
خطبة المسجد النبوي – عبرة من مرور الزمان
- إنَّ مُراد العبد المؤمن من أعماله تحقيق عبودية خالقه وامتثال أمره وبلوغ رضوانه
- المؤمنَ يعيش حالةً من الاستقرار النفسيّ والسلام الداخليّ لأنَّه معلَّق القلب بخالق هذا الوجود ممتلئ الفؤاد بحبه متضلِّع الحنايا بتوحيده
- هذا الدين العظيم جاء ليُعِيد صياغةَ الإنسان عقلًا ونفسًا وفكرًا وسلوكًا فيكون على قدرٍ راسخٍ من القِيَم والأخلاق والسموّ النفسيّ والروحيّ والعقليّ في هذا الكون
جاءت خطبة المسجد النبوي لهذا الأسبوع بتاريخ 27 صفر 1446 هـ الموافق 30 أغسطس 2024 م بعنوان (عبرة من مرور الزمان)، ألقاها إمام المسجد النبوي فضيلة الشيخ د أحمد بن علي الحذيفي، الذي تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله وشكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصى فقال: أُوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله؛ فإنَّها أحصنُ المعاقلِ، وأعذبُ المناهلِ، وأنفعُ الذخائرِ، يوم تُبلى السرائرُ، فمن اتقاه -سبحانه- عبق طيبُ شمائله، وأورقَتْ غصونُ فضائلِه؛ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}(الطَّلَاقِ: 4-5).
الواجب على العاقل
إنَّ العاقل وهو يقطعُ طريقَ رحلتِه في هذه الدنيا، فتتعرَّج به مسالكُها، وتتشعَّب به مساربُها، لَيتوقف بُرهةً من عُمر الزمان توقُّفَ المعتبِر، فينظر إلى آثار خطواته، ويتأمَّل طريقَ مسيرتِه الممتدّ، فتتنازعه مشاعرُ الدهشة والحزن والاغتباط؛ اندهاشًا من سرعة تصرُّم حبال الأيام، وانطواء بساط الأعوام، وحزنًا على سالف العمر وماضي الزمان، وما في طَوَايَا ذلك من تفويت وتفريط، وتسويف وتضييع، واغتباطًا بما أنجَح من مقاصده، وحقَّق من مآربه، إنها رحلة طويلة قصيرة، مُسعِدةٌ مُشجِيَةٌ، مُفرِحةٌ مُبكِيةٌ، طويلةٌ في تفاصيل أحداثها، قصيرةٌ حينَ يلوح للسائر فيها محطُّ رحاله، فيها انكسارات وانتصارات، ودموع حزن وسرور، وراحةٌ ونصَبٌ، واجتماعٌ وافتراقٌ، وصعودٌ وهبوطٌ، إنها سُنَّةُ اللهِ في هذه الدنيا، كما قال جلَّ شأنُه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(الْحَدِيدِ: 20).تقلب الحال في رحلة الحياة
إنها رحلة الحياة المتقلبة، التي لا تقر على حال.تسير بنا حتى إذا عز جانب
من السهل أَدْنَتْنَا من الجانب الوعر
كواكبُ رَكْبٍ في كواكبِ ظُلمةٍ
تسير كما تسري وتجري كما تجري
فهي وإن كانت رحلة طويلة تمتد من حين يدرج المرء على هذه الأرض إلى أن يواريه الثَّريّ إلا أنَّها تُشبِه أحلامَ النائم، حين يهبُّ من رقاده، ويصحو من سباته، فكأنها إقامة ضيف، أو إلمامة طيف.طيف ألمَّ قبيلَ الصبح وانصرفَا
فكدتُ أقضي على فقدي له أسفَا
يا طيفُ قد كان مِنْ حُبِّي لكم شغف
وزدتَني أنتَ لما زدتَني شغفَا
ما كان أطيبه عيشًا وأهنأه
لو دام لي ذلك الطيف الذي سلَفَا
تشبيه نبوي لطيف
