رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 28 مايو، 2025 0 تعليق

خطبة المسجد الحرام … لا تقدم ولا عمران إلا بالإيمان

  •  الصلاح لا يكون إلا بالإيمان الصحيح
  •  نور الوحي أعظم النور وأعلاه وأغلاه وعلى المؤمن أن يعرف قيمته ومنزلته وقوته
  • الإيمان والعبادة وعمارة الأرض وإصلاحها أركان متلازمة والمسلم يقوم بالإعمار قُربةً لله

كانت خطبة الحرم المكي بعنوان (لا تقدم ولا عمران إلا بالإيمان)، التي ألقاها إمام وخطيب الحرم المكي فضيلة الشيخ د/ صالح بن عبدالله بن حميد -حفظه الله-، الذي تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله والتزود منها، حيث إن التقوى هي خير الزاد، وكذلك حث على الاعتبار والتدبر والمبادرة بالتوبة لله -عز وجل- فقال فضيلته:

       أوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، طهروا قلوبكم قبل أبدانكم، وألسنتكم قبل أيديكم، عاملوا الناس بما ترون، لا بما تسمعون، واسمعوا من إخوانكم قبل أن تسمعوا عنهم، ظنوا بإخوانكم خيرًا، واتقوا شرَّ ظنون أنفسكم، ومن أدب الفراق دفن الأسرار، ومن أغلق دونكم بابه فلا تطرقوه، واكسبوا إخوانكم بصدقكم، لا بتصنعكم، وكل ساق سيسقى بما سقى، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}(الْإِسْرَاءِ: 53).

الإيمان وعمارة الأرض

        ثم ذكر فضيلته أن الإيمان والعبادة وعمارة الأرض وإصلاحها أركان متلازمة، {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}(هُودٍ: 61)، والمسلم يقوم بالإعمار قُربةً لله، ونفعًا لنفسه ولعباده، فيستثمر في كل ما ينفع العباد والبلاد، الإيمان مقرون بالعمل الصالح، {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، والقراءة مقرونة باسم الله، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}(الْعَلَقِ: 1)، والعلم مربوط بخشية الله، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(فَاطِرٍ: 28)، الإيمان هو قائد العقل، حتى لا يطغى العقل فيعبد نفسه، والإيمان هو الضابط للعِلْم، حتى لا تؤدِّي سلبياته إلى اضطراب تنهار معه البشريَّة.

لنا في الأمم السابقة العبرة والعظة

         ثم أخبرنا فضيلته بأن القرآن الكريم تكلَّم عن الأمم السابقة، وما وصلت إليه من القوة والبناء والإعمار، ثم بيَّن ما كان من أسباب هلاكها وفنائها، من أجل أن نعرف سُنَّتَه -سبحانه-، فقد أخبر عن عظمة ما وصَل إليه قومُ عاد، فقال -جل وعلا-: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا في الْبِلَادِ}(الْفَجْرِ: 7-8)، ممَّا يدلُّ على عظمتها وجمالها وتقدمها، ولكنه في مقام آخر قال -جل وعلا-: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}(فُصِّلَتْ: 15)، غرتهم قوتهم، وكذبوا رسل الله، وتنكروا لدعوة الإيمان، استكبارًا وجحودًا، ومن أعرض عن ذكر الله وكذب بآياته يبقى مرتكسًا في الظلمات مهما أوتي من العِلْم والقوى، {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ في الظُّلُمَاتِ}(الْأَنْعَامِ: 39)، وقد خاطَب اللهُ نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}(إِبْرَاهِيمَ: 1)، وقال -جل وعلا-: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(الْحَدِيدِ: 9)، فالقوة والعزة بالإيمان والتقوى، والانتصار والبقاء بتعظيم شعائر الله، والعلوم مهما كانت قوتها، والصناعات مهما بلغت مخترعاتها وتقنياتها فإنَّها لا تجلب حياة سعيدة، ولا طمأنينة منشودة، {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}(الْبَقَرَةِ: 221)، وهذا في ديننا ليس ذمًّا للعلوم واكتشافاتها، ولا للصناعات وأدواتها، ولا للمخترعات وتطويرها، ولا تنقصا من مكانتها وقيمتها، وإنَّما هو التأكيد على أنَّه لا بد من نور الوحي لتزكية النفوس، وهداية البشريَّة واستنارة الطريق.

التقدم والازدهار ليس بديلا عن الإيمان

         ثم أكد إمام الحرم قائلا: إن الازدهار الذي أحرزته التراكمات المعرفيَّة من بيت اللَّبِن والطين إلى ناطحات السحاب وشاهقات المباني، وما حصل في وسائل النقل عبر التاريخ من التحول من ركوب الدواب، إلى امتطاء الطائرات، مرورًا بالسيارات والقاطرات، وفي بريد الرسائل من الراجل والزاجل، إلى البريد الرَّقْميّ، كل ذلك على عظيم اختراعه وابتكاره وعلى جماله والراحة في استعماله لكنَّه لم يقدم البديل عن الإيمان، وتزكية النفس، واحترام الإنسان، وتأملوا ذلك -حفظكم الله- في مَيْدان الأخلاق، وحقوق الإنسان، وضحايا الحروب، والتشريد، والتهجير، والفقر، والتسلُّط، والاستبداد واضطراب المعايير، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

الإيمان بالله مدعاة للعز والفخر

        نور الوحي أعظم النور وأعلاه وأغلاه، وعلى المؤمن أن يعرف قيمته، ومنزلته وقوته، ولا يستصغر نفسه أمام الماديات، أو يشعر بالحرج تجاهها، وقد قال -عز شأنه-: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}(الْأَعْرَافِ: 2).

بالعلم والإيمان يستقيم العمران

        وقد أشار الشيخ صالح -حفظه الله- إلى أن الإيمان هو القائد للعقل، وهو الحامي للعِلْم، وحين ينفصل العقل عن الإيمان ينهار العمران البشري، وحين يعبث العقل بالعلم تنهار الحواجز بين الحق والباطل، والصالح والفاسد، والظلم والعدل، وتضطرب المعايير، وتتحول السياسات من سياسات مبادئ إلى سياسات مصالح، بالعلم والإيمان يستقيم العمران، وتسير القاطرة على القطبان، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(يُوسُفَ: 21)، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}(الشُّورَى: 52-53).

الإنسان مستخلف لعمارة الأرض

        وبين فضيلته أن بناء العمران وانهياره مرتبط بالإنسان، فالله -سبحانه وتعالى- استخلَف الإنسان ليقوم بعمارة الأرض،، ومِن ثَمَّ فإن أسباب تقدم المجتمع وتأخره يعود -بإذن الله- إلى الإنسان نفسه، فالتغيير في الخارج لا يكون إلا حين يكون التغيير في النفوس، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرَّعْدِ: 11)، وسنة الله أن الصالح يبقى لأن فيه نفعًا للبشرية، وغير الصالح لا يبقى، لأنَّه لا نفع فيه، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الْأَرْضِ}(الرَّعْدِ: 17)، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}(مُحَمَّدٍ: 38).

لا صلاح ولا تغيير إلا بالإيمان الصحيح

         اعلموا أن الصلاح لا يكون إلا بالإيمان الصحيح، فهو الذي يطبع النفوس على الصدق والإخلاص والأمانة، والعفاف، ومحاسبة النفس، وضبط نوازعها، وإيثار الحق، وسعة النظر، وعلو الهمة، والكرم والتضحية والتواضع، والاستقامة، والقناعة، والسمع والطاعة، والتزام النظام.

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك