
خطبة الحرم المكي – عوامـل صـلاح الأسـرة واستقرارها
جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ: 6 ذي القعدة 1444هـ، الموافق 26 مايو 2023م، بعنوان (عوامل صلاح الأسرة واستقرارها)، لفضيلة الشيخ: صالح بن عبدالله بن حميد، واشتملت الخطبة على عدد من العناصر كان أهمها: التحذير من الخوض في شؤون الأسرة دون علم، وعوامل استقرار الأسرة، ومعنى العشرة بالمعروف وطرائق تحقيقها، وخطأ نشدان الكمال في الشؤون الأسرية، ونصائح للزوجين الكريمين.
في بداية الخطبة أكد الشيخ ابن حميد أنَّ الحديث عن الأسرة أمر كبير، وشأن خطير؛ لأنَّه حديث عن حفظ البيوت، وصيانة المجتمع؛ فالخوضُ في أحكام الأسرة، وشؤون البيوت، والحديثُ عن العَلاقات الزوجية بغير علم يُفسِد الأُسرَ، ويُشعِل الفتنَ، ويهزُّ الاستقرار، والزواجُ علاقةٌ شرعيةٌ إنسانيةٌ راقيةٌ، تَحفَظ الحقوقَ، وتَنشُر السكنَ، وتَجلُب السعادةَ، وتُحقِّق الطمأنينةَ، ولا بديلَ لها سوى السقوطِ في أوحالِ الشهواتِ الهابطةِ، والخروجِ عن الفطرةِ المستقيمةِ، والتمرُّدِ على قِيَمِ المجتمعِ الرشيدِ.
ما يكون به استقرارُ الأُسَر
وقد بسَط أهلُ العلم، وأهلُ الحكمة بيانَ ما يكون به استقرارُ الأُسَر، وبناءُ البيوت على السَّكينة والطمأنينة، في كلمات جوامع، واستشهادات وإرشادات، واستنباطات مستمدَّة من نصوص الشرع المطهَّر، وتقريرات أهل العلم، وحكمة أهل الرأي.
حقيقةُ الحياةِ الزوجيةِ
حقيقةُ الحياةِ الزوجيةِ، وتحقيق السكنِ في البيت، والوئامِ في الأسرة هي العِشرةُ بالمعروف، وفي التنزيل العزيز: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النِّسَاءِ:19)، هذه الآية وغيرها اثنى عشر آية من كتاب الله وردت فيها كلمة (المعروف)، كل ذلك لِيعلَمَ الزوجانِ الكريمانِ والأسرةُ من بعدهم، والمجتمعُ من وراء ذلك أن العَلاقة بين الزوجين ليست نفعية، أو علاقةَ معاوَضة، أو مقايَضة، أو علاقةً تَحكُمُها القوانينُ الصارمةُ، والموادُّ الجافَّةُ، والأنظمةُ الجامدةُ؛ إنَّها علاقةُ مودَّةٍ، وسكنٍ، وعيشٍ كريمٍ، إنَّها حقوقٌ متداخلةٌ متكاملةٌ، ومسؤولياتٌ مشتركةٌ، إنَّها العِشرةُ بالمعروفِ.
{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
لقد جمَع اللهُ أمرَ الأسرة واجتماعَها وراحَتها وسكنَها في قوله -عز شأنه-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النِّسَاءِ: 19)، والمعاشرة بالمعروف كلمة جامعة حكيمة محكمة، تدل على ما ينبغي أن يتمتع به الزوجان من حُسن الخلق، والبُعد عن المحاسَبة، والتدقيق في المتابَعة.
