة رافضي نوع التمييز الديني داخل الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الماضية وهو التمييز الذي طال الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي شنت عليه ومازالت تشن حملات انتقامية بسبب جذوره الإسلامية رغم إعلان الرجل مرارًا وتكرارًا أنه ليس مسلمًا بل استحضار صور ظهرت له في الحملة الانتخابية وهو يرتدي الجلباب الإسلامي بل ظهور استطلاع رأي لمنتسبي الحزب الجمهوري الأمريكي يؤكدون فيه أن أوباما مسلم، وكان على التقرير أن يطرح هذا الأمر للنقاش ليؤكد سيطرة النزعات العنصرية والتمييز الديني على المجتمع الأمريكي بدلاً من محاولة إلصاق ذلك بالآخرين.
طابع إقصائي
ويؤكد هذا التجاهل الطابع الإقصائي للتقرير وعدم التزامه بالمعايير المهنية والموضوعية وسيطرة النزعات والمصالح السياسية على صياغته واعتماده على مصادر غير موثوق بها داخل البلدان الأخرى وهي عبارة عن جمعيات أهلية ممولة أمريكيًا ولا ترى إلا بالعين الأمريكية.
ولم يقترب التقرير كذلك من الانتهاكات التي تمارسها إسرائيل ضد المقدسات الإسلامية في فلسطين وسعيها لتهويد المسجد الأقصى ومدينة القدس وتطهير المدينة المقدسة من أبنائها سواء المسلمون أم النصارى والعمل على الاستيلاء على مساجد إسلامية وضمها للتراث الديني اليهودي وكأن معدي التقرير يدركون مدى حساسية انتقاد إسرائيل من جانب إدارة الرئيس أوباما التي تواجه حملة شرسة من جانب اللوبي الصهيوني بسبب ضغوطها على حكومة نتنياهو لوقف الاستيطان.
فارغ المضمون
ولا شك أن غياب المعايير الموضوعية وسيطرة المصالح على التقرير تفرّغه من أي مضمون مما يجعل الجميع ينظر إليه على أنه أداة لابتزاز دول العالم وهو ما يوافق عليه السفير د. رضا أحمد حسن مساعد وزير الخارجية المصري السابق لشؤون الأمريكتين، حيث يرى أن هذا التقرير قد تحول لعصا سياسية تستخدمها واشنطن للحفاظ على مصالحها وابتزاز دول العالم لتسير بالكامل في الفلك الأمريكي.
ويرى د. رضا أن التقرير لا يصاغ بشكل دقيق ولا يحترم الخصوصية الدينية والثقافية لدول العالم ولا يرعى الاختلافات، فمثلاً لا ينبغي أن ينظر معدو التقرير إلى قضايا الشواذ أو المثليين جنسيًا طبقًا لوجهة النظر الأمريكية بل عليهم مراعاة خصوصية كل مجتمع، لافتًا إلى أن هدف التقرير يتمثل في صبغ كل المجتمعات خصوصًا الإسلامية بالصبغة الأمريكية منتقدّا لجوء معدي التقرير إلى ليّ عنق الحقيقة ومحاولة إجبار دول العالم على القبول بالمفهوم الأمريكي للحرية الدينية.
واعتبر د. رضا أن هذا التقرير قد فقد أي مصداقية خلال السنوات الأخيرة لما يتميز به من طابع عنصري وتغاضيه عن تجاوزات واشنطن وتل أبيب وسجلهما في مجال الحريات الدينية مع التركيز فقط على الدول التي تسود علاقاتها بواشنطن بمحطات توتر.
وأشار إلى أن هدف واشنطن من هذا التقرير هو خطب ود الأقليات وتحويلها إلى شوكة في ظهر دول العالم معتبرًا أن توجيه التقرير الانتقادات لدول أوروبية لا يزيد على كونه محاولة أمريكية لإعطاء شيء من المصداقية للتقرير في صفوف المسلمين رغم أن المتاعب التي تواجهها الجاليات المسلمة في أوروبا لا تقل كثيرًا عن نظيرتها في الولايات المتحدة.
مواجهة صارمة
وفي الإطار نفسه يعتقد د. نصر فريد واصل المفتي السابق لجمهورية مصر العربية أن هدف التقرير الأول هو الدفاع وإبراز قضايا الفرق المشبوهة والتي تعد خنجرا مسموما في خاصرة الإسلام مثل البهائيين والقاديانيين وغيرهم لاستخدامها أدوات في الحرب على الإسلام، معتبرًا أن توجيه التقرير الانتقادات للدول الإسلامية يقف وراءه اعتبارات سياسية والسعي لتحفيز هذه الدول على تأييد وجهة النظر الأمريكية فيما يطلق عليه الحرب على الإرهاب.
ويتساءل مفتي الديار المصرية السابق عن تجاهل التقرير لقيام إسرائيل بالاعتداء على المؤسسات الإسلامية في القدس والسعي لتهويدها وطرد الأئمة المسلمين منها وعدم إبرازه مقتل الصيدلانية المصرية مروة الشربيني في ألمانيا لأسباب دينية، مشيرًا إلى مدى غياب الموضوعية والنظرة المنصفة عن اللجنة المشرفة عليه واستخدامه كأداة للحفاظ على مصالح واشنطن وهيمنتها على العالم.
وطالب د. واصل الدول الإسلامية بمقاومة هذا التقرير وعدم الاستجابة لمطالبه والتمسك بهويتها الإسلامية كأمر حاكم لما تدعيه واشنطن من حريات دينية لا هدف منها إلا الكيد للإسلام وتمييع عقيدة المسلمين.
لاتوجد تعليقات