
حجج ووثائق وقفية مختارة من أوقاف الآل والأصحاب
- من أهم النصوص الصحيحة من وقفيّات الصحابة التي وصلت إلينا نصُّ وقفيّة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - وقد نص بعض العلماء أنها من إملاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإرشاده
- كانت أوقافُ الصحابةِ الدليل الماثل والشاهد المحسوس على مشروعيّة الوقف وما دُوِّنَ منها في وثائقَ صار مادَّةً وأساساً لِما هو أبعد من ذلك من التفاصيل والأحكام والتعليلات الفقهيّة
من سيرةِ الآل والأصحاب رضوان الله عليهم في البذل للوقَفْ، اختيار أجود المال وأنفسِه وأحبّه إليهم، فكانوا إذا أحبُّوا شيئًا جعلوه لله سبحانه وتعالى، وحرصوا على ديمومتِه واستمرار نفعه برعايته في حياتهم، والعمل على حُسْنِ إدارتِه من بعدهم؛ باختيار النُّظَّار لأوقافهم، ومنهم: عمر وعلي -رضي الله عنهما-، فقد كانا ناظرَيْن لوقْفَيْهِما، أما عمر - رضي الله عنه - فولّى ابنتَه النظارة على وقفه حين تولّى الخلافة، وأما عليٌّ فقد تولّى وَقْفَه حتى وفاته، وقد سبق ذكر ذلك عنهما -رضي الله عنهما-، وكانت نصوص وقفياتهم تدل على ذلك.
ومن أهم النصوص الصحيحة من وقفيّات الصحابة- التي وصلت إلينا نصُّ وقفيّة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وقد نص بعض العلماء أنها من إملاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإرشاده، وهذا نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أوصى به عبد الله: عمر بن الخطاب -أمير المؤمنين-؛ إن حدث به حدث: أن ثَمْغًا وصِرْمَةَ بن الأكوع والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه محمد - صلى الله عليه وسلم - بالوادي: تليه حفصة ما عاشت، ثم ذو الرأي من أهلها، ولا يباع، ولا يشترى، ينفقه حيث رأى؛ من السائل والمحروم وذوي القربى، ولا حرج على من وليه إن أكل أو آكل، أو اشترى رقيقاً منه»، وفي أوّل الرواية أنّه جاء فيها: «وكتب معيقب، وشهد عبد الله بن الأرقم».
وتُعَدُّ هذه الوثيقة، مع بعض الزيادات التي رُويت على نصّها في المصادر المسنَدة، من أشهر الوثائق التي تثبت مشروعيّة الوقف ووقوعَه في زمن النبيّ -صلى الله عليه وسلم -، وقد درسها بعض المعاصرين دراسة مفصّلةً، فيُكتفى بالإحالة عليه.
نص وقفية صدقة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على ابنه أبان
«بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما تصدق به عثمان في حياته: تصدق بماله الذي بخيبر، يدعى: (مال ابن أبي الحقيق)، على ابنه أبان بن عثمان صدقة، بَتْلَةً، لا يشترى أصله أبداً، ولا يوهب، ولا يورث شهد علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد»، وروى الخصّاف: أنّ عثمان تصدّق من أمواله على صدقة عمر بن الخطاب، وكان النّاظر لأوقاف عثمان - رضي الله عنه - ابنُه أبان بن عثمان، وواضحٌ، أنّ هذه الشّذرة المختصرة المتمثّلة في هذا النّصّ، لا تحتوي على تفاصيل كثيرة منطوقة، إلّا أنّها تكتنز معنىً مكثّفاً بالإحالةِ على وقفيّة عمر - رضي الله عنه -.
والذي يظهرُ أنّ الإحالةَ على وقفيّة عمر - رضي الله عنه - لا يُرادُ بها المطابقة من كلّ وجه، إذ ينصّ عثمان - رضي الله عنه - هنا على أنّه قد وقفَ مالَه على ابنِه، فتكون الإحالةُ على الأرجح، في الجهةِ التي وقفَ عليها عمرُ ليُصرفَ إليها الوقْفُ بعد وفاةِ الولد.
