
حكم المواطنة في القرآن والسنة النبوية
- الإقامة في الوطن نعمة من الله سبحانه وقد كتب الله تعالى عقوبة الحرمان من الأوطان على بنى إسرائيل لما لم يأتمروا بأمر الله في دخولهم أرض فلسطين
- جاءت النصوص الشرعية ببيان شرعية حب الوطن والانتماء إليه وبينت أسس التوازن مع الانتماءات الأخرى دون إفراط ولا تفريط
- جاء القرآن الكريم بإقرار مفهوم المواطنة في مواضع عدة فما أرسل الله نبيا إلا كان من القوم الذين أرسل إليهم حتى يكون أدعى وأحرى للقبول
- لما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة سأل الله أن يحبب إليه وطنه الثاني وينزل عليه فيه الراحة والسكينة والأمن والطمأنينة
- الصحابة والتابعون عاملوا أهل الأرض بما يستحقونه من مواطنة فلم يعاملوا الكافر الذمي كمعاملة الحربي وما ذاك إلا لكونه ممن يعيش في أرض الإسلام فعدوا العيش سببا في مغايرة الحكم
المتأمل في النصوص الشرعية يجد البيان في شرعية حب الوطن والانتماء إليه، وأسس التوازن مع الانتماءات الأخرى دون إفراط ولا تفريط، فالمواطنة انتساب إلى الوطن، وهو أمر مشروع بل فطري، وأمر ضروري لابد منه لقيام المجتمعات عمومًا، وقيام المجتمع المسلم خصوصا، ولا تعارض بين المواطنة والدين؛ فالانتماء للدين هو الأساس، والانتماء للوطن أقره الشارع الحكيم ولم يلغه، ولا تصادم بين المواطنة والدين.
والمتأمل في دوائر الانتماءات في حياة الانسان يجدها متعددة، وتتكامل ولا تتناقض، والانتماء الوطني أحد تلك الانتماءات والدوائر، فالفرد ينتمي إلى أسرته، والأسرة لعشيرة وعائلة أو قبيلة، والعائلة والقبيلة إلى مكان ووطن، وأهل المكان والمواطنون إلى دين، فالدرجة العليا لا تلغي الدرجة الدنيا بل تستوعبها.تعريف المواطنة
تُعرف المواطنة بأنّها انتماء الفرد لمكان ما، وهي علاقة متبادلة بين الأفراد والدولة التي ينتمون إليها ويحصلون فيما بعد على مجموعة من الحقوق المدنية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ولا تنافر بين القيام بحقوق الأوطان والقيام بحق الرحمن.أ - المواطنة في القرآن الكريم
جاء القرآن الكريم بإقرار مفهوم المواطنة في مواضع عدة، وعُدَّ الانتماء إلى البلدان مفهوما لا غبار عليه شرعا، فما أرسل الله نبيا إلا كان من القوم الذين أرسل إليهم حتى يكون أدعى وأحرى للقبول، وفي ذلك قال -سبحانه-: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، والأخوة المذكورة في الآيات ليست أخوة نسب ولا أخوة قبيلة وعشيرة، بل أخوة بلد، والبلدة فيها أكثر من قبيلة وعشيرة، فهم كانوا إخوة في الوطن.أهمية بالغة
وقد جعل القرآن الكريم للمواطنة أهمية بالغة من خلال تشريع النفي من الأرض للمفسد، حينما قال -سبحانه-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وما ذاك إلا للأثر العظيم المترتب على نفس المنفي عن وطنه، وبه يتحقق صلاح المجتمع، والنفي عذاب على المفسد وهو جزء من العقوبة، ويدل بمفهوم المخالفة أن الإقامة في الوطن نعمة من الله -سبحانه، وكتب الله -تعالى- عقوبة الحرمان من الأوطان على بنى إسرائيل لما لم يأتمروا بأمر الله في دخولهم أرض فلسطين: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، وقال -سبحانه-: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}، قال القرطبي -رحمه الله-: «ختم السورة ببشارة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - برده إلى مكة قاهرًا لأعدائه»، ومعاد الرجل بلده؛ لأنه ينصرف ثم يعود، وهذه الآية نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجرته إلى المدينة ونزلت بالجحفة، لما اشتاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، فقد قرن الله حب الأرض بحب النفس إقرارا لنظرة الإنسان وحبه للأرض التي نشأ فيها وترعرع بين ربوعها. بل ارتبط الوطن في موضع آخر بالدين؛ حيث قال- سبحانه-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، قال الله -عزوجل -: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}.ب- المواطنة في السُنَّة النبوية
حب الأوطان شيء مغروس في النفوس؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكة: «ما أطيبك من بلد وأحبَّكِ إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» (رواه الترمذي وصححه الألباني)، ويتجلى هذا الحب منه - صلى الله عليه وسلم - حين جلس إلى ورقة بن نوفل ابن عم خديجة -رضي الله عنها- ولم يلتفت - صلى الله عليه وسلم - كثيراً إلى ما أخبره به مما سيتعرض له في دعوته من محن ومصاعب من قومه، حتى قال له ورقة: «ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك»، عندها قال - صلى الله عليه وسلم -: «أو مخرجي هم؟!» (رواه البخاري ومسلم) لما للبلد من مكانة في نفسه.سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - حب الوطن
