رئيس التحرير

سالم أحمد الناشي
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان 16 مايو، 2023 0 تعليق

حرمة البناء على القبور واتخاذها مساجد

 

إن شريعة الإسلام جاءت بالتوحيد الخالص من شوائب الشرك، وسدت كل ذريعة ووسيلة تفضي إليه، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل العلم من أهل السنة والجماعة، ومن الذرائع المفضية إلى الشرك البناء على القبور واتخاذها مساجد، فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أنه قال: «نَهَى رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عليه، وَأَنْ يُبْنَى عليه»، من هذا الحديث نجد أنَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان أكثر النَّاسِ حِرصًا عَلى إِزالةِ آثارِ الجاهليَّةِ، مِثل البِناءِ عَلى القُبورِ ورَفعِها؛ لِمَا فِيها مِن إِضاعةِ المالِ والتَّفاخُرِ، وغيرِ ذلكَ مِمَّا لا يَليقُ بالدَّارِ الآخرَةِ، وَلا يُناسِبُ حالَ الموتِ والبِلى، وكَذلك كانَ حَريصًا عَلى إِرشادِ المُسلمينَ لِمَا فيهِ إظهارُ تَكريمِ بَعضِهم لبَعضٍ في المَحيا وبعْدَ المَماتِ.

     في هذا الحديثِ يُخبِرُ جابرُ بنُ عبداللهِ -رَضِي اللهُ عنهما- أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهى أنْ «يُجصَّصَ القَبرُ»، وَفي رِوايةٍ لمُسلمٍ: «نُهِيَ عَن تَقصيصِ القُبورِ»، وَهوَ بِناؤُه بالقُصَّةِ، وَهي الجَصُّ والجِبسُ، وطِلاؤها؛ لِما في ذلك مِن تَعظيمٍ وغُلوٍّ، وَنَهى - صلى الله عليه وسلم - «أنْ يُقعَدَ عليهِ»، والمُرادُ مِن القُعودِ الجُلوسُ، وَقدْ نَهَى عنهُ؛ لِمَا فيهِ مِن الِاستِخفافِ بحقِّ أَخيهِ المُسلمِ؛ ففي حَديثِ مُسلمٍ عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لأَنْ يَجْلِسَ أحَدُكُم على جَمْرةٍ فتُحْرِقَ ثِيابَهُ، فتَخْلُصَ إلى جِلْدِهِ؛ خَيرٌ له مِن أنْ يَجْلِسَ على قَبْرٍ!» وَهذا تَحذيرٌ شَديدٌ، ونَهيٌ أَكيدٌ عنِ الجُلوسِ عَلى القَبرِ. وَنهى «أنْ يُبنَى عليهِ» يَحتمِلُ أنَّ المُرادَ البِناءُ عَلى القَبرِ نَفسِه ليَرتفِعَ، أوِ المرادُ البِناءُ حوْلَ القبرِ مِثلَ أنْ يُتَّخذَ حَوْلَه خِباءٌ أو مَسجدٌ ونَحوُ ذلكَ، وكله مَنهيٌّ عنهُ؛ لأنَّه مِن صَنيعِ أَهلِ الجاهليَّةِ، ولأنَّه إضاعةٌ للمالِ، فالنَّهيُ الواردُ في الحديثِ يَشتمِلُ على نَوعينِ: الإفراطِ، والتَّفريطِ فيما يَتعلَّقُ بالقبورِ، فلا يُمتهَنُ الأمواتُ؛ بحيث يُداسُ ويُجلَسُ على قُبورِهم، ولا يَغْلو النَّاسُ فيهم بأنْ يكونَ هناك بُنيانٌ وتَعظيمٌ يَترتَّبُ عليه مَحاذيرُ ومَفاسِدُ.

أدلة تحريم البناء على القبور

ورَدَ في هذا البابِ نصوصٌ نبويَّةٌ كثيرةٌ، يمكن إجمالُها في الآتي:

أولًا: النَّهيُ عن البناءِ على القبر

     عن جابر -رضي الله عنهُما- قال: «نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُجصَّصَ القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه» وفي حديثُ أبي سعيد - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ. وعن ناعم مولى أمِّ سلمة، عن أمِّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُبنى على القبر، أو يُجصَّص»، فهذه الأحاديثُ صريحةٌ في النهي عن البِنَاء على القبور عمومًا، والأصلُ في النَّهي التحريم، ولا صارفَ عن التَّحريم لهذه الأحاديث، ويؤكِّدُ ذلك ما سوفَ يأتي من أدلة تعضد هذا النَّهي العام، ومن وقف على هذا النَّهي من النبي - صلى الله عليه وسلم - يجبُ أن ينتهيَ إليه، فإننا مأمورون بالسَّمع والطاعة للنبي - صلى الله عليه وسلم .

ثانيًا: الأمر بتسوية القبور المشرفة

     عن أبي الهيَّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ألا أبعثُك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ «ألا تدَعَ تمثالًا إلا طَمستَه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته»، وعن ثمامة بن شفي قال: كنَّا مع فضالة بن عبيد بأرضِ الرُّوم بِرُودس، فتوفي صاحبٌ لنا، فأمَرَ فضالة بن عبيد بقبرِهِ فسُوِّي، ثم قالَ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يأمر بتسويتها، ورواه أحمد بلفظ: «سوُّوا قبوركم بالأرض»، وفي الحديثين: أمرٌ صريحٌ بتسوية القبور، والأمر بتسوية القبور المشرفة يقتضي تحريمَ البِناء؛ لأنَّه بذلك يكون مشرفًا، يقولُ الشَّوكاني: «فيه أن السنة: أن القبر لا يرفع رفعًا كثيرًا من غير فرقٍ بين من كان فاضلًا ومن كان غير فاضل، والظَّاهر: أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه مُحرَّم».

ثالثًا: النَّهي عن اتِّخاذ القُبور مساجِد

     وفي ذلك: حديث جندب - رضي لله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قبل أن يموتَ بخمسٍ، وهو يقول: «إنّي أبرأ إلَى الله أن يكونَ لي منكُم خَليل، فإنَّ الله -تعالى- قد اتَّخذَني خليلًا، كما اتَّخذ إبراهيم خليلًا، ولو كُنت متَّخذًا من أمَّتي خليلًا لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ألا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فَلا تتَّخذُوا القبور مساجدَ، إنِّي أنهاكُم عن ذلك».

رابعًا: لعن مَن اتَّخذ القبر مسجدًا

     عن عائشة -رضي الله عنها-، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قالَ في مرضه الذي ماتَ فيه: «لعنَ اللهُ اليهود والنَّصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مسجدًا»، قالت: ولولا ذلك لأبرزُوا قبرَهُ، غيرَ أني أخشى أن يُتخذ مسجدًا، وعن عائشة وعبدالله بن عباس -رضي اللهُ عنهم- قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طفقَ يطرحُ خميصةً لهُ على وجهِهِ، فإذا اغتمَّ بها كشَفَها عن وجهه، فقالَ وهو كذلك: «لعنَةُ الله على اليهودِ والنَّصارى؛ اتَّخذُوا قبورَ أنبيائهم مساجد»؛ يحذِّر ما صنعُوا، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لعنَ الله اليَهودَ والنَّصارى؛ اتَّخذُوا قُبورَ أنبيائِهِم مساجِد»، وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أدخِل عليَّ أصحَابي»، فدخلُوا عليه فَكَشَفَ القِناع، ثمَّ قال: «لعنَ الله اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجد»، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا، لعنَ الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وعن عائشة -رضيَ اللهُ عنها-، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «لعن الله قومًا اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجِد».

