رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: المحرر الشرعي 13 مايو، 2025 0 تعليق

 خطبة المسجد الحرام – آثار الصبر وفضائله

  • إن المرء ليُدرِك بالصبر خيرَ عيش في حياته كما قال أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب  رضي الله عنه : «خيرُ عيشٍ أدركناهُ بالصبرِ»
  •  من حلو ثمار الصبر وعظيم آثاره إيجاب الجزاء للصابرين بغير حساب {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
  •  الفوز بالمطلوب والظفر بالمحبوب والنجاة من المكروب والسلامة من المرهوب ونزول الجنة إنما ينالَه أهلُ الصبر
  •  من حلو ثمار الصبر وعظيم آثاره ضمان النصر الرباني والمدد الإلهي «واعلم أن النصر مع الصبر»

كانت خطبة الحرم المكي -لهذا الأسبوع بتاريخ 4 ذي القعدة 1446هـ الموافق 2 مايو 2025 م- بعنوان (آثار الصبر وفضائله)، التي ألقاها إمام وخطيب الحرم المكي فضيلة الشيخ د/ أسامة بن عبدالله خياط -حفظه الله-، والذي تناول في بداية خطبته الوصية الربانية بتقوى الله والتزود منها؛ حيث إن التقوى هي خير الزاد وكذلك حث على الاعتبار والتدبر والمبادرة بالتوبة لله -عز وجل- فقال فضيلته:

اتقوا الله -عباد الله- وراقِبُوه، واعلموا أنكم ملاقوه، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(النَّحْلِ: 111).

سنن الله في خلقه

       نزول البلايا وحلول المصائب في ساحة العبد على تنوعها وتعدد دروبها وما تعقبه من آثار، وما تُحدِثُه من آلام يتنغص بها العيش، ويتكدر معها صفو الحياة -حقيقةٌ لا يمكن تغييبها، ولا مناص من الإقرار بها، لأنَّها سُنَّة من سنن الله في خلقه، لا يملك أحد لها تبديلًا، ولا يملك لها تحويلًا، وتتباين مواقف الناس أمامها.

حال أهل الجزع من البلاء

      أما أهل الجزع ومَنْ ضَعُفَ إيمانُه، واهتزَّ يقينُه فيحمله كل أولئك على مقابلة مر القضاء ومواجهة القدر، بجزع وتبرم وتسخط، تعظم به مصيبته، ويشتد عليه وقعها، فيربو ويتعاظم، فينوء بثقلها، ويعجز عن احتمالها، وقد يُسرِف على نفسه فيأتي من الأقوال والأعمال ما يزداد به رصيده من الإثم عن ربه، ويضاعف نصيبه من سخطه، دون أن يكون لهذه الأقوال والأعمال أدنى تأثير في تغيير المقدور، أو دفع المكروه.

حال الصابرين والراضين من البلاء

        أمَّا أولو الألباب فيقفون أمامَها موقفَ الصبر على البلاء، والرضا ودمع العين، فلا يأتون من الأقوال والأعمال إلا ما يُرضي الربَّ -سبحانه-، ويعظم الأجر ويُسَكِّن النفسَ، ويطمئنُّ به القلبُ، يدعوهم إلى ذلك ويحثُّهم عليه ما يجدونه في كتاب الله، مِنْ ذِكْر الصبر وبيان حُلْو ثمارِه وعظيمِ آثارِه، فمن ذلك الثناء على أهل الصبر ومدح الله لهم بأنهم هم الصادقون، المتقون حقًّا، كقوله عز اسمه: {وَالصَّابِرِينَ في الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(الْبَقَرَةِ:177)، وكقوله -سبحانه-: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}(آلِ عِمْرَانَ:17).

فضل الصبر

        ومن حلو ثمار الصبر وعظيم آثاره: ما فيه من إيجاب محبة الله لأهله، ومعيته -سبحانه- لهم المعية الخاصَّة، التي تتضمَّن حفظهم ونصرهم وتأييدهم، كقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(آلِ عِمْرَانَ:146)، وكقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(الْأَنْفَالِ:46).

الصبر خير لأصحابه

ومن حلو ثمار الصبر وعظيم آثاره: إخبار الله بأن الصبر خير لأصحابه، {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}(النَّحْلِ:126).

جزاء أهل الصبر يكون بغير حساب

       ومن حلو ثمار الصبر وعظيم آثاره: إيجاب الجزاء للصابرين بغير حساب، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزُّمَرِ:10)، وإيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم، {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النَّحْلِ:96).

بشرى لأهل الصبر

        ومن حلو ثمار الصبر وعظيم آثاره: إطلاق البشرى لأهل الصبر، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(الْبَقَرَةِ:155).