المشاعر الصادقة متعة الحياة
البيتُ جميلٌ، تتصافى فيه القلوب، وتتغافل عن العيوب، وعَمِلَتْ بما يُرضي علَّامَ الغيوب، فكَمْ هو جميلٌ وعظيمٌ من أجل حسن العِشرة أن يتبادَل الزوجانِ صدقَ المشاعر! مشاعرُ يُدرِكَانِ معها أن لكل واحد منهما مكانةً في قلب صاحبه، مشاعرُ صادقةٌ تَنبُع من قلبٍ لا يتصنَّعُها، ومن نفسٍ تتلذَّذ بإبدائها، والاعتزازِ بها، من غير أن تتكلَّفَها، فالمشاعر الصادقة هي متعة الحياة، تستقبل بالغبطة والارتياح، لا تستثقل حفظك الله التعبيرَ الصادقَ بالود والمحبة، فإنَّ لذلك في النفس تأثيرًا عجيبًا، وقَبولًا عميقًا، وسِحرًا حلالًا، والسحرُ الحلالُ سحرُ القلوب بِطِيبِ الكلامِ، وأبلغُ الكلامِ الوجهُ الحسنُ المبتسمُ.
الاحترام المتبادَل
أيها الزوجان الكريمان: الاحترام المتبادَل هو الذي يوجد أجواء الألفة، والاحترام والتقدير من أهم ركائز استقرار البيوت، الاحترام يدلُّ على حُسن التربية، وصِدق التديُّن، احترم ولو لم تُحِبَّ، اكْسَبْ أهلَكَ ولو خسرتَ الموقفَ.
من حسن العشرة
إنَّ من حُسن العشرة كتمان السرِّ، وسترُ العيوبِ، ونَشرُ ما يَسُرّ من ثناء، وحسنُ الإصغاء، والدعوةُ بأحبِّ الأسماءِ، والشكرُ على الإنجاز، وحُسنِ الصنيع، والسكوتُ عمَّا يسوء، وتركُ المراء، والذَّبُّ في الغَيبة، والنصحُ بلطف، وسلول مسالك التعريض وليس التصريح، والدعاءُ في ظهر الغيب، وإظهارُ الفرح بما يَسُرّ، والحزنُ بما يَضُرّ، والجامعُ لذلك كلِّه -حفظكم الله- أن يُعامِلَ كلُّ فردٍ من أفراد الأسرة بما يَحِبُّ أن يُعاملَ به.
ومن حُسْن العِشْرة الرفق في التعامُل، فالرفق ما كان في شيء إلا زَانَهُ، وما نُزِعَ من شيء إلا شَانَهُ، بالرفقِ يُنزِلُ اللهُ البركةَ، والسكونَ، والطمأنينةَ.
التسامُح أعلى مراتب القوة
أيها الزوجان الكريمان: ومِنْ حُسن العشرة التسامُح، وهو أعلى مراتب القوة، والانتقامُ من أكبرِ مظاهرِ الضَّعفِ، التسامُح ليس ضَعفًا، ونقاءُ القلب ليس عَيبًا، والتغافل ليس غباءً، بل ذلك كلُّه تربيةٌ، وعقلٌ، وقوةٌ، وهو مع حُسن النيَّة عبادة، ودِين، واكسَبْ أهلك ولو خسرتَ الموقفَ، مَنْ سامَح ارتاح قلبُه، ومَنْ رَضِيَ بالقدر بات سعيدًا، ومِنْ حُسن العشرة التواضع؛ فالمجدُ في التواضع، وأكثرُ البقاعِ ماءً ما كان منها أكثرَ انخفاضًا، والتواضعُ يَهزِم الغرورَ، ولا يتواضع إلا مَنْ كان واثقًا بنفسه، ولا يتكبَّر إلا مَنْ كان عالِمًا بنقصه.
نُشدانُ الكمال أمر متعذر
إنَّ نُشدان الكمال في الشأن الأُسريّ متعذر، والتطلع إلى استكمال الصفات شيء ليس في متناوَل البشر، ومن رجاحةِ العقلِ، وسلامةِ التفكيرِ، وحُسنِ التدينِ، وحُسنِ التبعُّل، توطينُ النفس على قَبول بعض المنغِّصات، والمضايَقات، ومَنْ حاسَب على كل شيء خَسِرَ كلَّ شيء، فاستوصوا بأهلكم خيرًا، واكسَبْ أهلكَ، ولو خسرتَ الموقفَ.