     ولعنُ اليهودِ والنَّصارى في هذهِ الأحاديث، مرتبطٌ بفِعلهم هذا، ألَا وهو اتِّخاذُ القبورِ مساجد، ولعنُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لهُم دليلٌ على النَّهي عن ذلك الفعل، وأنَّه محرَّمٌ حرمةً شديدَة، وهذا الذي فهِمَهُ الصحابة الكرام من هذه النصوص؛ ولذلكَ تقول عائشة -رضي الله عنها-: «ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أني أخشى أن يُتخذ مسجدا». فهذا فهمُ الصحابة كلِّهم لهذه الأحاديث، وأنَّها جاءت للنَّهي عن إبراز القبر؛ سواء برفعٍ غير مشروع، أو ببناء عليه، أو بوضعِ قبّة، أو ببناءِ مسجد.

خامسًا: التَّحذيرُ منِ اتِّخاذ القُبور مساجد

      عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وعن عائشة أم المؤمنين، أنَّ أم حبيبة وأم سلمة -رضي الله عنهن- ذكرَتَا كنيسةً رأينَهَا بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتَا للنَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «إنَّ أولئك إذا كانَ فيهم الرجل الصَّالح فمات بنوا على قبرِهِ مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور، فأولئك شرارُ الخلق عندَ الله يومَ القيامة»، وعن أبي عبيدة - رضي الله عنه - قال: آخر ما تكلَّم به النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أخرجُوا يهودَ أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرةِ العرب، واعلموا أنَّ شرارَ النَّاس الذين اتَّخذُوا قبورَ أنبيائهم مساجِد»، وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِن شرارِ النَّاس مَن تدركُه السَّاعة وهم أحياء، ومن يتَّخِذ القبور مساجدَ».

سادسًا: فعل الصحابة والأئمة من بعدهم

      بعدَ هذه الأحاديث الدالة على تحريم البناء على القبور، نرى كيف كان الصحابة والأئمة من بعدِهم يتعاملُون مع هذه النُّصوص، هل مثل ما يرى أصحاب الأضرحة أنَّهم في مجملهم يُجوِّزُون البناءَ على القبور، أم أنَّهم على ما قرَّره ابن تيمية والشَّيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- من أنَّهم كانوا يرَونَ تحريمَ البناءِ على القبر؟

للإجابة عن هذا السؤال دونك جملةً ممَّا ورد عن الصَّحابة في ذلك:

     عن ثمامة بن شفي قال: كنَّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم بِرودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي، ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويته، ورواه أحمد بلفظ: «سوُّوا قبوركم بالأرض».

     وعن أبي بردة قال: أوصَى أبُو موسى الأشعري حينَ حضَرهُ الموت، فقال: إذا انطلقتُم بجنازتي فأسرعوا المشي، ولا يتبعني مجمر، ولا تجعلُوا في لحدي شيئًا يحولُ بيني وبين التُّراب، ولا تجعلوا على قبري بناء، وأُشهِدكم أنِّي بريءٌ من كل حالقة أو سالقة أو خارقة. قالوا: أوَسمعت فيه شيئًا؟ قال: نعم، من رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

     وعن عبدالرحمن بن مهران، أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قالَ حينَ حضرَهُ الموت: لا تضربوا عليَّ فسطاطًا، ولا تتبعوني بمجمر، وأسرِعوا بي، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «إذا وضع الرجل الصالح على سريره، قال: قدِّموني قدِّموني، وإذا وضع الرجل السوء على سريره، قال: يا ويله، أين تذهبون بي؟!، ورأى ابن عمر -رضي الله عنهما- فسطاطًا على قبر عبدالرحمن، فقال: انزعه يا غلام، فإنما يظلُّه عمله، وعن عبدالله بن شرحبيل، أن عثمان - رضي الله عنه - خَرَجَ فأمر بتسوية القبور، فسُوِّيَت إلا قبر أم عمرو وأبيه عثمان، فقال: ما هذا القبر؟ فقالوا: قبر أم عمرو، فأَمَر به فسُوِّي.

     فانظر كيفَ توارد الصَّحابة الكرام على الأمرِ بالتَّسوية والنهي عن البناء ورفع القبر، وعن ضربِ الفساطيط، وهؤلاءِ الصحابة، هم من أخذُوا العلم عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهُم من طبَّقوهُ أحسنَ تطبيق، وإن أردنا أن نَبحَثَ عن كلامِ العُلماء في تحقيق مسألةٍ ما، فَهُم أولى الناس بالبحثِ عن أقوالهم وأفعالهم، وقد رأيت كيف أنَّهم كان دأبهم هو النهي عن البناءِ على قبورهم.