لما انتقل -عليه الصلاة والسلام - مهاجرا إلى المدينة، سأل الله أن يحبب إليه وطنه الثاني وينزل عليه فيه الراحة والسكينة، والأمن والطمأنينة؛ فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة، أو أشد» (رواه البخاري ومسلم)؛ فكان بعد ذلك محبا للمدينة يشتاق لها فؤاده وحنينه؛ فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر، فنظر إلى جُدُرَاتِ المدينة، أوضع ناقته (أي أسرعها)، وإن كان على دابة حركها من حبها» (رواه البخاري)، يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: «في الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه»، ومر نبينا - صلى الله عليه وسلم - على جبل أحد فقال: «هذه طابة وهذا أحد وهو جبل يحبنا ونحبه» رواه البخاري ومسلم.وثيقة المدينة
ومما يؤكد معاني المواطنة تلك الوثيقة التي وضعها رسول - صلى الله عليه وسلم - بما تعرف بوثيقة المدينة، التي جلت معاني المواطنة؛ فالنبي -صلى لله عليه وسلم- لما قدم المدينة كان فيها المسلمون (المهاجرون والانصار) والمشركون واليهود الذين كانوا حلفاء للأوس والخزرج (الأنصار)، وهذه الوثيقة أو الصحيفة التي كتبها النبي - صلى الله عليه وسلم - حددت الحقوق والواجبات لكل من سكن مدينة من الأصناف السابقة، ووادع فيها اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم، وأصرح من ذلك كله أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، جعل لغير المسلمين الذين يعيشون في بلاد المسلمين وهم أهل الذمة باصطلاح الشرع، جعل لهم حرمة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا من ظلم مُعَاهِدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» (رواه أبو داود بإسناد وحسن).معاني المواطنة الحقيقية
وهذه معاني المواطنة الحقيقية: رفع الظلم عمن يعيش في البلد، وعدم انتقاص الحقوق وعدم تكليفهم بما لا يطيقون ولا يسلبون شيئاً، وهذه كلها حرمها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق المعاهد، وهو من دخل في دولة الإسلام بعهد وأمان؛ فكيف بمن يعيش مع المسلمين في بلدهم أصلاً. وجاء عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا» (رواه البخاري).جـ- الوطن والمواطنة في التراث الاسلامي
مما يؤكد المعنى العملي للمواطنة ما جاء في عمل الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان، فإن الناظر إلى أقوال وأفعال الصحابة -رضوان الله عليهم- يرى معنى المواطنة جليا، فهم انتسبوا إلى بلدان مختلفة، واعتبروها؛ فهذا مكي، وهذا مدني، وهذا شامي وهذا عراقي وهذا نجده مستخدما في تعاملاتهم ومستعملا في أقوالهم ومن استعمالاتهم المشهورة قولهم: يهود خيبر؛ فنسبوا الناس إلى بلدهم، إلى مكان وجودهم.الصحابة ومعرفة حق المواطنة
ونجد أن الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- عاملوا أهل الأرض بما يستحقونه من مواطنة؛ فلم يعاملوا الكافر الذمي كمعاملة الحربي؛ وما ذاك إلا لكونه ممن يعيش في أرض الإسلام، فاعتبروا العيش سببا في مغايرة الحكم، فالصحابة والتابعون كانوا يعرفون حق المواطنة ويعطوها لكل أحد من قاطني دار الإسلام، ولو كان على غير دينهم، وهذا التاريخ يشهد بأن اليهود والنصارى عاشوا في الخلافة الراشدة وما بعدها في دولة المسلمين بمواطنة لهم مالهم، وعليهم ما عليهم من الحقوق والواجبات وذمتهم معقودة بوجودهم في بلاد السلمين، ما جاء عن عبدالله بن سلام - رضي الله عنه - أنه قال لسعيد بن أبي بردة: «يا ابن أخي، إنك في أرض الربا فيها كثير غامض؛ فإذا أسلفت رجلاً من أصل الذمة ورقاً إلى أجل، فأتاك بها وأتاك معها بحمل من قت أو علف فلا تمسها، فإن ذلك من أعظم أبواب الربا» (رواه الطحاوي في مشكل الآثار)، لقد كانوا يتبايعون ويشترون مع مواطنيهم ولو كانوا من غير أهل دينهم، ويأكلون مما يطبخون ما دامت ذبيحته حلالا، ويستطعمون ثمارهم، قال أبو جعفر: «لا بأس بثمار أهل الذمة».الانتماء الحقيقي للوطن
الانتماء الحقيقي للوطن يكونُ بِطاعة الله ورسوله المطْلقة، ونشر العلم فيه، ودفع الشبهات، والقيام بالنّصح، وبثّ الأخلاق الحميدة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والطاعة في المعروف، ونصرة المظلوم والضعيف؛ لينتشر -بذلك- الإيمان والأمن والأمان، ويكون قصد الجميع عبادةَ الله -تعالى- وحده وابتغاءَ مرضاته؛ فهكذا تحفظ الأوطان، وهكذا تُشْكَر نِعَمُ الله -تعالى-. يقول العلامة ابن العثيمين (فتاوى نور على الدّرب)، بعدمَا ذكر قوله -تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل:112): «فهذه النعم إذا شكرها العبد واستعان بها على طاعة الله -سبحانه وتعالى- وعرف بها نعمة ربه وآلائه ورحمته ازدادتْ بوعدِ الله -سبحانه وتعالى-، وإن كفرها فإنها تنتزع منه وتنتزع بركتها كما ذكرنا، ما يدل عليه من الآيات الثلاثة، وعلى هذا فإنه يُخشى إذا زالتْ هذه النعم بعد الانغماس في الترف والتنعم بها، أن يكون لها أثر بالغ في المشقة والنكد والحزن والأسى! نسأل الله السلامة».
لاتوجد تعليقات