يحتوي هذا النّصُّ أيضًا على التوكيد والقَطْع بالوقْف، في قوله: «لا يُشترى أصله أبداً، ولا يوهب، ولا يورث»، كما يحتوي على ذكر الشهود، وهم اثنان؛ أما نظارة هذا الوقف، فقد وصلَ إلينا الخبر عن الواقع، وهو أنّ الذي تولّاه هو الموقوف عليه أبان بن عثمان، وهذا طبيعيٌّ لأنّه هو الوحيدُ الذي ذُكر بوصف الموقوف عليه.
نصُّ وقفيّة عمرو بن العاص - رضي الله عنه -
«وصيّة عمرو بن العاص: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قضى عمرو بن العاص في الوَهْط، قضى أنّه صدقةٌ في سبيل الصّدقةِ التي أمر الله بها، على سُنَّةِ صدقاتِ المسلمين، وتصدَّق بها ابتغاء وجه الله والدّار الآخرة، لا يباع ولا يوهب ولا يورث، حتى يرثه الله قائمًا على أصوله، ولا يرثه، ولا يجوز لأحد من الناس تغيير شيء من الذي قضيتُ فيه وعهدتُ، وأحرّمه بما حرّم الله أموالَ المسلمين وأنفسَهم وصدقاتِهم، ولا يُباع، ولا يورث، ولا يُهْلَك، ولا يغيَّر قضائي الذي قضيتُ فيه وتركتُه عليه، ولا يحلّ لمسلمٍ يعبد الله تبديلَ شيء منه، ولا تغييرَه عن عهدِه والذي جعلتُه له، وهو إلى وليٍّ من آل عمرو بن العاص، ووليُّه منهم المصلح غير المفسد، والمتَّبِعُ فيه قضائي وعهدي، فمن أراد أنْ ينقصه أو يغيّر شيئًا منه فهو السّفيهُ المُبْطِلُ الذي لا قضاءَ له في صدقتِي ولا أمر، ولم أكتب كتابي هذا إلا خشية أنْ يلحق فيه سفيه... بقرابة، لا يعلم شأنَ صدقتي، والذي تركتُها عليه وعهِدْتُ فيها، فيحدّث نفسه بما لا يحلّ له ولا يجوز، لقِلَّةِ علمِه وسَفَهِ رأيِه، فليس لأحد من أولئك في صدقتي حقّ ولا أمر، وأحرّج بالله على كلّ مسلم يعبد الله من ذي قرابة أو غيره، وإمامٍ ولّاه الله أمر المسلمين أنْ يغيّر صدقتي عن ما وصيت فيها أو قضيتُ وتركتها عليه.
طلحة بن عبيد الله، ومعبد بن معمر، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو جهم بن حذيفة، والحارث بن الحكم، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن مطيع، وجبير بن الحويرث، وأبو سفيان بن ماهد، ونافع بن طريف، وكُتب لعشر ليالٍ خَلَوْنَ من المحرّم من سنةِ تسعٍ وعشرين»، وهذه الوصية عن عمرو بن العاص، لم أقف عليها إلا عند عبد الرزّاق، وقد أوردها ضمن وصايا بعض الصحابة بغير إسناد، لذا فإنّني سأكتفي بإيراد نصّها لغرض الاستئناس، عسى أن ييسّر الله إفرادَ وقْف عمرو بن العاص - رضي الله عنه - بدراسة، أو ما شابه ذلك.
إنّ هذه النّماذج من أَوْفَى ما وَقَفْنَا عليه من وقفيّات الصحابةِ، ممّا يحوي جُلَّ العناصرِ التي من المرغوبِ والمستحبِّ أن تحتوي عليها الوقفيّة، وهي نماذجُ متشابهةٌ موزَّعةٌ بين الآل والأصحابِ -رضي الله عنهم جميعاً-.
