
قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين – القاعدة الأولى: البدء بالدعوة إلى التوحيد
إذا تأملنا قصص المرسلين التي وردت في القرآن الكريم، وما حدث لهم مع أممهم، نجد أنهم اتفقوا جميعًا على دعوة واحدة، هي الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب الشرك، وإن اختلفت شرائعهم، بل إن مسألة الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك ووسائله هي القضية الأولى التي جاء ذكرها في القرآن الكريم بين الرسل وأممهم، قال الله -تعالى- مخبرًا عما أرسل به الرسل جميعهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، وقال -تعالى-: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ}(النحل: 2).
الأصل في دعوة المرسلين
فجميع الرسل كان أول وأهم ما دعوا إليه هو التوحيد، توحيد الله بالعبادة وتقواه وطاعته وطاعة رسله. وكما ذكر الله عنهم ذلك على سبيل التعميم، فقد ذكر ذلك عن بعضهم على التفصيل: فنوح -عليه السلام- قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59)، كذلك هود -عليه السلام- قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 65)، وصالح -عليه السلام- قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف:73)، وإبراهيم -عليه السلام- قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} (العنكبوت: 16)، فالدعوة إلى التوحيد، والتحذير من الشرك، وصحة العقيدة وسلامتها هم الأصل الأول في دعوة المرسلين، من لدن نوح إلى محمد -عليهم السلام- وهذا هو الغاية الأولى التي بها تصلح كل شؤون الدنيا والدين، فإذا صحت العقيدة أذعن الناس لله وحده، وأطاعوا رسله، واستقاموا على شرعه على هدى وبصيرة، ومن ثم يصلح كل شيء من أمورهم الدينية والدنيوية.
أعظم الفضائل
أعظم الفضائل توحيد الله -تعالى- وتقواه، وأعظم المفاسد الشرك بالله، وهو الظلم العظيم. فكان ذلك أول ما أرسل الله به الرسل، وهكذا كل دعوة لا تقوم على هذا الأساس - في أي زمان وأي مكان - فإنها دعوة قاصرة وناقصة، ويخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معاً؛ لأن هذا أصل عظيم من أصول الدين، متى غفلت عنه الأمم، وقعت في كارثة الشرك والابتداع، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك.
معالم التوحيد في دعوة نوح - عليه السلام-
بعث الله -تعالى- نوحًا -عليه السلام- يدعو قومه إلى إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، وألا يعبدوا معه صنمًا ولا تمثالاً ولا طاغوتًا، وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، وبدأ سيدنا نوح -عليه السلام- بالتوحيد: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأعراف: 59)، فبلغ نبي الله نوح -عليه السلام- رسالة ربه -سبحانه وتعالى- على هدى وبصيرة، ودعا الناس إلى الدين الحق، وقد سلك -عليه السلام- منهجًا قويمًا في دعوته، والمتدبر في الآية يلحظ أنها اشتملت على ثلاثة أصول:
- الأول: أنه -عليه السلام- أمر قومه بعبادة الله وحده لا شريك له: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، اعبدوا الله الذي لا معبود بحق غيره، «وتذللوا له بالطاعة، واخضعوا له بالاستكانة، واتركوا عبادة ما سواه من الأنداد، والآلهة، فإنه ليس لكم معبود يستوجب عليكم العبادةَ غيرُه».
- الثاني: أنه -عليه السلام- أبطل ما كانوا عليه من الشرك، وعبادة الأصنام من دون الله -تعالى-، وأقر بالتوحيد، فقال لهم: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}. الثالث: خوَّفهم نبي الله نوح -عليه السلام- بعذاب يوم القيامة، إن لم يفعلوا ما يأمرهم به من توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} (هود: 26).
وهكذا تتحدد الأصول الثلاثة لدعوة نبي الله نوح -عليه السلام- بأنه: لا إله إلا الله، وما دام لا إله غيره، فلا يعبد سواه، وعبادته تكون بطاعة ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، فإن لم نفعل فهناك عذاب عظيم ينتظرنا.
معالم التوحيد في دعوة إبراهيم - عليه السلام -
وإبراهيم -عليه السلام- كان المثل والقدوة لكل من أتى بعده، كما أخبر ربنا -سبحانه وتعالى-:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} (الممتحنة:4)؛ إذ كانت دعوته في بواكيرها لأبيه ووصيته بالتوحيد لبنيه، وهذا ما حكاه القرآن في سيرة إبراهيم -عليه السلام-، قال -تعالى-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} (41)؛ {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (مريم:41ـ42).
وكما كانت دعوته لأبيه، كانت نصيحته لبنيه بالتمسك بعقيدة التوحيد، وأن يكونوا على الإسلام، قال -تعالى-: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة:132). فهذه وصيته لبنيه وهي التمسك بالدين، أى دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان، ولا دين عنده غيره، (فَلا تَمُوتُنَّ) أى لا يصادفكم الموت (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أى مخلصون بالتوحيد محسنون بربكم الظن، وهذا نهى عن الموت في الظاهر وفي الحقيقة عن ترك الإسلام؛ لأن الموت ليس في أيديهم.