ومن رجاحة العقل، وسلامة التفكير، وصحة الديانة، أن يتذكر الزوجان ولا يتنكَّرا لجوانب الخير والإيجابيَّات، وإنهما سوف يَجِدَانِ مِنْ ذلك شيئًا كثيرًا، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث مسلم: «لَا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةُ، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا خُلُقًا آخَرَ»، ومعنى: «لَا يَفْرَكْ» أي: لا يكره ولا يُبْغض.
من جميل العشرة
ومن جميل العشرة أن يكون الاختلافُ بذوق، والاعتذارُ بتواضع، والعتابُ برفق، والاجتماعُ بحب، والافتراقُ بإحسان، لا يجوز أن يكون الخلاف بسبب زلَّة لسان، أو عثرة سلوك، أو كلمة طائشة، أو تصرُّف عابر.
نجاح الأسرة
واعلم أن نجاح الأسرة يكون بالثقة والتجاهل؛ فاجتنِبوا ترصُّدَ الأخطاء، واحذروا الحكمَ على المقاصد والنِّيَّات، ومَنْ جانَب الحسدَ حَفِظَ القلبَ والجسدَ، والمعاصي تُزيل النعمَ، ودفنُ الأسرارِ أدبٌ من الأدب الراقي، والغضبُ ريحٌ عاتيةٌ، تُطفئ نورَ العقل، ولذةُ الانتقامِ لحظةٌ، أمَّا لذةُ الرضا فهي على الدوام، والمرء هو الذي يصنع قَدْرَ نفسه، اكسب أهلك، ولو خسرتَ الموقف، ليست المشكلةُ ألَّا يقعَ الخلافُ فهو لابدَّ واقع، لكنَّ الحكمة والعقل والحصافة، كيف يُعالَج الخلافُ إذا وقَع؟ نعم، يُعالَج الخلافُ بالصبر، والأناة، والتنازل، والتسامح، والتغافل.
هنيئًا لمن يتناسَوْنَ الإساءةَ
هنيئًا لمن يتناسَوْنَ الإساءةَ، ولا يحملون في قلوبهم قسوةً، ولا يعرفون للكره طريقًا، هنيئًا لمن كان في لقائهم سرور وفرح، وفي حديثهم سعادة ومرح، واعلموا أنَّ أولَ مَنْ يعتذر هو الأشجعُ، وأولَ مَنْ يُسامِح هو الأقوى، وأول مَنْ يَنسى هو الأسعدُ، والاعترافُ بالخطأ، وقَبولُ الحقِّ، والتنازلُ عن حظوظ النفس، والحرصُ على جَمْع الكلمة، وكسب القلوب هو الجامع للأسرة، الحافظ للبيت، المحقِّق لحُسن العشرة، بل هو السر في حل جميع المشكلات، وهو السرُّ في حلولِ السعادة، وتنزُّلِ السكينة، اكسب أهلك ولو خسرت الموقف.
الصدق يُوجِب الثقةَ
أيها الزوجان العزيزان: الصدق يُوجِب الثقةَ، والكذبُ يُورث التهمةَ، والأمانةُ تُوجِب الطمأنينةَ، والعدل يُورِث اجتماعَ القلوب، وحُسن الخلق يوجب المروءةَ، وسوء الخلق يورث المباعدة، والانبساط يولِّد المؤانسة، والانقباض يجلب الوحشةَ، والمخادعةُ تُوجِب الندامةَ، فاكسب أهلك ولو خسرتَ الموقف، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}(الطَّلَاقِ: 6-7).
فلنجتهد في إدارة شؤون الأسرة بيُسر وسهولة، وعفويَّة، بعيدًا عن التصنُّع والتشنُّج، والادعاء، والاستعلاء، اجتهِدوا في الصدق، والنصح والإخلاص، والبساطة والتواضع، والكرم، والبذل.
لاتوجد تعليقات