وما ألطفَ ذلك التشبيهَ النبويَّ لحال المؤمن مع الدنيا وسرعة انقضائها وما أرقَّه، فيما يرويه عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، فقام وقد أثَّر في جنبه، قلنا يا رسول الله، لو اتخذنا لكَ وطاءً؟ فقال: ما لي وللدنيا؟ ما أنَا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ، ثم راحَ وتركَها». إنَّ المؤمنَ وهو يمخُر عبابَ بحرِ هذه الحياةِ الهادرِ، فتتقلَّب به لُجَجُها، وتتقاذفه أمواجُها، يعيش حالةً من الاستقرار النفسيّ والسلام الداخليّ؛ لأنَّه معلَّق القلب بخالق هذا الوجود، ممتلئ الفؤاد بحبه، متضلِّع الحنايا بتوحيده؛ فالصراع الدنيويُّ عندَه صراعٌ خارجَ النفس لا داخلَها، يراه بعينه ولا يعيشه في نفسه.الإيمان سفينة النجاة
إن الإيمان الصادق في غمرات هذه الحياة يتخلَّل حنايا النفوس المنهَكة بَرْدًا وسلامًا، ورضًا ويقينًا، وسَكِينةً وثباتًا؛ فهو ربيع القلوب في بيداء الحياة، وظلُّها الوارف في هجير الشدائد، وسفينة النجاة في تلكم الغمرات، تجد المؤمن على رغم ما يلقى من أوهاق الحياة ومناكد الدنيا ساكنَ القلب، بسَّامَ المحيا، طَلْقَ الوجهِ، رضيَّ النفس، حلوَ المنطقِ.ثَقُلَتْ مغارمُه فزاد نواله
كالعود ضاعَف طِيبَه الإحراقُ
الإيمان سلوان القلوب، وأُنسُ النفوسِ، وسرورُ الأفئدةِ في حومة ذلك الصراع الدنيوي، فلا يَعرِف حلاوةَ العيش وطيبَ الحياة مَنْ لم ينغمس في نهره الدفَّاق فيعب منه حتى تروى روحه، فتصطبغ به ذاتُه، ويفيض ذلك الريُّ على جوارحه، ويتنضَّى به محياه، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النَّحْلِ: 97).الإيمان والحياة الطيبة
إن الحياة مع الإيمان حياة طيبة كريمة مطمئنَّة، تتصاغر أمامَها جبالُ المصاعب والشدائد، ويتهاوى ركامُ اللذائذ والمطامع؛ فللإيمان حلاوة كما عبَّر النبيُّ الأكرمُ -صلوات الله وسلامه عليه-، يجد طعمها في نفسه وأثرَها في قلبه مَنْ رسَخ الإيمانُ في قلبه إذعانًا وإقرارًا، وتحقَّق به امتثالًا وخضوعًا واستسلامًا، لا تَصِفُ لذتَها ولا تحدُّ حقيقتَها العباراتُ والكلماتُ، بل هي حقائقُ يعرفها أهلُ الإيمانِ، ويُدرِكُها الصفوةُ من عباد الرحمن. فإنَّ الإيمانَ الحقَّ ليس معنًى مجرَّدًا من الحقائق، أو نظريةً لا تُرجمانَ لها في واقع الحياة، إنها عقيدةٌ يمتلئ بها القلبُ فتفيض على النفس طمأنينةً وسكينةً ورضًا وسرورًا، ثم تغمُر الجوارحَ عملًا وامتثالًا، ثم تتسِع دائرتُها حتى تفيضَ على الإنسانيَّة كلِّها سلامًا وسكينةً وحُبًّا وخيرًا وعدلًا، فهي تسمو بالمؤمن فوقَ مطامع الحياة البائدة، وترقى به إلى معارج الكمال الإنسانيّ.الإيمان والتكامل بين النفس والروح
إن هذا الدين العظيم جاء ليُعِيد صياغةَ الإنسان عقلًا ونفسًا وفكرًا وسلوكًا، فيكون على قدرٍ راسخٍ من القِيَم والأخلاق والسموّ النفسيّ والروحيّ والعقليّ في هذا الكون؛ فالإيمان -بمعناه الأرحب- ربطٌ للمخلوق بالخالق، واتصالٌ لعالَم الشهادة بعالَم الغيب، كما أنَّه يُحقِّق التكاملَ بين النفس والروح والسلوك والأخلاق لذلك المخلوق الكريم على الله -تعالى-، فيتحقق مرادُه -تعالى- مِنْ خَلقِه؛ بأن يغمرَ الإيمانُ ذلك الإنسانَ بالسلام النفسيّ والسَّكينة الروحية، قبلَ أن يغمر الأرضَ ويعمرها بإقامة الخير والعدل وإشاعة الحُبّ والسلام والرحمة في العالمين قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الْأَنْبِيَاءِ: 107).
لاتوجد تعليقات