وإن هذا المشهد بين إبراهيم -عليه السلام- وبنيه لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير، فما القضية التي تشغل باله؟ وما الشاغل الذي يطغى على خاطره؟ وما الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ وما التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه، ويحرص على سلامة وصولها إليهم؟ إنها العقيدة، وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل الذي اهتم به إبراهيم -عليه السلام-، ووصى به بنيه.
معالم التوحيد في دعوة عيسى - عليه السلام -
كما كان توحيد الله -عزَّ وجل- غاية الأنبياء العظمى، كذلك كان الركيزة الأولى في دعوة عيسى -عليه السلام-، وقد نصَّ القرآن الكريم على أن عقيدة المسيح -عليه السلام- هي التوحيد الكامل، فلا يعبد إلا الله، فالله خالق السماء والأرض وما بينهما فلا شريك له، هذا ما أعلنه المسيح منذ اللحظة الأولى لولادته، وهي أول ما دعا إليه قومه، فلم يشذَّ عيسى -عليه السلام- عن القاعدة العامة التي جاء بها الأنبياء ومن أجلها، فقد دعا قومه إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وكان ذلك أول ما نطق به وهو في المهد قال -تعالى-: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (مريم:30).
أمرهم بالتوحيد الخالص ودعاهم إليه
وفي هذا القول من عيسى إشارة واضحة إلى أن الذات الوحيدة التي تستحق العبادة هي ذات الله -تعالى- وإلا ما اعترف بعبوديته له، ولما كان بعضهم قد يتوهم من قول عيسى -عليه السلام- أن هذا الإله مخصوص له لا لأحد سواه، نفى القرآن ذلك وأخبر عمَّا جاء على لسانه قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (مريم: 36)، كما أكّد القرآن الكريم أن عيسى -عليه السلام- كان دائم القول والتكرار لهذه الحقيقة بين قومه والتذكير بها فقال -تعالى-: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المائدة: 72)، ويذكر الشيخ رشيد رضا -عند تفسيره لهذه الآية- أن المسيح -عليه السلام- أمرهم بالتوحيد الخالص ودعاهم إليه، وحذَّر من الوقوع في الشرك، وتوعَّدهم عليه ببيان أن الحال والشأن الثابت عند الله -تعالى- هو أن كل من يشرك بالله شيئاً من ملك أو بشر أو كوكب، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك، فإن الله يحرِّم عليه الجنة في الآخرة، فلا يكون له مأوى ولا ملجأ يأوي إليه إلا النار.
معالم التوحيد في دعوة هود -عليه السلام-
وهذا نبي الله هود -عليه السلام- بعد أن دعا قومه إلى إفراد الله -تعالى- بالعبودية وإخلاص الدين له قائلا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}, وترك ما كان يعبد آباؤهم من الآلهة الباطلة، فقالوا له متعجبين من دعوته مخبرين له أنه من الجنون أن يطيعوه: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، فقال لهم -عليه السلام-: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} (الأعراف:71)، وقال لهم أيضا -عليه السلام- معلنا براءته من الشرك: {إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ} (هود).
معالم التوحيد في دعوة نبينا- صلى الله عليه وسلم -
إذا تأملنا القرآن الكريم، وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة، نصل إلى حقيقة واضحة كل الوضوح. وهي أن غالب آيات القرآن الكريم جاءت في تقرير عقيدة التوحيد، توحيد الإلوهية والربوبية والأسماء والصفات، والدعوة إلى إخلاص العبادة والدين لله وحده لا شريك له، وتثبيت أصول الاعتقاد (الإيمان والإسلام)، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى غالب وقته - بعد النبوة - في تقرير الاعتقاد والدعوة إلى توحيد الله -تعالى- بالعبادة والطاعة، وهذا هو مقتضى (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فالدعوة إلى العقيدة تأصيلاً وتصحيحاً شملت الجزء الأكبر من جهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووقته في عهد النبوة، فكما اهتم - صلى الله عليه وسلم - بإصلاح الدين، كان يعمل على إصلاح دنيا الناس، إنما كان ذلك كله في مرتبة دون الاهتمام بأمر التوحيد وإخلاص الدين لله وحده، وهذا ما يجهله أو يتجاهله المنازع في هذه المسألة.
تقرير العقيدة وأصولها
وقد ذكر العلماء أن القرآن: ثلثه أحكام، وثلثه أخبار، وثلثه توحيد. وهذا ما فسروا به قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن»، فإن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) اشتملت على أعظم التوحيد والتنزيه لله -تعالى. وآيات الأحكام لا تخلو من ذكر للعقيدة وأصول الدين، وذلك من خلال ذكر أسماء الله وصفاته، وطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذكر حكم التشريع... ونحو ذلك، وكذلك آيات الأخبار والقصص أغلبها في الإيمان والاعتقاد، وذلك من خلال أخبار المغيبات والوعيد واليوم الآخر، ونحو ذلك.
لاتوجد تعليقات