دور أوقاف الآل والأصحاب في تنامي الأوقاف في عصرهم وما بعده
إنَّ البُعْد التحفيزيّ في أوقاف كبار الآل والأصحابِ رضي الله تعالى عنهم، يكمُن في كونِهِم محلَّ الأسوةِ البشريّة لكلّ من هو دونَهم من الصحابة صغاراً وكباراً، ومن أدركَهم واعتنى بفقههم من التابعين فمن بعدَهم.
إنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنّه من يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلاًفا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسُنَّة الخلفاء المهديّين الراشدين، تمسّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنّواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة»، ونعلمُ أنّ الخلفاء المهديّين الراشدين من الصّحب والآلِ جميعًا، كما نعلمُ محلّ هذه الوصيّة النبويّة العظيم ومنزلتها في نفوس المسلمين، لا سيما في القرون الأولى، التي رسَتْ فيها مفاهيمُ الإسلام، وتكوَّنَتْ فيها تصوُّرات أجيال البُنَاةِ من المسلمين، من العلماء والسَّاسَةِ والمجاهدين.
فليس من الغريب إذن، أن يكون الوَقْف، بوصفه واحدًا من الأبوابِ التي اعتنى بها الخلفاء الراشدون وهم أكبر الصحابةِ قَدْرًا، وأمّهات المؤمنين بما لهنّ من القَدْرِ في نفوس المسلمين جميعاً، هو أحد الممارسات والأعمال الصالحةِ التي وَرِثَهَا المسلمون عن كبارهم وأئمّتهم الذين هم محلُّ الأسوةِ.
الدليلُ الماثلُ على مشروعيّة الوقف
وقد كانت أوقافُ الصحابةِ -رضي الله عنهم-، هي الدليلُ الماثلُ والشاهدُ المحسوسُ على مشروعيّة الوقف، وما دُوِّنَ منها في وثائقَ صار مادَّةً وأساساً لِما هو أبعد من ذلك من التفاصيل والأحكام والتعليلات الفقهيّة، وقد قدّمنا أنّ مالكًا - رضي الله عنه - لم يَحْتَجْ في ردّ قولِ شُريح بعدم مشروعيّة الوقف، إلا إلى أن يُشيرَ بيده إلى أوقافِ الصحابةِ المنتشرةِ في طولِ المدينةِ وعرضها، وكذلك وقع مع أبي يوسف صاحب أبي حنيفة.
قال ابن الشِّحْنة: «وكان أبو يوسف -رحمه الله- تعالى يقول أوّلًا بقول أبي حنيفة -رحمه الله- تعالى، لكنه لما حجّ مع هارون الرشيد ورأى أوقاف الصحابة بالمدينة ونواحيها، رجع وأفتى بلزوم الوقف، وقال: بَلَغَنِي حديثُ عمر...». وأمّا بئر رُوْمَةَ، فماؤُها باقٍ مُشاهدٌ إلى اليوم، أي: بعد أربعة عشر قرنًا من الزمن، تُلهم كلّ الراغبين في الخير، وتبحث عن المتشكّكين في فضل الوقف لتمثُلَ أمامَهم جواباً محسوساً لشكوكهم!
وبعضُ الأوقافِ قاربت عشرةَ قرونٍ، وربما جاوزت، فقد ذكر ابن العماد في وَفَيَات سنة (946هـ)، وأرّخ فيها لـ «شهاب الدّين، أحمد بن بركات بن الكيّال الدّمشقي الشافعيّ الفاضل، خطيب الصّابونيّة بعد أخيه، وناظر أوقاف سيّدي سعد بن عبادة - رضي الله عنه -!»، وابن العماد متوفّى في سنة (1089هـ)!
لاتوجد تعليقات