سابعًا: أقوال أهل العلم في البناء على القبور

     أمَّا من جاءَ بعدهُم من الأئمة، فإنَّهم ساروا على طريقتهم، وانتهجوا نهجهم، وعلى هذا، كانَ علماء المسلمين من أصحابِ المذاهب الأربعة ومن تبعهُم.

قول الأحناف

     قال محمد بن الحسن الشيباني -صاحب أبي حنيفة-: «ولا نرى أن يُزاد على ما خرَجَ منه»، وإذا كان لا يرى الزيادة على ما خرجَ منَ القبر، فالبناءُ من بابِ أولى، وقالَ الكاساني: «وكرهَ أبو حنيفة البناءَ على القبر»، وقال ابن عابدين -بعد أن أورد كلام الكاساني في كراهيةِ البناء-: «كذا في البدائع -أي: قول الكاساني- وظاهرُه أن الكراهة تحريميَّة، وهو مقتضى النهي المذكور»، وقال محمد البركوي: «وقد صرَّح عامة الطوائف، بالنَّهي عن بناء المساجد عليها والصلاة إليها؛ متابعةً منهم للسُّنة الصحيحة الصريحة، ونصَّ أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفةٌ وإن أطلقتِ الكراهة لكن ينبغي أن تُحمل على كراهة التحريم؛ إحسانًا للظنِّ بالعلماء، وألا يُظن بهم أن يُجوِّزوا فعلَ ما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنُ فاعله والنهي عنه»، فهؤلاء كلُّهم من علماء الحنفية، يصُرِّحون بحُرمة البناء على القبور، بل قد صرَّحوا بأنه من أعظم الوسائِل المفضية إلى الشِّرك.

قول المالكية

     فقد قالَ ابن عبدالبر: «ولا تُجصَّص ولا يبنى عليها»، وقال القرطبي: «فاتخاذُ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك ممَّا تضمنته السنة من النَّهي عنه، ممنوع لا يجوز»، ثم قال -بعد أن أورد أحاديث النَّهي عن البناء-: «وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي ينبغي أن يقال: هو حرَام»، وقال ابن الحاج -بعدَ أن حذَّر من الكتابة والنقش على قبر الميت-: «مع كون البناء على القبر ممنوعًا»، وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: «والتحقيق الذي لا شكَّ فيه أنه لا يجوز البناء على القبور ولا تجصيصها».

قول الشافعية

     قالَ الشافعي -رحمه الله-: «وأحبُّ ألا يزاد في القبر ترابٌ من غيره، وليس بأن يكون فيه تراب من غيره بأس إذا زيد فيه ترابٌ من غيره ارتفع جدًّا، وإنما أحبّ أن يشخص على وجه الأرض شبرًا أو نحوه، وأحبّ ألا يبنى، ولا يجصص؛ فإن ذلك يشبه الزينة والخيلاء، وليس الموت موضعَ واحدٍ منهما، ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصَّصة»، ومما يبين مرادَه بالكراهة هنا، ما أورده في نصِّه الآخر؛ إذ قال: «وأكرهُ أن يبنى على القبر مسجد، وأن يسوَّى، أو يصلَّى عليه وهو غير مسوّى، أو يصلّى إليه، وإن صلَّى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «قاتل اللهُ اليهود والنَّصارى؛ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد، لا يبقى دينانِ بأرض العرب».

قول الحنابلة

     قال منصور البهوتي: «ويكره تجصيصه» وتزويقه وتحليته وهو بدعة؛ لقول جابر: «نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه» (رواه مسلم)، قال عبدالرحمن بن قاسم: «والمرادُ كراهةُ التحريم، وهو مراد إطلاق أحمد -رحمه الله- الكراهة في البناء عليه؛ لما تقدم من نهي النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، والأمر بهدمه، ولأنَّه من الغلو في القبور الذي يصيِّرها أوثانًا تُعبد كما هو الواقع، وقد لعنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المتَّخذين عليها المساجد والسُّرج، وأخبر أنَّ من بنى على قبور الصالحين فهو من شرارِ الخلق عند الله، ومن ظنَّ أن الأصحاب أرادوا كراهة التنزيه دونَ التحريم فقد أبعد النجعة».

فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء

قالت اللجنة الدائمة للإفتاء: «الطواف بالقبور، وتظليلها فبدعةٌ يَحرمُ فعلها، ووسيلةٌ عُظمى لعبادة أهلها من دون الله».

فتوى الشيخ

 محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله

     وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: «قول المؤلف -رحمه الله-: «يكرهُ البناء على القبر» إن أراد بالكراهة كراهة التحريم فهذا حقّ، وإن أرادَ بذلك كراهة التنزيه فهذا ضعيف، والصواب أن البناء على القبور حرامٌ ولا يجوز»، وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي: «قال المصنف -رحمه الله-: «والبناء عليه» أي: أنَّ البناء على القبر محرَّم؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن البناء على القبور. وقد أجمعَ العلماء والفقهاء -رحمهم الله على اختلاف مذاهبهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظَّاهرية- على تحريم البناء على القبور، وأن هذا الفعل من كبائرِ الذنوب، وأنه لا يترك البناء على القبر؛ لما فيه من فتنةِ الحي وصرفه إلى تعظيم المقبور، وهذا كما هو محل إجماعٍ بين العلماء -رحمة الله عليهم- فالنَّصُّ أيضًا ثابتٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بتحريم البناء على القبر».

فتاوى كبار علماء الأزهر

     وهؤلاء كبار علماء الأزهر ينكرون هذه المنكرات، وسنكتفي هنا بنقل خمس فتاوى لهم، وكل من سننقل عنه إما كان شيخًا للأزهر، أو مفتيًا للديار المصرية، أو وزيرًا للأوقاف:

فتوى الشيخ:

محمد عبده -رحمه الله

     قال فضيلة الشيخ: محمد عبده (مفتي الديار المصرية) (المتوفى: 1905م) وقد سئل بتاريخ: (28 ذي الحجة 1319هـ) سؤالاً جاء فيه: ضريح قديم عليه قُبة في شارع مطروق ليلاً ونهارًا، معرضة للبول والأقذار، وبجوار هذا الضريح مسجد منسوب لصاحبه، وفي هذا المسجد باب لذلك الضريح، فهل يجوز هدم القبة ونقل الضريح إلى داخل المسجد أو يبقى في محله؟ فأجاب - رحمه الله -: «المروي عن الإمام أبي حنيفة أن بناء بيت أو قبة على القبر مكروه (حاشية ابن عابدين 2/ 238)، وهو يدل على لا بأس بهدم القُبة المذكورة، بل إنَّه الأَوْلَى، فإذا كانت تجتمع حولها القاذورات واعترضت في الطريق تأكدت الأولوية، أما موضع القبة وهو الضريح فيسوى بأرض الشارع؛ لأنه لو فُرض أنَّ تحته ميتًا مدفونًا فقد بلي، فيجوز استعمال أرضه في غير الدَّفن. والله أعلم» (فتاوى دار الإفتاء المصرية (5 / 190)).

فتوى الشيخ

 عبدالرحمن قراعة -رحمه الله

     قال فضيلة الشيخ عبدالرحمن قراعة (مفتي الديار المصرية) (المتوفى: 1358 هـ 1939 م) في كتابه: أحكام النذور (37): «... وصحيح أنك إذا سألت أحد هؤلاء الضالين إن كان يعتقد ألوهية من يقدم القربان إليه استعاذ بالله، واستنكر نسبة الكفر إليه، ولكن أذلك نافعهم بشيء؟!

     ما أشبه ما يقدمون من قربان وما ينذرون من نذور وما يعتقدون في الأضرحة وساكنيها بما كان يصنع المشركون في الجاهلية! وما يغني عنهم نفي الشرك عنهم بألسنتهم وأفعالهم تنبئ عما يعتقدون من أن هؤلاء الأولياء لهم نافعون ولأعدائهم ضارون».