إنما النصر مع الصبر

         ومن حلو ثمار الصبر وعظيم آثاره: ضمان النصر الرباني والمدد الإلهي، {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}(آلِ عِمْرَانَ:125)، وفي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، بإسناد صحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في وصيته المشهورة له: «واعلم أن النصر مع الصبر».

أهل الصبر هم أهل العزائم

        ومن حلو ثمار الصبر وعظيم آثاره: إخباره -عز وجل- بأن أهل الصبر هم أهل العزائم، الذين لا تلين لهم قناة في بلوغ كل خير في الدنيا والآخرة، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}(الشُّورَى: 43)، وإخباره -سبحانه- بأنَّه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها، والحظوظ إلا أهل الصبر، {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}(الْقَصَصِ:80)، وقوله أيضًا: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}(فُصِّلَتْ: 34-35)، وإخباره -جل وعلا- بأنَّه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر، كقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}(إِبْرَاهِيمَ:5)، وكقوله في شأن أهل سبأ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}(سَبَأٍ:19).

بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين

        إنَّ الفوزَ بالمطلوب، والظفرَ بالمحبوب، والنجاةَ من المكروب، والسلامةَ من المرهوب، ونزولَ الجنة إنما نالَه أهلُ الصبر، كما قال -سبحانه-: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(الرَّعْدِ:23-24)، والصبر يُعقِب المستمسكَ به منزلةَ الإمامة في الدين، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «سمعتُ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميةَ -رحمه الله- يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، ثم تلا -رحمه الله- قوله -تعالى-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(السَّجْدَةِ:24)»، فلا عجب أن يكون للصبر تلك المنزلة العظيمة، التي عبر عنها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بقوله: «إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ألا لا إيمان لمن لا صبر له».

ما أعطي أحد عطاء خيرا من الصبر

        إن المرء يُدرِك بالصبر خيرَ عيش في حياته، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «خيرُ عيشٍ أدركناهُ بالصبرِ»، والصبرُ ضياءٌ، كما وصفَه رسول الْهُدَى -صلوات الله وسلامه عليه- في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، والصبر خير وأوسع عطاء يعطاه العبد، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري، والإمام مسلم في صحيحهما، واللفظ للبخاري، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار الذين سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، قال: «قال - صلى الله عليه وسلم -: ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، ومَنْ يَسْتَغْنِ يُغنِهِ اللهُ، ومَنْ يتصبَّر يُصبِّرْه اللهُ، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر».

من صبر كان خيرا له

         وأمرُ المؤمنِ كلُّه خيرٌ له، لأنَّه دائرٌ بين مقامَي الصبر والشكر، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده، عن صهيب بن سنان - رضي الله عنه - أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: «‌عَجَبًا ‌لِأَمْرِ ‌الْمُؤْمِنِ، ‌إِنَّ ‌أَمْرَهُ ‌كُلَّهُ ‌خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».

الاختبار يكون بالسراء والضراء

        قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في بسط مدلول قوله -تعالى-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(الْبَقَرَةِ:155)، قال -رحمه الله-: «أخبر -تعالى- أنَّه يبتلي عباده -أي: يختبرهم ويمتحنهم- كما قال -تعالى-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}(مُحَمَّدٍ:31)، فتارةً بالسَّرَّاء، وتارةً بالضَّرَّاء، بشيء من الخوف والجوع -أي: بقليل من ذلك- ونقص من الأموال -أي: بذهاب بعضها- والأنفس كموت الأصحاب والأقارب والأحباب، والثمرات -أي: لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها، وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده، فمن صبر أثابه، ومن قنط أحل به عقابه.

عاقبة الصبر

       قال -تعالى-: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}(الْبَقَرَةِ: 155)، ثم بَيَّنَ -تعالى- مَنِ الصابرونَ الذين شكَرَهم فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}(الْبَقَرَةِ:156)، أي: تسلوا بقولهم هذا عمَّا أصابهم، وعلموا أنهم ملك لله، يتصرف في عبيده فيما يشاء، وعلموا أنَّه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافًا بأنهم عبيده، وأنَّهم إليه راجعون في الدنيا والآخرة، ولهذا أخبر -تعالى- عمَّا أعطاهم على ذلك فقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ}(الْبَقَرَةِ:157)، أي: ثناء من الله -تعالى- عليهم»، وقال سعيد بن جبير -رحمه الله-: «الصلوات أمانة من العذاب، وأولئك هم المهتدون، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «نِعْمَ العِدْلانِ، ونِعْمَتِ العلاوةُ، {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}(الْبَقَرَةِ: 157)، فهذانِ العِدْلانِ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(الْبَقَرَةِ:157)، فهذه العِلاوة، وهي ما توضع بين العدلين، وهي زيادة في الحمل، وكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا»(أخرجه الحاكم في المستدرك بإسناد صحيح).

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك