
دروس من قصص القرآن الكريم – إبراهيم عليه السلام بين أبيه وقومه (١)
- حياة خليل الرحمن إبراهيم كانت نموذجًا يحتذى في سلامة دينه وقوة يقينه وصلابة إيمانه وحسن عبادته ودعوته وعمق برهانه وحجته وجميل أخلاقه وكرمه
من أعظم القصص الذي جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية قصة خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام-، وقد قص الله -تعالى- علينا قصته في القرآن الكريم في مواقف متعددة، منها ما يتعلق ببنائه للكعبة ومنها ما يتعلق بمُحاجَجته للنمرود الذي ادّعى القدرة على إحياء الموتى، ومنها ما يتعلق بدعوته لأبيه وقومه بتَرك عبادة غير الله من الكواكب والأصنام، ومنها ما يتعلق بقصّته مع الملائكة التي جاءت تبشره بإسحاق -عليه السلام-، ومنها ما يتعلق بقصّة هجرته إلى مكة مع زوجه وابنه وقصة الفداء.
وحاصل الأمر أن قصة إبراهيم -عليه السلام- هي من أكثر ما ورد في القرآن والسنة من قصص، واسمه من أكثر الأسماء ذكرًا في القرآن الكريم، فقد ورد في نحو ستين موضعا، لا يكاد يخلو منها موضع إلا وفيه ثناء عليه نصا أو موضوعًا؛ لأن حياة خليل الرحمن إبراهيم كانت نموذجًا يحتذى في سلامة دينه، وقوة يقينه، وصلابة إيمانه، وحسن عبادته ودعوته، وعمق برهانه وحجته، وجميل أخلاقه وكرمه، فقال -سبحانه-: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (النساء: 125)، وقال أيضاً: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} (الممتحنة: 4)، وقال بعدها مباشرة ليؤكدها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (الممتحنة: 6).نشأة إبراهيم -عليه السلام-
نشأ إبراهيم -عليه السلام- بالعراق في بابل القديمة؛ حيث كان المجتمع يعج بالشرك من كل لون، فهم يعبدون الأصنام، والكواكب، ويعبدون ملوكهم، وقد ناظرهم في تلك الجزئيات الثلاثة، وبين لهم ضلالهم، وبين لهم بألطف العبارات وأقصر طرائق الإقناع فساد عقائدهم، ودلهم على التوحيد الخالص، وكان -عليه السلام- من نسل سام بن نوح -عليه السلام-، وكانت قد نشأت بعد الطوفان حضارات في أنحاء من الأرض من أهمها وأقواها وأقدمها حضارة بابل، التي نشأ في أكنافها إبراهيم -عليه السلام-، وكان قد ولد لأب يعبد الأصنام، بل أيضاً يصنعها ويبيعها للعابدين، وقيل أيضاً إنه كان كبير قومه في ديانته.أول مواجهات الدعوة
كانت أول المواجهات الدعوية التي خاضها إبراهيم -عليه السلام- في بيته مع أهله ونخص منهم أباه، وقد أورد لنا القرآن الكريم أن نتاج هذه الدعوة تمخض عن عناد أبيه وإصراره على الكفر، بل وطرده لإبراهيم من بيته، ولكن آمن له من بيته اثنان لم يؤمن له في كل مسيرته الدعوية في العراق غيرُهما، وهما سارةُ زوجته ولوطٌ ابنُ أخيه هاران، قال الله -تعالى-: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} (العنكبوت: 26)، وصح في الحديث قوله لزوجه سارة: «ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك» (صحيح البخاري، رقم: 3358)، ويعني بالأرض هنا البلد التي كانا فيها معاً، إذ ذاك وهي مصر، ولوط -عليه السلام- لم يكن معهما.التودد أول ملامح دعوته لأبيه
لقد كافح إبراهيم -عليه السلام- من أجل إقناع والده بالإيمان والتوحيد، ونبذ الشرك والأوثان، يظهر ذلك في تكرار القرآن لمرات دعوة إبراهيم لأبيه للإسلام، ففي بعض الآيات تجده يقول: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ}، كما في الأنبياء والشعراء والصافات والزخرف، وفي آيات أخرى يتوجه إلى أبيه خاصة فيدعوه إلى الإيمان، وذلك في سورة مريم؛ حيث بين الله -تعالى- كيف كان يتواضع إبراهيم لأبيه ويرفق به ويبالغ في الشفقة عليه؛ حيث كرر عليه النداء أربع مرات بقوله {يَا أَبَتِ}، وقد كان أبوه في حضرته، لم يكن بعيداً عنه لكنه استخدم حرف النداء (يا) إشعاراً له بتبجيله وتعظيم مكانته، ثم هو لا يقول له يا أبي، ولكن يقلب الياء تاءً {يَا أَبَتِ} إظهاراً للتودد إليه، ثم يكرر على مسمع أبيه النداء بالأبوة أربع مرات، ليشعره بأنه حريص عليه، فلكأنه يقول له أنا جزء منك، أحب لك الخير بدرجة حبه لنفسي.استخراج الحق بالاستفهام
لقد بدأ إبراهيم -عليه السلام- حديثه مع أبيه بصيغة السؤال؛ ليصل به إلى النتيجة التي يريدها من غير مغالبة ولا قهر، فهو يسأله {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}، (مريم: 42)، فأظهر هنا لأبيه فساد معتقده في أوجز عبارة؛ إذ لو كان فيما يعبده عيب واحدٌ من هذه الثلاثة لكان كافياً للكفر بها، فكيف وقد اجتمعت فيها العيوب الثلاثة: العمى والصمم والعجز.توثيق المصدر بالإسناد
ونلاحظ أنه -عليه السلام- في دعوته لأبيه يوثق له مصدر هذه الدعوة، ويبين له أنها ليست مجرد آراء يراها من تلقاء نفسه، إنما هو الوحي، {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (سورة مريم، آية: 43)، ونلاحظ هنا أنه يؤكد مصدر دعوته بمؤكدين لغويين هما: (إن) و(قد)، {إني قد}، واستخدم الفعل {جاء}، فقال: {إِنِّي قَدْ جَاءَنِي}، ولم يقل أتاني؛ لأن لفظ المجيء يدل على عظمة ذلك الشيء المجيء وثقله، فهو ليس أمراً هيناً ولا سهلاً، (في هذا المعنى: تفسير الألوسي بتصرف كبير 10/17، ولمسات بيانية في نصوص من التنزيل، د/ فاضل السامرائي ص97)، فعبر بذلك اللفظ ليُحْدِثَ في نفس أبيه قدراً من الهيبة والتوقير لشأن الوحي.تواضع الابن المؤمن لأبيه الكافر
وإن إبراهيم -عليه السلام- مع كل هذه العناية السابقة في دعوة أبيه باللطف والحكمة، يستخدم ألفاظاً تدل على مدى تواضعه له وحنوه عليه وهو يخاطبه، فهو يدعوه إلى أمر جليل، ولكنْ بأدب وتواضع، فإذا به يقول {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}، (من العلم)، أي بعض العلم، يتواضع لأبيه، ثم يجعل نفسه مع أبيه بمنزلة المرشد للطريق الصحيح، {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}، (مريم: 43)، ثم يقول له: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}، (مريم: 44)، فهو يوضح له أن عبادة الأصنام ليس لها أصل موصول بالله، إنما هي وحي الشيطان إلى أوليائه من العصاة، ويحذره من أن يكون مثلهم فيلقى مصيرهم {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}.الدرس المهم
لابد أن يخرج المؤمن الفطن بنتيجة مهمة حين يقرأ ذلك عن نبي الله إبراهيم، في دعوته لأبيه؛ إذ يدرك حجم خطورة العلاقة بالوالدين، ومدى عظم شأن الأب عند الله ولو كان كافراً، فإذا كان هذا هو شأن رسولٍ عظيمِ القدر عند الله فهو خليله، حين يكلم أباه الكافر، فنراه لا يفارق في حديثه معه ودعوته إياه حدود اللياقة أبداً، ولا يتجاوز ولا مرة واحدة بالخطأ قدره كابن يخاطب أباه، فإن هذا هو الدرس وتلك هي الرسالة التي ينبغي أن يحملها كل ابن مؤمن في عقله ووجدانه وعمله وقوله، حين يتعامل مع والديه أو أحدهما، مهما بلغ حجم التقصير والخلل عندهما، أو عند أحدهما، سواء على المستوى الشخصي مع الابن، ولو بلغ حد الجناية منهما عليه، أو على مستوى الدين مع الله، ولو بلغ حد كفر به. ولا شك أن ذلك الاختبار الصعب بشقيه، قد نجح فيه نبي الله إبراهيم بجدارة، ولولا ذلك النجاح لما نال ما نال من شرفٍ وكرامةٍ عند الله، فبِرُّه بأبيه كان مدخله الأرضي لبابه السماوي عند ربه -جل في علاه-، ولعل ذلك هو ما يفسر في جلاء طلب الله البر بالوالدين عقب طلبه التوحيد من عباده، في القرآن الكريم أكثر من مرة، مع أن بر الوالدين ليس من أركان الإسلام، لكنه أكد هذا الترتيب بين التوحيد وبر الوالدين، ورتب بينهما بحرف الواو الدال على المصاحبة ليدل على أن أحدهما لا ينبغي أن يكون إلا بصحبة الآخر، لا يأتي بغيره، فتوحيد بلا بر سماء بلا أبواب، وسلم بلا درج، وبر بلا توحيد أبواب بلا سماء، وطائر بلا جناح، فالوالد باب العبد إلى الله، ولو كان ذلك الوالد كافراً، أباً كان أو أماً، قال الله -عز وجل-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، (النساء: 36)، وفي الترمذي بإسناد حسن عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد».
لاتوجد تعليقات