فتوى الشيخ

 عبدالمجيد سليم -رحمه الله

     قال فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، الشيخ: عبدالمجيد سليم -رحمه الله- (المتوفى: 1374هـ 1954م): وقد سئل سؤالاً من وزارة الأوقاف وكان آنذاك مفتي الديار المصرية بتاريخ: جمادى الأولى 1359 هجرية - 22 من يونيه 1940 م: يوجد بوسط مسجد عز الدِّين أيبك قبران، وَرَدَ ذكرهما في الخطط التوفيقية، وتقام الشعائر أمامهما وخلفهما، وقد طلب رئيس خَدَم هذا المسجد دفنه في أحد هذين القبرين؛ لأن جدة الذي حدَّد بناء المسجد مدفون بأحدهما، فنرجو التفضل ببيان الحكم الشرعي في ذلك.

فأجاب - رحمه الله تعالى-: «نفيد أنه قد أفتى شيخ الإسلام ابن تيميَّة بأنه: لا يجوز أن يُدْفَن في المسجد ميت، لا صغير، ولا كبير، ولا جليل، ولا غيره؛ فإن المساجد لا يجوز تشبيهها بالمقابر (الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيميَّة 2/ 85) ...».

فتوى الشيخ:

محمود شلتوت -رحمه الله

     قال الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله- شيخ الجامع الأزهر المتوفي 1963م: « كان مِن أحكام الإسلام فيما يختص بأماكن العبادة تطهيرها من هذه المشاهد: {وعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة:125)، {وَإذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (الحج:26)، {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ ولَمْ يَخْشَ إلاَّ اللَّهَ} (التوبة:18)، {وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن:18).

     وقال: تسرب الشرك إلى العبادة: وما زَلّ العقل الإنساني وخرج عن فطرة التوحيد الخالص - فعبد غير الله، أو أشرك معه غيره في العبادة والتقديس - إلَّا عن طريق هذه المشاهِد التي اعتقد أنَّ لأربابها والثاوين فيها صلة خاصة بالله، بها يُقرِّبون إليه، وبها يشفعون عنده؛ فعظَّمها واتجه إليها واستغاث بها، وأخيرًا طافَ وتَعلَّق، وفعل بين يديها كل ما يفعله أمام الله مِن عبادة وتقديس.

وقال: لا تتخذوا القبور مساجد: والإسلام مِن قواعده الإصلاحية أن يسد بين أهله ذرائع الفساد...».

 

 

فتوى الشيخ: عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله

     قال الشيخ عبدالعزيز ابن باز -رحمه الله-: البدعُ في الدِّين تُضعف الإيمان، ولا تكون ردَّة ما لم يُوجد فيها شرك، ومن أمثلة ذلك: بدعة البناء على القبور، كأن يَبنيَ على القبر مسجداً أو قبَّة، فهذه بدعةٌ تقدحُ في الدِّين وتُضعفُ الإيمان، لكن إذا بناها وهو لا يَعتقدُ جواز الكفر بالله، ولم يقترن بذلك دعاء الميِّتين، والاستغاثة بهم، والنذر لهم، بل ظنَّ أنه بفعله هذا يحترمهم ويُقدِّرهم، فهذا العمل حينئذ ليس كفراً، بل بدعة قادحة في الدِّين تُضعف الإيمان وتُنقصه، ووسيلة إلى الشرك.

 

فتوى الشيخ: أحمد حسن الباقوري -رحمه الله

     قال فضيلة الشيخ: أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف (المتوفى 1405هـ -1985م) عندما وجهت له بعض الهيئات الدينية في الهند هذا السؤال: هل من الجائز شرعًا تزيين القبور، وإقامة الأضرحة عليها؟ ...

     قال: «هذا العمل ضرب من الوثنية، وعبادة الأشخاص، وقد منعه الإسلام، ونهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحث على تركه...».

 

لاتوجد تعليقات

أضف تعليقك