
دروس من قصص القرآن الكريم – قصة صالح عليه السلام
- دب داء الشرك في ثمود قبل بعثة نبي الله صالح فعبدوا الأصنام وزادهم ما هم فيه من القوة والرخاء طغيانًا في طبعهم
- حكم الراضي كالفاعل في أحكام الآخرة فليحذر المسلم أن يرضى بما لا يُرضي الله من الأعمال والأقوال
مما تكرر ذكره في القرآن مفصلاً ومختصرًا من قصص الأنبياء قصة نبي الله صالحٍ -عليه السلام- مع قومه ثمود، قال -تعالى-: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الأعراف: 73)، وقد كانت ثمود تسكن الحجر بين الحجاز وتبوك، وهي الآن تعرف بمدائن صالح، وقد كانوا كقوم عاد في قوة أجسامهم، وطول أعمارهم، فكانوا يبنون في السهول قصوراً وينحتون من الجبال بيوتاً، قال -تعالى-: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين} (الأعراف: 74).
النبي صالح يدعو إلى التوحيد
لقد دب في ثمود داء الشرك، قبل بعثة نبي الله صالح لهم، فعبدوا الأصنام، وزادهم ما هم فيه من القوة والرخاء والخصب طغيانًا في طبعهم، وكان صالح -عليه السلام- سيدًا من ساداتهم، حتى إذا بعثه الله لهم، فجهر بالتوحيد، وقام يذكرهم ويدعوهم فاتهموه بالكذب وبأنه مسحور: {قال يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غيره هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (هود: 61).عاد وثمود
لقد كان هناك تشابه شديد بين دعوتي النبيين هودٍ وصالح -عليهما السلام-، وذلك لتشابه أحوال القومين، فقد كان كلاهما من العرب، إلا أن هؤلاء كانوا في الحجر، والآخرون كانوا بالأحقاف، وبينهما زمن بعيد.طغيان الكفر وجحوده
لقد رد قوم ثمود على صالح -عليه السلام- دعوته، وزهدوا فيه: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (هود: 62)، ثم إنهم طلبوا منه دليلاً ماديا على صدقه، طالبوه -عليه السلام- بمعجزة، مع أنهم اتهموه بأنه كاذب ومسحور، وهذا تناقض منهم، لكن صالحاً -عليه السلام- دعا الله أن يجيبهم إلى ما طلبوا {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)} (الشعراء، آيات: 153: 156)، وقال لهم: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الأعراف: 73)، وحاصل ذلك أنهم طلبوا منه آية بعينها، فقيل إنهم هم الذين طلبوا الناقة على التعيين؛ كون النوق أنفس أموال العرب، وحددوا له مكان خروجها، فأشاروا إلى صخرة، وقالوا له أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة صفتها كذا وكذا، وعددوا له أوصافًا على سبيل السخرية والتعجيز، فقام صالح فصلى ودعا الله -تعالى- فخرجت لهم الناقة على الصفة التي طلبوا، فآمن به فريق منهم، ولكن ظلت الأكثرية على الشك والتردد، {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} (النمل: 45)، وقد حذرهم من التعرض للناقة بسوء.مكان خروج الناقة
روى ابن جرير في تفسيره قال: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما أهلك الله عادًا وتقضَّى أمرها، عَمِرتْ ثمود بعدَها واستُخْلِفوا في الأرض، فنزلوا فيها وانتشروا، ثم عتوا على الله، فلما ظهر فسادهم وعبدوا غيرَ الله، بعث إليهم صالحًا وكانوا قومًا عَربًا، وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم موضعًا رسولا غلامًا شابًا، فدعاهم إلى الله، حتى شَمِط وكبر، لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعَفون، فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء، وأكثر لهم التحذير، وخوَّفهم من الله العذاب والنقمة، سألوه أن يُريهم آية تكون مِصداقًا لما يقول فيما يدعوهم إليه، فقال لهم: أيَّ آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عِيدِنا هذا، وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم وما يعبدون من دون الله، في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندْعُو آلهتنا، فإن استجيب لك اتَّبعناك، وإن استجيب لنا اتَّبعتنا. فقال لهم صالح: نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك، وخرج صالح معهم إلى الله فدعَوْا أوثانهم وسألوها ألا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به، ثم قال له جندع بن عمرو بن جواس بن عمرو بن الدميل، وكان يومئذٍ سيّد ثمود وعظيمَهم: يا صالح، أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحِجْر، يقال لها الكاثِبة ناقةً مخترجة جَوْفاء وَبْرَاء و»المخترجة»، ما شاكلت البُخْت من الإبل، ـ أي أنها على شكل الإبل ولكنها أعظم منها في الخلق ـ، وقالت ثمود لصالح مثل ما قال جندع بن عمرو فإن فعلت آمنَّا بك وصَدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحقّ، وأخذ عليهم صالح مواثيقهم: لئن فعلتُ وفَعَل الله لتصدِّقُنِّي ولتؤمنُنَّ بي، قالوا: نعم، فأعطوه على ذلك عهودَهم؛ فدعا صالح ربَّه بأن يخرجَها لهم من تلك الهَضْبة، كما وصفوا.ائتنا بآية إن كنت من الصادقين
وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عن أبي الطفيل -رضي الله عنه- قال : قالت ثمود لصالح ائتنا بآية إن كنت من الصادقين: قال: فقال لهم صالح، اخرجوا إلى هضبة من الأرض فخرجوا، فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل، ثم إنها تفرجت فخرجت من وسطها الناقة فقال لهم صالح: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ إلى قوله لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- كما عند القرطبي وغيره: قالوا لو كنت صادقًا فادع الله يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عشراء فتضع ونحن ننظر، وترد هذا الماء فتشرب وتغدو علينا بمثله لبنا، فدعا الله وفعل الله ذلك. إن هذه الأخبار يعضد بعضها بعضًا، وفيها ما هو مروي عن الصحابي أبي الطفيل وبعضها عن ابن عباس -رضي الله عنهم- أجمعين، ولعل هذا ما جعل المفسرين والمؤرخين يكادون يطبقون على أن الناقة خرجت من صخرة، فقد أنكر بعضهم ذلك، لكن الحقيقة أنه أمر يتوافق مع منهجية المعجزة في بعثة النبيين؛ إذ المعجزة تأتي غالبًا من جنس ما برع فيه الناس زمن النبوة، وقد كان قوم صالح -عليه السلام- بارعين في نحت الصخور فأخرج لهم من الصخر كائناً حيا من دم ولحم لا أب له ولا أم، على سبيل الإعجاز، كأنها نحتت من توها من ذلك الصخر.الدروس المستفادة
في قصة صالح -عليه السلام- مع قومه ثمود، تبرز لنا عديد من الدروس من أهمها: (1) طلب المعجزات نوع من التسويف: فإن الكافرين حين يطلبون المعجزات لا يطلبونها للتثبت والهداية، ولكن للتسويف واللجاجة والمماحكة، فمهما تأتهم به من الآيات فإنهم سيظلون على ما هم عليه، لن يؤمن منهم إلا القليل، فهذا درس مهم من الدروس ولذلك قال -تعالى- لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَما مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأولون وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلا تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59)، روى الطبري في سبب نزول هذه الآية، والحديث عند النسائي أيضًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سأل أهل مكة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال، فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم، قال: لا بل أستأن بهم، فأنزل الله الآية. (2) الاستجابة قد يتبعها الإهلاك: فإن الله إذا استجاب للكافرين وأخرج لهم آية على نحو ما طلبوا، فإنهم لن يمهلوا، فإما أن يؤمنوا أو يعذبوا. (3) الرضا بالمعصية معصية: فحكم الراضي كالفاعل في أحكام الآخرة، فليحذر المسلم أن يرضى بما لا يُرضي الله من الأعمال والأقوال، فيكون عند الله مثلهم، ويحمل من الوزر مثل ما يحملون وإن لم يعمل بعملهم، فقد كان هذا هو حال أكثر الهالكين من قوم ثمود، فإنهم لم يباشروا قتل الناقة، ولكنهم أقروا ذلك ورضوا به، وقد جاء عند أبي داود في سننه بإسناد حسن أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - وقال مرة: أنكرها - كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا».
لاتوجد تعليقات